الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين يتحول الوَهم الى حقيقة مطلقة

وجيهة الحويدر

2005 / 10 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


من أجمل الأفلام الروائية التي أنتجتها سينما هليوود في منتصف السبعينيات فيلم "تحليق فوق عش كوكو" للكاتب "كين كيزي"، حيث أخرجه "ميلوس فورمان" وقام ببطولته الممثل المبدع "جاك نيكلسن". الفيلم يصّور حكاية نزلاء في مأوى أو مصّحة لمرضى نفسيين كانوا يعيشون حياة المعتوهين المهشمين بيد سلطة مركزية صارمة متمثلة في الممرضة المسئولة. كانوا يتحركون كالآلات تحت قوانين قاسية، لكن لم يستمر الحال على ما هو عليه بعد أن ضُم إليهم "مايك مورفي" بطل الرواية والذي قام بدوره " جاك نيكلسن"،حيث جُلب إلى المصّحة من سجن جنائي بسبب سلوكياته غير اللائقة هناك. بعد أن حلَّ "مايك" في المصحة بدأ يخرق القواعد والأنظمة فيها، وصار يحاول أن يُخرج النزلاء من دائرة رعب الممرضة المستبِدة، وينبههم إلى أن هناك عالما جميل خارج الأسوار، وان أحضان الحرية تنتظرهم. ومع محاولات التحريض المتعددة يكتشف "مايك" في نهاية المطاف أن لا أحد من النزلاء كان مُجبرا على البقاء في المأوى، لكن خوفهم الشديد من نزع أغلالهم لتذوق حياة لم يعتادوها جعلهم يخشَون العالم الخارجي، ويبقون طوع إرادتهم سجناء تحت سلطة متجبرة. أيضا تيقن "مايك" أن أسوار ذاك المأوى العالية وبواباته الفولاذية الرصينة، لم تكن المانع لهروب أولئك الرجال، وإنما السبب الحقيقي لعزوفهم عن الفرار كان علاقة التبعية التي تربطهم بشدة من أعناقهم مع تلك الممرضة الشرسة، والتي كانت توهمهم بأنها هي المصدر الوحيد للأمن والآمان، وأنه لا حياة لهم بدونها. هذا الوَهم عشش في أذهان نزلاء المصّحة فاعتادوا عليه، وصار يكبر يوما بعد يوم الى أن تحولَ إلى حقيقة مطلقة وواقع لا لُبسَ فيه. ذاك الصنف من الوهم المرير المسيّج بالخوف موجود ونراه كل يوم في علاقات كثير من النساء برجالهن، والأفراد بمؤسساتهم، والحكومات الشمولية بشعوبها، وحتى في علاقات الدول الضعيفة بالدول العظمى. الشعور بالتبعية وَهم يحول الناس إلى أجساد تدور حول محور واحد وهو نيل رضا السلطة المركزية والتقرب منها، لكن ليس ذاك الوَهم هو الوحيد الذي يلوكه الناس بين بعضهم البعض، هناك أيضا وَهم مسيّج بالشعور بالحاجة. اعتاد الانسان ان يلهث وراء تلبية حاجاته بشتى السبل لكي يجني الغبطة النفسية من الداخل. قد يتجسد الوَهم في شخص أو فكر أو مادة، فعلى سبيل المثال احتياج "رميو" "لجوليت" أو قيس لليلى، جسّد وَهم الاحتياج في صورة شخص، "فـرميو" وقيس آمنا انه لا معنى لوجدهما ولا جدوى من العيش بعد وفاة حبيباتهما، لذلك اختارا أن يفارقا الحياة بمحض إرادتهما، وكأن هاتان المرأتان هما منبع الحياة ومن خلقهما لم يخلق غيرهما. هاتان الحكايتان ربما يعتقد البعض أن مشاعر الاحتياج مبالغ فيها مع أن مثيلاتها تحدث كل يوم، فالواقع اشد من ذلك، فمثلا بعد انتحار الفنان الهولندي العظيم "فان كاخ" توفي أخيه بعده مباشرة، لأن علاقته بأخيه والتصاقه به كان عجيبا جدا، اعتاد على وجوده لدرجة انه لم يحتمل البقاء من بعده، أيضا رأينا كيف انتحرن الصبايا في مصر حين مات العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وفي أمريكا حدثت التراجيدية نفسها بعد وفاة ملك الروك "الفس بروسلي"، وكان في اليابان المحاربين القدامى "السموراي" يبقرون بطونهم بسيوفهم حين يسقط قائدهم مهزوما، لأنهم يترَبون على وَهم أنه لا امتداد لحياتهم سوى بوجود ذاك الإنسان الذي يهبهم المعنى. هذه نماذج من الأوهام المرتبطة بوجود أشخاص بغض النظر عن نوعية العلاقة المتبادلة. أيضا وهم الشهرة والنضارة الذي يصيب المشاهير وكثير من نجوم السينما، وربما سعاد حسني هي آخر مثل بيّن مدى بشاعته. عاشت سعاد حسني حياتها في وَهم أن أيدي الزمن غير قادرة على العبث بوجهها الجميل وبشرتها المشرقة وقدها الآخّاذ، لكنها اكتشفت في عمر متأخر أن ما جرى على غيرها سيجري عليها، ولم تجد أمامها سوى خيارا واحدا وهو مغادرة الحياة بأكملها.



