الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة ميتا- نقدية في كتاب -في نظرية الأدب: محتوى الشكل، مساهمة عربية-.

علاء عبد الهادي

2015 / 10 / 2
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


قراءة ميتا- نقدية في كتاب -في نظرية الأدب: محتوى الشكل، مساهمة عربية-.

علاء عبد الهادي
[email protected]

نبذة مختصرة عن الكاتب-ة و تلفون للاتصال ,لاستخدام الحوار المتمدن فقط
تم قبول معلوماتكم الشخصية من قبل الحوار المتمدن


"قراءة ميتا- نقدية"
في كتاب: "في نظرية الأدب: محتوى الشكل، مساهمة عربية"

د. علاء عبد الهادي

يصعب أن نغض الطرف عن سيطرة اتجاه سلفي نقدي أضحي مهيمنًا على مستوى النقد الأكاديمي، في العالم العربي بعامة، وهي سلفية تعلن عن نفسها بوضوح عبر عدائها لمناهج البحث المعاصرة؛ إما صدًّا من البداية، أو رفضًا للأصول المعرفية الغربية، وللأسس الفلسفية التي قامت عليها هذه النظريات. والكتاب الذي نتناوله هنا (في نظرية الأدب: محتوى الشكل، "مساهمة" عربية) للدكتور سيد البحراوي الصادر عن الهيئة العامة للكتاب 2008، ليس بعيدًا عن هذ القضايا، وعيًا وممارسة، بل إنه يثيرُ عددًا منها تصريحًا، ومناقشةً، وتضمينًا.
يتكون كتاب سيد البحراوي من قسمين؛ يشكل الأول(1) الإطار النظري للكتاب، ويقع في ثلاثة فصول، يتناول الأول أزمة المنهج، وما يسمى التبعية الذهنية في النقد الأدبي الحديث، ويطرح الثاني رؤية الكاتب حول ما أسماه "محتوى الشكل"، ويتوخى الفصل الثالث تقديم "منهج لتحليل النص الأدبي"، أما القسم الثاني(2) من الكتاب، ويشغل نصف الكتاب تقريبًا، فيضم دراسات تطبيقية، واحدة عن "سلطة الإيقاع"، وخمس أخريات عن "صلاح جاهين بين البلاغة والواقعية"، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و "يحيى الطاهر عبد الله كاتب القصة القصيرة"، و"باب" غسان كنفاني: الأسطورة، والدراما، والدلالة، و "لغة السلام شوبنج سنتر". وبالرغم من بعض الجماليات التحليلية التي يجدها القاريء في سياق هذه الدراسات الستّ، فإننا لا نكاد نعثر على مصطلح "محتوى الشكل" فيها، وهو محور الكتاب النظري وموضوعه، وهذا ما جعل الجانب التطبيقي في القسم الثاني من الكتاب يبدو منفصلاً عن الجانب النظري في أوله، فجاء التنظير دون دعم يوضح الإجراءات المنهجية، أو يشف عن الجهاز المفهومي أو المصطلحي للطرح. ويهتم مقالي هذا بمناقشة مجموعة من الأفكار الواردة في القسم الأول من الكتاب، والكتاب إجمالاً محاولة بحثية لابأس بها! تطرح رؤية خاصة حول نظرية الأدب، في إطار لا يخلو من اجتهاد، ولا يتوقف عن إثارة قضايا يدور من حولها الاختلاف، وهذا في حدّ ذاته سياق يستحق الالتفات إليه، أيًّا كانت نتيجته..
يشدُّ العنوانُ القاريءَ من المفتتح إلى منهج البحث، ذلك لأننا إذا ما تأملنا عنوانَ البحث سريعًا "في نظرية الأدب: محتوى الشكل، مساهمة عربية" لوجدناه مكونًا من ثلاثة مقاطع، الأول هو؛ "في نظرية الأدب" وحرفُ "في" هنا يفيد التبعيض، أي أن رؤية الكاتب هذه ستحَدِّدُ من المُدخل المشكلاتِ التي تود معالجتـَها، والمقطع الثاني هو "محتوى الشكل"، وهو فكرة الكتاب الأساسية، كما يظهر لنا بعد ذلك، وهو تعبير دال على أن الكاتب يرى شكولاً دون محتوى، وشكولاً أخر لها محتوى، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو علام نعول هنا في أي عمل فني نريد أن نتبين فيه ما يسميه سيد البحراوي "محتوى الشكل"، وذلك وسط مئات الاحتمالات الممكنة؛ أعلى قصدية الكاتب؟ أم على ما يطرحه النص؟ الذي يتعدد بتعدد قرائه، أم على أهلية المتلقي، وقدرته على الخروج بمحتوى؟ وهي قدرة تختلف من زمان ومكان، إلى زمان ومكان آخرين، ليس نسبة إلى تعدد المتلقين فحسب، بل نسبة إلى المتلقي الواحد أيضًا، أما المقطع الثالث في العنوان وهو عبارة "مساهمة عربية" فقد تنم عن أن هناك ارتباطًا بين هذا المؤلًَّف النظري، وجغرافيتِه وتاريخِه العربيين، كما تتغيا على نحو خاص تأكيد جنسية هذا الإسهام، وأن ما يقدمه الكتاب هنا من أفكار منسوبٌ إلى الثقافة العربية. ويعد هذا التأويل لعنوان الكتاب، وعتبته الأولى، بعامة، تأويلاً كاشفًا لاتجاهات الكاتب النقدية، ومنطلقاته الفكرية والعقدية التي سيجدها القاريء -إلى حدٍّ بعيد- بعد ذلك في سياق الكتاب..
وقد حددت مقدمة الكتاب توجهات المؤلف على المستوى المنهجي، وطريقتـَه في معالجة الأمور، وهي مقدمة تثير مجموعة من القضايا؛ بداية، يرى سيد البحراوي في مقدمة الكتاب أن هناك دولاً معينة استطاعت أن تطرح إسهاماتٍ سميت باسمها مثل النقد الأمريكي الجديد في الخمسينيات، أو البنيوية الفرنسية في الستينيات وما بعدها. وهو رأي يشي من المفتتح باقتراب الكاتب من الحركة النقدية من منظور سياسي، ولكن السؤال هنا؛ أكانت هذه الإسهاماتُ حقًّا إسهاماتٍ من دول أم إسهاماتٍ من أفراد نُسبت بعد ذلك إلى جنسياتهم! ربما ينمّ هذا الاقتباس، مع تأويلنا السالف للعنوان، عن أن فكرة التجنيس الثقافي كانت هاجسًا محلقًا فوق هذا الطرح!
وفي المقدمة، ذهبُ المؤلف إلى أن أيَّ إسهام في النظرية الأدبية لن يكونَ ذا قيمة إلا بتوافر شروط ثلاثة(3)؛ الشرط الأول هو وعي النقاد بواقعهم الأدبي وخصوصيته وعيًا حقيقيًا، وهو تعبير يثير بعض الأسئلة عن ذلك المعيار في العلوم الإنسانية الذي نستطيع أن نحدد به ما يسمى الوعي الحقيقي هذا، وذلك في ضوء اختلاف ما يسمى الحقيقة الإنسانية عن الحقيقة العلمية من جهة، وفي ظل نسبية الفهم، واختلاف القدرات التأويلية بين النقاد، وهي فعالية منهجية في أسها، من جهة أخرى. أما الشرط الثاني فيحدده سيد البحراوي بصفته "الإدراك العلمي الدقيق بالنقد الأدبي عبر التاريخ والجغرافيا، بحيث تتاح إمكانية الاستفادة من هذا النقد انطلاقًا من الندية الكاملة"، ولن أناقش كثيرًا مسألة الإدراك العلمي الدقيق هذه، لكن تعبير الندية الكاملة قد ينم عن رغبة في تجنيس ثقافي يتعامل مع العلوم الإنسانية من خلال منتِجـِها وليس من خلال منجزها، وما تُسهم به من حراك في تطور المعرفة الإنسانية بعامة. أما الشرط الثالث الذي يحدده المؤلف فهو تمتين الصلة بالمجتمع العلمي العالمي في ميدان النقد الأدبي والعلوم اللصيقة به، وبالطبع يقصد المؤلف هنا العلاقات العلمية الجمعية لا الشخصية، لذا يستدرك قائلاً وهذا الشرط يعتمد على نشاط الدارسين، وهذا ما يخرج عن قدرة أي باحث وإرادته، بل إنه من المحال تحقيقـَه، برغم أهميتِه، وهو شرطٌ ناقصٌ في بحث المؤلف نفسه، ذلك لأنه كما يقول "يحتاج إلى تعديل جذري في شروط البحث العلمي والحرية الفكرية في البلدان العربية". فقد تأخر الاهتمام بالبحث العلمي في واقعنا العربي على نحو عام، وهذا ما أثر على قوة العقل النظري العربي -لو صحت التسمية- أما النقد الأدبي فمشروطٌ ببيئته الثقافية والعلمية، أي أنه تابعٌ في الحقيقة أكثر من كونه رائدًا، وهو حقل يرتبط بتطور علوم أخر مثل علوم: النفس، واللغة، والإنثربولوجيا، والاجتماع، والفلسفة...إلخ. ذلك لأن حيوية هذه العلوم هي التي تخلق فعالية العمل النقدي في واقعه الإبداعي، وهي فعالية اجتماعية في مقامها الأول!
