الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صديقي دانغوت الشيوعي

عامر سليم

2015 / 10 / 5
سيرة ذاتية


في بداية تسعينات القرن الماضي شاءت الاقدار ان اكون في بلد افريقي في مهمة عمل لمدة اسبوعين فقط.. كان احد اعضاء الوفد من ذلك البلد الافريقي وكان من اقرب اصدقائي في شركة الانشاءات التي عملنا معها لسنوات وهوالذي سهل زيارتي التي لم افكر بها في يوم من الايام..كنا نعمل في مقر فرع الشركه هناك.. وفي الليل نجتمع في النادي الملحق بها لقضاء السهره ... في الليله الاولى جاء صديقي الى النادي مع رجل متوسط القامه يميل الى البدانه ..ذو بشره شديدة السواد لحد البريق وكانت ضحكته البريئه الهادئه تكشف عن اسنان غايه في البياض مما يجعلك ترتاح له من النظره الاولى.
غمز لي صديقي قائلا: اقدم لك صديقي دانغوت الشيوعي
ولجم دهشتي بعجل قائلا : حتى اسهل عليك الامر انه من الناس الذين ترتاح لهم....
تمتم دانغوت مبتسما بهدوء : نعم اسمي دانغوت و شهرتي هي الشيوعي علما انني لست شيوعيا!
بهذه البدايه الغريبه عرفت احد اجمل الناس الذين قابلتهم في حياتي انه دانغوت الشيوعي!
كان دانغوت طبيبا للاطفال يعيش في بلده قريبه من مقر الشركه يجيد الانكليزيه بطلاقه اضافة الى لغته المحليه ..طوال الاسبوعين اللذين قضيتهما في ذلك البلد كانت اجمل الاوقات حين يجالسنا ويشاركنا السهره لساعتين او ثلاثه ونحن نحتسي البيره المحليه المركّزه ونتحدث بمختلف الامور !
سألته يوما سؤال يحمله المواطن الشرق اوسطي معه اينما يحلْ !
دانغوت.... لماذا لاتهاجر؟ وانت تعاني من سؤ الاوضاع والخدمات وفقدان الامن و الدكتاتوريه والمليشيات في وطنك..!
اجابني بنظره لن انساها ماحييت .. ربما لانني طبيب قبل كل شئ!
كنت حينها على ابواب المراحل الاخيره من معاملة طلب الهجره بعد اكثر من ثلاث سنوات في اعداد الوثائق وترجمتها ومعادلتها وامتحان اللغه! لذا كان موضوع الهجره شاغلي الوحيد!
اضاف دانغوت بهدوء كهدوء تلك الليله التي ازدحمت بالنجوم والتي ذكرتني بلوحة فان كوغ الشهيره :

انا حصلت على شهادتي من بريطانيا وكان بأمكاني ان ابقى هناك بعد الدراسه ولكن حاجة الناس لي هنا اكبر من حاجتي ورغباتي الخاصه..(قالها وهو ينظر إلي بعينيه الصافيتين كالبلور).. اعلم انك هارب من اشرس دكتاتور في العالم وانا لا ازايد عليك !
ثم اضاف وهو يبتسم وكأنه يجاملني بطيبته الجميله.. ولحسن حظك انت مهندس!
وتابع قائلا..قد تكون ظروفك مختلفه... انا افهم حماسك وانت في المراحل الاخيره من معاملة الهجره التي تحدثني عنها بنشوة من يخرج من نفق مظلم وخانق.. ولكنني يا آمور(هكذا كان يلفظ اسمي الاول) لا اريد ان اكون معارضا انتهازيا يستثمر من مواقفه ..من السهل ان اهاجر او اطلب اللجوء واعيش هانئا مطمئنا مع عائلتي في الغرب وموقفي معروف بل ويكفي لقبي الذي اطلق عليّ ...الشيوعي.... واغلبهم لايعرف معنى الكلمه ولكنها تعني عندهم الانسان الطيب الذي يعيش بينهم ومعهم... اعالج الفقراء باجور رمزيه و اعالج المعدمين مجانا... تصور حتى هؤلاء يصرون على دفع الاجور ولو كانت قطعه نقديه لاقيمه لها يقدموها قائلين ..دانغوت نعلم انك شيوعي ولكن عليك ان تأخذ هذا لتبقى معنا ..كنت اخذها مبتسما وشاكرا حتى لا اجرح كرامتهم .. وانا ارى عيونهم الحزينه تتوسل بقائي معهم!
انا اعيش يوميا مع السؤال التالي.. ماهو الأنفع لفقراء وطني ان اعالج الاطفال ليكونوا اصحاء قادرين على بناء مستقبلهم ووطنهم ام معارض ثرثار يملأ الدنيا زعيقا وصراخا وتحليلا كما يفعل الكثير من اصدقائي المهاجرين!
لست ضد الصوت المعارض لكشف السّراق والفاسدين في وطني ولكن ان يتولى الجميع هذه المهمه ويغادر فمن سيبقى للوطن ولفقرائه وخصوصا عندما تكون مهنتك مهنه انسانيه.
عندما تحسبها بمسؤوليه اخلاقيه ستجد انني في الطريق الصحيح .. ثم ختم حديثه متنهدا...يا آمور انا لا اتحدث اطلاقا في السياسه حتى اتجنب الاعتقال وربما القتل من اجل ثرثره يعرفها ويعيشها الجميع لا اريد ان اخسر نفسي ويخسرني الفقراء! وها انت تجبرني على حديث السياسه لانكم مهووسين بها !
ضحكت وقلت له : كما تعلم عندما نجتمع مع الخمره لايروق لنا الحديث الا بالمواضيع الثلاثه المعروفه والمحرّمه في اوطاننا,السياسه ..الدين ..الجنس

