الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين القرم ودمشق الشام

عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)

2015 / 10 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


إن الحديث عن العدل والقيم الإنسانية والتمسك بالعهود والتطابق بين المواقف المعلنة والسلوك الفعلي، وما يندرج في نطاق هذا الإتجاه القيمي، بالنسبة لمواقف الدول الكبرى، الى جانب محاكمتها على أساس ذلك، يُعد ضرباً من ضروب السذاجة البالغة، ومضيعة للوقت، لأن تلك الأمور النبيلة قد ترد في نهاية قائمة إهتمامات الدول الكبرى، وربما غائبة تماماً عنها.

ما ينبغي معرفته، ويُعد أمراً حاسماً للقوى الحية من كل شعب، هو البحث والتقصي لمعرفة ما يريده الطرف أو الأطراف الدولية الكبرى المعنية، وما يخططون له إتجاه مصائر الشعوب المغلوبة، وينبغي أن تكون هذه المسألة في الموقع الأول من الإهتمام، وكلما كانت الأجوبة على هذا السؤال أقرب الى الواقع، كانت الآفاق أوسع أمام أية قوة تريد خدمة مواطنيها حقاً.

لقد تجسدت حقيقة زيف المواقف المعلنة للدول الكبرى، وتأكدت بوضوح تام وبصورة مُصدمَّة وفاقعة، بعد إنهيار نظام القطبية الثنائية، الذي تمثل بالإتحاد السوفيتي ووحلفائه، فيما كان يُعرف بدول المنظومة الإشتراكية، ومن ثم ذراعها العسكري المتمثل بحلف وارشو السابق، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الدول الإمبرالية القديمة والحديثة، وذراعها العسكري حلف شمال الأطلسي "الناتو"، فاليوم جميع القوى اللاعبة والمُتدخلة مباشرة في تحديد معالم الحياة الدولية، أو أقله التأثير فيها، هي دول إمبريالية بشعة للغاية، تسعى لإعادة إقتسام مناطق النفوذ، وهذا السعي هو محرك خلافاتها المعروفة والقائمة أيضاً.

يوجد فرق واحد بين أجنحة أو أطراف القوى الإمبريالية، فالقسم القديم من إمبريالية اليوم يسعى بحرص ماكر لتمرير الإدعاءات والحفاظ على "السمعة"، التي يتوهم أنها طيبة في نظر الشعوب المغلوبة، بينما القسم الآخر المقابل من إمبريالية اليوم، لا يقيم وزناً لأية معايير، حتى في جوانبها الشكلية على غرار ما يعمل الآخر، وهو أكثر إستعداداً وإيماناً بسياسة أو منهج الأرض المحروقة وفق عقيدته السياسية وتجلياتها العسكرية.

من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدرك حجم وأهمية القوة العسكرية، التي ورثها من الإتحاد السوفيتي السابق، الى جانب مصادر قوة آخرى مثل النفط والغار، ولكن هذا المصدر الأخير ليس من السهل إستغلاله لعوامل عديدة، من أهمها أن الإقتصاد الروسي شبه الريعي يعتمد على ذلك المصدر بنسبة 40%. وبوتين الذي جاء الى زعامة روسيا بفضل ودعم رئيسه الذليل والأهوج في الوقت ذاته بوريس يلتسن سعى الى إنتشال روسيا من موقعها البائس على الساحة الدولية، خاصة بعد أن خذلت القيادة الروسية أشقاءها الصرب في حرب كوسوفو، بوتين جاء الى قيادة روسيا دون خبرة سياسية كبيرة، جاء بعقلية ضابط في جيش كبير، وتحديداً ضابط مخابرات، وهو في الغالب لا قلب له ضمن مقومات مهنته، وإن نمط حياته وسلوكه يقوم على ركيزتين إثنتين بصورة أساسية: الشك المطلق وتحقيق الغلبة على الآخر المقابل بغض النظر عن الوسيلة.

وجد بوتين نفسه أمام ضرورة بناء أكبر قدر ممكن من ثقة الناس به شخصياً، خاصة بعد الإذلال، الذي تعرض له الشعب الروسي بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي، وهو شعب يعتد بنفسه من جانب، ويميل للزعامة التي تتصف بالقوة من جانب آخر، وتعززت تلك الطباع والتصورات في روسيا بعد أن بات الموطن الروسي كالأجرب في القارة الأوروبية، وفي شرقها تحديداً، حيث كانت الصورة أكثر قتامة، بعد عقود من عدم التكافئ في العلاقات الثنائية لصالح الروس.