المحزن اليوم هو أن العالم يكابد ويلات مريرة من صنف آخر من الموهمين الذين يحملون فكر خَرِب تفرزه مختلف الثقافات. هناك أناس موهمون اعتادوا أن ينظروا لأنفسهم على انهم صفوة البشر، وان رسالتهم في الدنيا هي إصلاح الجميع شاء من شاء وأبى من أبى، فبعضهم يمارس جميع سُبل العنف من اجل تحقيق ذاك الوَهم، وربما اكبر ظاهرة معروفة وبشكل واضح نجدها بين الجماعات الدينية المتشددة، ايضا في نهج الحكومات التي تسيطر عليها الأجنحة اليمينية، حيث تظهر حملاتهم في منتهى القسوة، وفي صور لا تمت للدين ولا للإنسانية بصلة.



الأوهام التي تتحول إلى حقائق مطلقة في أذهان البشر مازالت تلعب دورا كبيرا في حياتهم، فكثير منها تُدمر علاقتهم بأنفسهم، وغالبا تسبب أضرارا جمة لهم وللآخرين، فمعظم تلك الأوهام أساسها القصور الذاتي للإنسان، لأنهم لا يُحسنون مخاطبة أنفسهم خارج الخطوط التي رُسمت لهم واعتادوا على اجترارها. من منا اليوم يقف ليصغي لتقاسيم الزهور، أو يحاكي جماليات الحياة، أو يقرأ ما تمليه عليه تحركات الساعة لا أرقامها؟؟ تلك أمور نعجز عن القيام بها، لأنها خارج المألوف، ومخالفة لما اعتدنا عليه وتدربت عليه حواسنا القاصرة. تلك الحواس التي تُحول لنا كل شيء نراه أو نسمعه أو نلمسه إلى حقيقة مطلقة، الاعتياد آفة العقول وسبب خرابها، وقد يكون أحد اهم عوامل تضليل البشر وإهدار لطاقاتهم وتبديد لقدراتهم، فكما قال مكتشف النظرية النسبية "الفرد اينشتاين" في إحدى محاضراته " إن مشكلة العقل البشري هي انه يريد ان يخضع الكون كله للمقاييس التي اعتاد عليها في دنياه هذه، والمصيبة ان الإنسان مؤمن بأن هذه المقاييس النسبية مطلقة وخالدة ويُعدها من البديهيات التي لا يجوز الشك فيها، فهو اعتاد على رؤيتها تتكرر يوما بعد يوم فدفعه الاعتقاد بأنها قوانين عامة تنطبق على كل جزء من اجزاء الكون. جاء هذا الاعتقاد من العادة التي اعتادها وهو يظن انه جاء بها من الحقيقة ذاتها."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد.. إماراتي يسبح مع مئات الفقمات وسط البحر بجنوب إفريقيا


.. الأمن العام الأردني يعلن ضبط متفجرات داخل منزل قرب العاصمة ع




.. انتظار لقرار البرلمان الإثيوبي الموافقة على دخول الاستثمارات


.. وول ستريت جورنال: نفاد خيارات الولايات المتحدة في حرب غزة




.. كيف هو حال مستشفيات شمال قطاع غزة؟