ويُنهي سيد البحراوي مقدمته قائلاً "الآن وقد تحققت مقولات المنهج الذي أسميتُه محتوى الشكل ودعاواه، وذلك بانفضاض نقادنا عن البنيوية، واستمرار لهاثِهِم حول المناهج الأحدث مثل النقد الثقافي، أو النقد النسوي، أو ما بعد الكولونيالية وغيرها، وجدت أنه قد أصبح ضروريًا جمع هذه الدراسات، والإضافة إليها، ووضعها في نسق متكامل، آملُ أن يكونَ قادرًا على فهم أزمتنا، وتجاوزها، وتقديم خصوصيتنا [!] عبر منهج علمي يضيف إلى النظرية النقدية"، على هذا النحو يلتزم الكاتب من خلال ماورد في المقطع السابق بثلاث مَهَمّاتٍ تقصّدَها من البداية في كتابه: المهمةُ الأولى هي فهم ما يسميه أزمة وتحديدُها، والمَهمَّة الثانية للكتاب هي إيضاحُ كيف نجاوز هذه الأزمة؟ هذا إذا اتفقنا على وجودها على النحو المطروح في سياق البحث، أما المَهمة الثالثة فهي كما يقول الكاتب تقديم خصوصيتنا عبر منهج علمي يضيف إلى النظرية النقدية، ربما نجح الكاتب في تحقيق المهمة الأولى في طرحه، لكنني لا أجد ما يشير إلى هذا النجاح في مهمتيه الثانية والثالثة.
وقد اهتم هذا الفصل بملاحظة ما أسماه الكاتب عمليات التبعية الذهنية، وآلياتِها ونتائِجِها. يقول سيد البحراوي "هكذا نعود إلى جذر الأزمة، فبينما نصل الآن إلى أن أزمة المنهج تؤدي إلى غياب القدرة على قراءة أسئلة الواقع، والعمل الفعال على طرح إجابات لها، فإننا نستطيع أن نعكس هذا المنطلق أيضًا ليكون غياب القدرة على قراءة أسئلة الواقع هو الجذر العميق لما يسميه أزمة المنهج" ونسألُ بدورنا، ماذا لو عكسنا على طريقة سيد البحرواي ثانيةً حدودَ القضية وقلنا إن المشكلة الحقيقة لا تكمن فيما يسميه سيد أزمة المنهج فحسب، ولكن تكمن أيضًا في منهج الأزمة أو في مناهجها! وماذا لو قلنا أيضًا إن المشكلة الحقيقة تكمن في حاملي هذه المناهج!
أما مفهوم محتوى الشكل فيحدد الكاتب قصده به بعد ذلك من خلال مجموعة من المعالجات المتفرقة في متن نصه النقدي يقول سيد البحراوي "يمثل النص الأدبي في منظور محتوى الشكل نظامًا إشاريًّا متحركًا، مركبًا دالاً، في هذا التعريف يحتل مصطلح "النظام" أهمية مركزية، فمحتوى الشكل هو "نسق من القيم الجمالية والاجتماعية بعدة معان، أولاً هو محتوى شكل النص[!]، وثانيًا "هو ما يمثل رؤية المبدع للعالم التي تتصل صراعيًا بالمثل الجمالي للجماعة، التي هي جزء من مجتمع أوسع"، ومحتوى الشكل هو "العنصر الحاكم في عمليتي التشكيل والتلقي"، وهو "محتوى العمل أو مضمونه"، ويقول "على هذا الأساس تصبح دراسة محتوى الشكل في الفنون وامتداداتها إلى الظواهر الحياتية (..) هي ميدان العمل الوحيد [!] أمام الناقد الفني حيث لا مهرب أمامه للحديث عن مضمون فكري خارج التشكيل"، ولكن هل يمكن حقًا أن نتكلم في عمل أدبي أو لوحة تشكيلية عن مضمون فكري خارج التشكيل، وهل يمكن فعلا أن نثق في مثل هذه النقود التي تتكلم عن المضمون بصرف النظر عن شكله! بل إن أضعف النقاد الممارسين للعمل النقدي سيتحاشى هذا السلوك النقدي من البداية. ويقول سيد "إن محتوى الشكل في العمل هو أساسً في داخل النص، غير أنه متصل اتصالاً وثيقًا بمختلف الأطراف المساهمة في العملية الأدبية أو الفنية (...) وهو متصل بالمجتمع الذي يقدم المواد الخام التي يمكن أن نسميها شكل الشكل"، لكننا لا نعرف يقينًا كيف نفصل هذه المواد الخام من النص، إلا افتراضًا، على أية حال لم يستخدم سيد مصطلح "شكل الشكل" في كتابه بعد ذلك، ولم يوظفه. وعلى الرغم من انتباه الناقد في طرح أفكاره إلى أطراف العملية الإبداعية الثلاثة: الإنتاج، والتلقي، والنص، فإن الطرح لم يناقش أولوية النظر إلى كل طرف منها، وذلك في ضوء أن معظم الاختلافات بين المدارس النقدية ترجع إلى تقدم طرف من هذه الأطراف على الطرفين الآخرين.