ظل الرجل القائد الفعلي لروسيا منذ أول يوم أصبح فيه رئيساً لها بالإنابة عقب إستقالة يلتسين يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر 1999، ثم تم تنصيبه رئيساً رسمياً للإتحاد الروسي يوم 8 آيار/ مايو عام 2000، وحتى بعد تولية رئاسة الحكومة، كان هو الحاكم الفعلي، وغني عن البيان الدور الفعلي لتلميذه دميتري مدفيديف الرئيس الروسي بين الأعوام (2008 ـ 2012)، الذي خلف بوتين من أجل عدم الإضطرار لتغيير الدستور الروسي، الذي لا يتيح إنتخاب الرئيس لأكثر من دورتين.

عمل بوتين على تحسين وضع الإقتصادي الروسي، حتى ولو في جوانبه الهامشية، وإتخذ سلسلة من الخطوات لتعزز موقعه ونفوذه، ومنها: العمل تعزيز مكانة رابطة الدول المستقلة؛ الدخول في بعض التحالفات الدولية على الصعيد الإقتصادي في المقام الأول؛ المعارضة الثابتة لإقامة منظومة الدرع الصاروخي الأمريكي المضاد للصواريخ في شرق أوروبا؛ الحرب على جورجيا، والإعتراف بإستقلال أو إعلان إستقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الجورجيتين؛ دعم الأقليات الروسية في الدول المستقلة، ولا سيما في الدول المتجهة غرباً، كانت تلك الخطوات وغيرها تهدف الى ترميم أوضاع روسيا، وتعزيز مكانة رئيسها، وساهمت في تحسين شروط المساومات الروسية مع الغرب.

ولكن تلك السياسة لا تخلو أو تحمل في باطنها الكثير من جوانب الضعف، ومن أبزر جوانب الضعف تلك التلويح بالقوة وإستعراضها بمناسبة ومن دون مناسبة، وظل هامش الحريات يتقلص في روسيا بإضطراد، وهذا الأمر له إنعكاسات خطيرة على صورة روسيا عند جيرانها، ومن الخطأ الكبير أن ينظر الى هذا المسألة وكأنها دون تأثير على الحياة السياسية والإقتصادية والتجارية والمعنوية والجهد العلمي المشترك وحسن العلاقات وإنسيابيتها بين الدول المختلفة.

عند إلقاء نظرة سريعة لتقويم أو للتعرف على عائد سياسة بوتين الخارجية يتضح ما يلي: إن دعم الأقاليم الجورجية بالقوة أدى الى خسارة تاريخية للعلاقات الروسية مع جورجيا، وترك جرحاً غائراً في ضمير الشعب الجورجي، ويظل الجرح مؤثراً حتى في حالة وصول قوى لا تكن للغرب أي إرتياح الى الحكم في جورجيا. وكذلك الحال بالنسبة الى مولدوفا، كما إن ضم شبه جزيرة القرم ودعم الإنفصاليين في إقليم الدونباس الأوكراني أدى الى خلق عداء تاريخي بين الشعبين الروسي والأوكراني، مع العلم أن الروابط التاريخية والثقافية والروحية مع أوكرانيا مديدة وعميقة جداً، وليس من حق أحد أن يتجاهل الطروحات الروسية بصدده الأزمة الأوكرانية، ولكن رعونة المعالجة في المحصلة الأولى أضرت بروسيا الدولة وخدمة شعبية بوتين، الذي ربما لم يكن موفقاً في دمج المواقف الشخصية بالمسؤوليات الوطنية.

خسر بوتين الكثير خلال مساوماته مع الغرب. ففي الأزمة الأوكرانية إستطاع حلف شمال الأطلسي "الناتو" أن يُقرب تحرشاته بروسيا الى الجوار الروسي، في أوكرانيا تحديداً، وقد ترك رد فعل بوتين على الأزمة بعض التحفز والقلق، وحتى الكراهية، عند كل شعوب شرق أوروبا دون إستثناء، هذا الى جانب خسارته أوكرانيا وشعبها، وعمق المشاعر المذهبية بين البلدين، وفي الجوار الإقليمي.

وفي مجرى الثورة السورية إستطاع النفاق الغربي أن يُظهر بوتين بأنه يحمي حاكماً قتل شعبه بوحشية وضراوة ودون رحمة، وذلك قبل أن يطغى الجانب العنفي على الثورة السورية، ومن ثمة هيمنة المتشددين على مساحات من الأراضي السورية، وبدى بوتين وكأنه يبيض وجه الغرب، الذي إدعى أنه سعى الى قرار دولي في مجلس الأمن ليغل يد الأسد، وإدعى بأن بوتين كان العائق أمام الخروج بقرار دولي لوضع حل سياسي ملزم في سوريا.