بعد تلك الليله لم نتحدث بهذه الثلاثيه.. بل كنا نتحدث عن الادب والفن وحياة الناس وطبيعتهم..قبل ان تنتهي مهمتنا ونغادر البلد دعاني دانغوت على الغداء مع صديقي وقضينا يوما ممتعا وجميلا مع عائلته المكونه من زوجته التي تعمل معلمه في مدرسة البلده واطفاله الثلاثه كان بيته بسيطا ومبني قرب بيت العائله ..يحوي مكتبه كبيره اغلبها كتب اكاديميه وكان البيت يعج بالتماثيل واللوحات الافريقيه المختلفه حتى قلت له ساخرا لماذا لاتجعله متحفا! وهكذا ستكون صاحب عياده ومتحف!
عندما ودعته صافحته بحراره قائلا ..اتمنى ان نلتقي ثانية ( كنت اشك بانني سأراه ثانية واحسست انه يشاركني في شكّي)

مر عام وانا مشغول بترتيب حياتي الجديده في وطن المهجر..وفي ليله صافيه مطرزه بالنجوم تذكرته ..فكتبت له رساله..لم استلم منه جوابا ..فبعد هجرتي بشهور فقدت صديقي الذي كان يعمل معي في الشركه بحادث مؤسف!
ومعه فقدت صديقي دانغوت
دانغوت ذلك الشيوعي الحقيقي.... الذي لم يكن شيوعيا!














التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ممكن أن يكون الإنسان شيوعياولكن ليس كل شيوعي إنسان
ليندا كبرييل ( 2015 / 10 / 6 - 12:33 )
تحياتي أستاذ عامر سليم المحترم

قرأت أنها سيرة ذاتية، لكنها حافلة بعناصر القصة القصيرة، انتهت بانطباع حزين وإنساني على فقْد إنسان شهم كالشيوعي دانغوت

الشيوعية قبل أن تكون نظرية هي مواقف من الحياة
كل إنسان ممكن أن يكون شيوعيا كدانغوت، ولكن ليس كل شيوعي إنسان

كان لدي التصور وما زال أن الشيوعي إنسان محترم، لكن نظرتي اهتزت مع الأيام، فعلمت أنه لكي يصبح الشيوعي إنسانا حقا يلزمه العمل الحقيقي، والمتواصل لتحقيق ما يؤمن به

عزيزي الأستاذ آمور( كما ناداك دانغوت)، قلمك متمكن من الكتابة ، ويبدو لي أنك تملك المادة الخام، والمقدرة على التعبير الرشيق

لماذا أعطاك بعضهم علامة منخفضة؟
أراها قصة رائعة، أسعدتني قراءتها اليوم وآمل أن تواصل،
لماذا كل هذا التأخير يا صديق دانغوت؟

تفضل احترامي



2 - الى ليندا كبرييل
عامر سليم ( 2015 / 10 / 7 - 10:43 )
سيدتي الجميله

تخصيص جزء من وقتك الثمين لقراءة ما كتبته محل تقدير واعتزاز.

دعينا من سؤال من هو الشيوعي ومن هو غير الشيوعي؟..حتى نجنب انفسنا نصاً زيرجاوياً المانياً مُمَصدراً يفند ما نقوله جملة وتفصيلا!

وتعقيبا على عشق البعض للرقم واحد في التقييم .. اليك قصة استاذنا الجميل جاسم المطير استاذ الكتابات الساخره في الموقع..فقد كتب مره مقاله عن العواصف الترابيه في العراق (الطوز!) وتأثيراتها الصحيه والبيئيه وطرح بعض الافكار لمعالجتها!
استغرب من مستوى التقييم الواطئ لمقاله فقال ساخرا يبدو لي ان البعض من اصدقاء الطوز ولايحب الاساءه اليه!

تحياتي


اخر الافلام

.. فصل جديد من التوتر بين تركيا وإسرائيل.. والعنوان حرب غزة | #


.. تونس.. مساع لمنع وباء زراعي من إتلاف أشجار التين الشوكي | #م




.. رويترز: لمسات أخيرة على اتفاق أمني سعودي أمريكي| #الظهيرة


.. أوضاع كارثية في رفح.. وخوف من اجتياح إسرائيلي مرتقب




.. واشنطن والرياض.. اتفاقية أمنية قد تُستثنى منها إسرائيل |#غرف