تثير هذه التحديدات مجموعة من الأسئلة أولها أهناك محتوى شكل واحد للعمل الواحد، كما يبدو من هذا التعريف؟ أم يتعدد هذا المحتوى بتعدد قرائه؟ وهذا ما لا نجده في الوعي النقدي الذي يرى أن النص له معنى أصح من بقية المعاني، وتثبت النظرية العلمية في أكثر من مجال من أن أي اتجاه إلى سياق تأويلي للنص يزيل اتجاهات أخرى ممكنة، يمكن النظر إليها بصفتها فاقد معنى، أو فاقد تأويلي، وهي نقطة جوهرية لم ينتبه إليها المفهوم، فهل هناك معنى واحد للنص، وبعض مما جاء حول معنى النص في الكتاب معاد مكرور، وقد كان مهمًّا أن يضبط الناقد من خلال رؤيته النظرية فعالياته التحليلية، وذلك لتكوين جهاز مفهومي، قادر على استثمار جوانب فكرته النظرية عن "محتوى الشكل"..
يربط سيد البحراوي مفهومه عن محتوى الشكل بمفهوم الرؤية ووجهة النظر أيضًا حين يقول: "ونحن حين نمسك يمحتوى شكل العمل الفني مدركين من خلاله رؤية الفنان، والأثر الجمالي الأعلى للمجتمع الذي يعيش فيه، نستطيع أن نمسك بدقة برقبة الصراع الجمالي الاجتماعي الدائر في المجتمع في تلك اللحظة بوصفه ظاهرة اجتماعية في ذاتها"(4). ربما يثير تناول محتوى الشكل ارتباطا بالمجتمع في تناول سيد البحراوي الارتباط بجهاز مفهومي قوي قدمته لنا البنيوية التكوينية للوسيان جولدمان (1913- 1970) متأثرا بجورج لوكاتش. فالتماسات كثيرة هنا مع مفهوم "رؤية العالم" لدى لوسيان جولدمان. وهي من مقولاته الأساسية التي اعتنى بها كثيرا على مستوى النظرية والتطبيق. يرى جولدمان "أن الثقافة والوعي والعمل الفني والفلسفة تشكل جزءا لا يتجزأ من العلاقات الاجتماعية، وأن هذا التفاعل بينها وبين المجتمع لا نستطيع إدراكه إلا من خلال "رؤية العالم" الخاصة بالكاتب"، من أجل هذا تبدو "رؤية العالم" حلقة وسيطة بين الطبقة الاجتماعية والأعمال الأدبية. فالطبقة تعبر من خلال رؤيتها للعالم، وهذه الرؤية تعبر عن نفسها عبر العمل الأدبي". ولا شك في أن الرؤية الجماعية للعالم التي تعيشها المجموعة على نحو طبيعي ولا مباشر تؤثر في الفرد (الكاتب المبدع)، ويعيدها بدوره إلى المجموعة. ولكن هذه العلاقة بين الفرد والمجموعة تحتاج إلى زيادة في التعمق. وهنا يتدخل غولدمان مميزا بين "الوعي الممكن" للطبقة الاجتماعية و"الوعي الفعلي". وينتج من ذلك أن أشكال الوعي لدى طبقة ما، هي في الوقت نفسه تعبير عن رؤية العالم لدى هذه الطبقة. وكل عمل أدبي، بناء على هذا، يبلور رؤية العالم لدى هذه الطبقة أو تلك ويجعلها تنتقل من الوعي الفعلي إلى الوعي الممكن.
وعندما يتكلم غولدمان عن البنية (أو البنى) الدلالية(5). أو ما يسميه سيد البحراوي "النظام" أو "نسق القيم الجمالية الاجتماعية"، فإن جولدمان يفكر في البنية التي تتيح لنا أن نفهم شمولية الظاهرة الاجتماعية التي يعبر عنها الكاتب لا لكونه فردا، وإنما لكونه ينطق باسم الجماعة. وبالتالي فإن المعنى المقصود هو ربط هذه البنية بالوعي الجماعي". ولا يمكن فهم هذه البنية حقا إلا إذا أحيط بها في تكوينها، الفردي أو التاريخي على التوالي، لأجل فهم هذا السلوك ينبغي إدراجه في هذه البنية. ومن هنا تبدو نقاط الالتقاء بين تيار النقد النفسي ومنهج جولدمان في البنيوية التكوينية التي كان أثر أدلر وبياجيه على المستويين الشخصي والمنهجي واضحًا(6).
على أية حال أجدني لا أعدو الحق إذا قلت إن هذا التأثر قد حصر إسهام سيد البحراوي في إطار فكرة ليست بمنأى عن اجتهادات عديدة سبقتها، غربية في لبها وأساسها -إذا استخدمنا عبارات الكاتب- دون قدرة على فرض تمايزها، وجهازها المفهومي الخاص بها. كما أجدني في كل الأحوال مختلفًا مع ما ذهب إليه سيد البحراوي وهو يقف -وصفًا أو تقويمًا- مع من توقفوا من النقاد العرب عن متابعة المنجز العلمي الغربي، وذلك في قوله "يمكننا مثلاً أن نرصد عددًا من النقاد سواء الأكاديميين أو غيرهم، قد كفوا حرصًا منهم على الاتساق المنهجي عن متابعة أي جديد في ساحة النقد الأدبي، وبقوا محافظين على مناهجهم التقليدية، والتي إن حوت تناقضاتها القديمة فإنها تظل أكثر فعالية، وخاصة في ميدان النقد التطبيقي، وقدرة على القيام بالوظيفة الاجتماعية للنقد، أي تحقيق الصلة بين المتلقي والنص"!