إن التدخل العسكري الروسي الحالي في سوريا، كما كان قبله التدخل الغربي، قد جاء دون قرار دولي، على الرغم من أن القرار الدولي له أيضاً أيدي قوة تحركه بالإتجاه الذي تريده الدول الإستعمارية، فالمنظمة الدولية تكون عاجزة الى أبعد الحدود أو قوية الى أبعد الحدود حسب طلب وحاجة الدول الكبرى، وفي إطار مساوماتها.

لقد كانت محاولات قمع الثورة الشعبية السورية، هي التي خلقت المنظمات المتشددة والإرهابية، وقد ساهم بوتين في جزء هام من تلك المجزرة الوحشية، وفي كتابة تلك الصفحات السوداء، من خلال الدعم غير المحدود لكل جرائم الأسد ضد الشعب السوري، وفي هذه الحالة ليس من المعلوم الى أي حد يريد بوتين توريط روسيا في حرب غير مشرفة لكل الغزاة من كل إتجاهات الدنيا الأربع، ومن منطق المصالح فإن مصلحة موسكو في هذا التدخل غير مضمومة، إذ قد تدفعها الى أفغانستان جديدة، ومن ذات النوع الذي أنزل أفدح الأضرار بالإتحاد السوفيتي، وربما أدهى وأمر.

لا يوجد ما يعكر صفو العلاقات بين شعوب الشرق، وبصفة خاصة العرب والروس، وإن الإنزاق الى متاهات شن الحروب على شعوب المنطقة لأول مرة في التاريخ الروسي لا يخدم المصالح الروسية على المدى القريب والبعيد، خاصة وإن طبيعة الإشتباك في سوريا تتطلب من رئيس الكرملين التنسيق مع إسرائيل والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، والكل يعلم أن جرائم المنظمات الإرهابية وسياراتها المفخخة لا تختلف في إجرامها عن براميل بشار التي تقتل المدنيين الأبرياء، وفي أي تحليل يتوخى الدقة في فهم وتحليل الحروب الأهلية تُلقى المسؤوليات الأساسية على الحكومات لأنها المحرك والمبادر لأعمال القمع والإرهاب، وفي الحالة السورية فإن تدمير العلاقات الطيبة تاريخياً بين المنطقة وروسيا يُعد جريمة بحق روسيا والمنطقة معاً.

إن الموقف يتطلب الإعلان الصريح من كل من يُعنيه الأمر بالوقوف ضد تحويل منطقتنا الى ميدان لإقتتال المصالح بين القوى الإستعمارية المتصارعة على مصالحها ونفوذها في المنطقة. ومن أبرز الأدوات التي تُستخدم ضد شعوب منطقتنا الإنقسام والعجز الذاتي الذي يطبع واقعنا، وسلوك القوى الإقليمية الأناني والشره، وهي قوى تريد تغطية عجزها عن تحقيق مصالحها على أرضها الوطنية، حيث كل منها يعتقد أنه يقف أمام فرصته التاريخية لمد النفوذ، وهو نفوذ كاذب يؤدي في نهاية المطاف الى إبتلاع تلك القوى الإقليمية، التي تتوهم أنها قوية، وإن القوى الإستعمارية بحاجة لها وتساومها على حدود المصالح.

ولا بأس هنا من تذكير البعص في صفوف قوى اليسار العربي أنه عند الحديث عن واقع روسيا اليوم ينبغي الأخذ بنظر الإعتبار، أننا لسنا في عهد النجمة الخماسية، ولا أمام زهرة موسكو وحمامتها، وإن ساحتها الحمراء باتت رمادية اللون والرؤية، ونحن أمام دولة تتحول الى دولة إمبريالية، ولكنها أكثر بدائية من زميلاتها، وأكثر إستعداداً للوحشية المعلنة على طريق قهر الشعوب، وأقل خبرة ومهارة في مداورة المواقف.

تقول إستطلاعات الرأي العام في موسكو: إن قطاعات واسعة من الشعب الروسي لا تنظر بإرتياح الى طائرات بلادهم، وهي تقصف بلاد الشام بطريقة عمياء، ولأهداف غامضة، وتستهدف القوى غير الموسومة بالتطرف، وتخشى أعداد متزايدة من الروس إنزلاق بلادهم بمغامرة في منطقة رمالها متحركة بضراوة.

إن شعبية بوتين وصلت في أوقات سابقة الى أرقام قياسية بلغت 85%، وهو رقم إسطوري، تنامى عبر عوامل عديدة، أشرت إليها فيما سبق. ولكن مسحاً لمركز إستطلاع الرأي ـ ليفادا، نُظم عشية بدء موسكو بتعزيز وجودها، وقبل إنطلاق عملياتها العسكرية هناك، حول ردود الفعل بشأن سوريا، وأفاد 39% ممن استطلعت آراؤهم بأنهم يدعمون موقف الكرملين بشأن سوريا، وذكر 33% بإنهم غير مهتمين. وأشار مركز ليفادا بأن الذي قدموا دعمهم للتدخل في سوريا إفتراضوا أن التدخل سيكون قصيراً وخاطفاً ومحدود النطاق.

وهناك مقارنة تُطرح على النحو التالي: كان ضم شبه جزيرة القرم من أهم عوامل تنامي شعبية بوتين، حيث طغت مشاعر الفخر القومي عند الروس، ولكن حالة التورط في الشام إنعكست صمتاً وترقباً، مع ظهور مشاعر قلق، قد تتحول الى إعترض، خاصة بعد أن ترتفع التكلفة الإقتصادية لمغامرة اليوم، وقد تتفاقم الحالة كلما ذهب بوتين أبعد في طيشه غير المحسوب جيداً.

في كل الأحول يظل السؤال قائماً حول نوع التفاهم الأمريكي ـ الروسي في المسألة السورية، خاصة وإن الشأن الخطير هذه المرة، أن مواجهات بوتين ليست أمام الخطوط الأمامية للناتو بل في ظهره، هذه الحالة الخطيرة قد تكشف الكثير للمحللين والمتابعين من مجرد إستمرار الأزمة هادئة أو متفاقمة. ولننتظر إستطلاعات المستقبل بصدد شعبية بوتين في حربه الى جانب الطاغية القابع في قصره متحصناً بجبل قاسيون، والذي يسعى لإبادة شعب عريق يستحق الفخر الشخصي والوطني، ولكن في النهاية ربما يتذكر بوتين أن الأرض تقاتل مع أبنائها، ولا تمنح في نهاية المطاف حصناً لطاغية أو معتد.

وبعد تورط واشنطن في حربين باهضتين وعدوانيتين في أفغانستان والعراق بات من الضروري إتاحة الفرصة أمام موسكو للتورط في أكثر من أزمة باهضة الثمن، وعلى الرغم من أن بوتين نجح في إعادة بعض الإعتبار لروسيا في السياسة الدولية، ولكنها إعادة من الزاوية المظلمة، وفي أبشع صورها التي تمثل عمليات حقن أحقاد تاريخية، وفي مواقع صعبة لأكثر من إعتبار.

إن "الحرب ضد الإرهاب" لكي تكون حرباً حقيقية فيجب ألّا تكون ذريعة لأي عدوان، وأن تتسع ضد الإرهاب بكل أنواعه، وفي المقدم منه إرهاب الدولة المنظم، وأن لا يحارب الإرهاب بإرهاب آخر. كما إن معادلة اليوم هي على النحو التالي: الغرب أقام رأس جسر له في روسيا نفسها، وليس في حديقتها الخلفية، أي في أوكرانيا. ورد بوتين جاء في منطقة يريد الغرب الهيمنة عليها، ولكن دون دفع أي ثمن هذه المرة، وإذا كان لا بد من دفع ثمن، فيجب أن يكون من جيب الشعب الروسي، فذلك للغرب هو الأفضل له، ولا يضر بأن يظهر بوتين لبعض الوقت على أنه قاهر الدولة العظمى الأولى، ومعرقل خططها لـ"إزاحة" طاغية لا تريد إزاحته في واقع الحال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - داعشي بامتياز--وهلوسة الخلط بين الارهاب المتوحش و
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2015 / 10 / 6 - 06:45 )
لاياعزيزي الصديق القديم د عبد الحميد-انت-وربما حماعتك ايضا -تتماهى مع داعش والارهاب وتعتبر هؤلاء الوحوش هم العرب هذا مدخل خطر ومعيب ربما سيليه
تمجيد بوحشية الارهاب واعتباره ثورية وبروليتارية هذا مؤسف ومخجل

اخر الافلام

.. الجيش الإسرائيلي يحاول تحقيق استراتيجية -النصر الشامل- ضد حم


.. شكري حذر خلال اتصال مع نظيره الأميركي من -مخاطر جسيمة- لهجوم




.. بلينكن: واشنطن تعارض معركة كبرى في رفح | #رادار


.. الجيش الإسرائيلي: طائرتان مسيّرتان أطلِقتا من لبنان تسقطان ف




.. حرب غزة.. مصدر فلسطيني مسؤول: السلطة الفلسطينية لن تدير معبر