يقول سيد البحراوي إن انبهار روادنا بإنجاز النقد الأوروربي، أدى بهم إلى نقله "دون أن يدركوا أن منهجهم في التعامل مع هذا الإنجاز النقدي هو في الحقيقة قتل له لأنه معاد لطبيعته ولا تاريخية إنتاجه"، ولكن ألا تنطبق هذه اللا تاريخية ايضًا بتعبير سيد البحراوي على مستخدمي ما يسميه مناهجنا النقدية القديمة أيضًا، وما يرتبط بتاريخيتها بخاصة، حتى الثقافة المقاومة تدركُ مسبقًا خطأَ أية دعاوى تقوم بتجنيس الثقافة، أو أيِّ اجتهاد يتفادي التعامل مع ما يسمى بنى المعرفة الغربية، لأنها صدرت من الغرب مثلاً، أو لأن هذا الغرب بما يحمله من واقع حضاري وثقافي مختلف، أو بما اتسم به في تاريخه السيء معنا من نظرات استعمارية، واستعلائية، يجب مخاصمة ثقافته، ذلك لأن هذا السلوك المنهجي قد يؤدي على المستوى الإبستمولوجي إلى إضعاف سياق البحث العلمي، ويعرقل تأسيسه، ويمنع عنه تجردَه، وقد تكرر هذا المعنى في الفصل الأول أيضًا في سياق حديثه عن الآخر الأوروربي ومفهوم التبعية، التي عرَّفها بأنها "تشكيل تنفصم فيه بنية الإنتاج عن بنية الاستهلاك"، ويعني هذا أنها "نتاج نقص واضح في الموارد الذاتية يؤدي إلى الاعتماد على إنتاج الغير، ونقل هذا الإنتاج لسد الحاجات الداخلية"، وبالرغم من أن التبعية مفهوم نقله الكاتب من حقل الاقتصاد السياسي مباشرة إلى الحقل الأدبي، فإن هذا المفهوم قد تغيرت أبعاده، ولم يعد يُنظَر إليه الآن كما كان من قبل، وذلك بعد تطورات النظرية الاقتصادية، سواء على مستوى التغيرات المستجدة على مفهوم الموارد في الفكر الاقتصادي المعاصر، أو على مفهومي الإنتاج والاستهلاك أنفسهما، أما الندية مع من يسمى الآخر فليست قرارًا مسبقًا يتخذه الكاتب، هذا إذا أردنا الاعتراف بالواقع العلمي القائم، لأنها محكومة بظروف موضوعية تجاوز رغبة الكاتب، فأيّة معرفة عن العلوم الإنسانية مرتبطة بشروط إنتاجها من جهة، وبسوق استهلاكها بصفتها رأسمالاً رمزيًا من جهة أخرى. وقد أشار سيد البحراوي في الفصل الأول المسمى أزمة المنهج، إلى مفهوم التبعية، وإلى الآخر الأوروربي، قائلاً إن "الوقائع تشير إلى أن ممارسات هذا الآخر الأوروبي كان تحقق مزيجًا من القمع المادي، والإبهار الذهني في الوقت ذاته" فمن هو هذا الآخر الآن؟ هل هو الأوروبي فحسب حقًا! على أية حال، يفتقد الطرح جهازًا مفهوميًّا، وتغيب عنه الإجراءات المنهجية أيضًا، كما أن القراءة السريعة المقدمة حول مناهج شخصيات أدبية ونقدية مثل طه حسين والعقاد أوقع سيد البحراوي في قراءة اختزالية، وجزئية، وقد كان من الواجب التعامل النقدي مع منجز هذه الأسماء، وما قام عليه من مناهج، وهو منجز ضخم، بحذر علمي أكبر.
ربما يشير الكتاب إلى منهج الأزمة أكثر مما يشير إلى أزمة المنهج، فأنا لست ممن يرون أن هناك ما يسمى على المستوى المنطقي أزمة منهج، لو كانت نسبة الاسم إلى مسماه صحيحة، هناك أزمة ممارسين، على أية حال، هذه مجموعة من التأملات أثارتها قراءتي لهذا الكتاب الشائق، أما أهمية هذا الكتاب فتكمن في كونه توخي أن يحرك مياهًا راكدة استنامت للمنقول دون تمثل أو مراجعة، وحسبه أنه أثار من خلال سياقة النظري في جزئه الأول -تصريحًا وتضمينًا- أسئلة مهمة حول علاقة النظرية النقدية بالأيديولولجيا، ومعنى الخصوصية، وعلاقة الأنا بالآخر النقدي، وشكل العمل الفني ومحتواه، والنسبية الثقافية، وغيرها من قضايا، أما السؤال الذي يظل عالقًا وسط هذه القضايا فهو: ما الذي ينسب إلينا في كتاب د. سيد البحراوي، وما الذي ينسب فيه إلى من يسميه آخر!

(1) انظر: د. سيد البحراوي.، في نظرية الأدب: محتوى الشكل، مساهمة عربية.، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.، 2008).، ص ص.، 5- 99.
(2) انظر: نفسه.، ص ص.، 103- 185.
(3) انظر: نفسه.، ص ص.، 6- 7.
(4) انظر د. جمال شحيذ.، في البنيوية التركيبية: دراسة في منهج لوسيان جولدمان.، (بيروت: دار ابن رشد.، 1982).، ص ص., 38- 44.
(5) نفسه،. ص.، 45.
(6) انظر: لوسيان جولدمان.، المنهجية في علم الاجتماع الأدبي.، ترجمة، مصطفى المسناوي.، (بيروت: دار الحداثة.، 1981).، ص ص.، 15- 6.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن أمام خيارات صعبة في التعامل مع احتجاجات الجامعات


.. مظاهرة واعتصام بجامعة مانشستر للمطالبة بوقف الحرب على غزة وو




.. ما أهمية الصور التي حصلت عليها الجزيرة لمسيرة إسرائيلية أسقط


.. فيضانات وانهيارات أرضية في البرازيل تودي بحياة 36 شخصا




.. الاحتجاجات الطلابية على حرب غزة تمتد إلى جامعة لوزان بسويسرا