الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في فلم (غراند تورينو) لكلنت ايستوود

حسين علوان علي
(Hussain Alwan)

2015 / 10 / 7
الادب والفن


حين يغني راعي البقر اغنياته الاخيرة.. كلنت ايستوود حكيما هذه المرة.
قراءة في فلم (غراند تورينو) لكلنت ايستوود
حسين علوان علي

ولد كلنت ايستوود (Clint Eastwood) في May 31, 1930 في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا وبدأ حياته مدربا للسباحة في معسكرات الجيش الامريكي قبل ان يتجه للتمثيل ويبدأ حياته الفنية الجادة مع مسلسل روهايد (Rawhide) الشهير الذي بدأ العمل به عام 1959.
عرف عنه انه كان ينوع الادوار التي يمثلها ضمن نفس الشخصية التي تميز بها دوما وهي شخصية الغريب ذو الماضي المظلم الذي من الافضل ان لايتم تذكره.. اولئك الذين يريدون التعويض بفعل الخير عن شرور ارتكبوها في السابق.. الصورة النمطية التي اعتمدها ايستوود عنوانا رئيسيا لمسيرته الفنية الطويلة الحافلة، صورة قد تبدو مغرقة في النمطية خارج الحدود الامريكية، لكنها تبدو هنا مألوفة تماما.. وربما واقعا معاشا يمثل جانبا من جوانب الهوية الامريكية في انها امة تورطت فيما سبق باغتصاب الارض من السكان الاصليين ومارست الاستعباد بحق الافارقة السود، امة تحاول على الدوام التعويض عن ذلك الماضي المظلم وتسعى لان تمتلك صورة مشرقة، لكن فداحة ذلك الماضي لايمكن تجاهلها ببساطة وهي تبقى حاضرة في الذهن على الدوام بشكل او اخر في أعماق الثقافة الامريكية على المستوى الشخصي أو الفني أو الابداعي على مختلف مستوياته.
ارتبط ايستوود اجتماعيا بعدة نساء وله منهن سبعة ابناء.. حصل على اربع جوائز اوسكار وهذا رقم مهم في هذه الجائزة الصعبة، مثّل 66 فلما واخرج 35 وانتج مثلها،اعد الموسيقى التصويرية لاكثر من عشرين فلم كان مؤلفا موسيقيا في 7 منها..بل هو حتى شارك مغنيا بصوته الخافت الاجش في فلم (غراند تورينو) الذي نتحدث في هذا المقال عنه.

فيلم غراند تورينو:

انتج فلم غراند تورينو (Gran Torino) عام 2008 من اخراج وتمثيل ايستوود وصورت مشاهده في احد احياء مدينة ديترويت حيث يفترض ان تسكن مجموعات من الاقليات العرقية المهاجرة الى امريكا ومنها اقلية شعب همنوغ الذي يعيش بين عدة دول في غرب اسيا ومنها فيتنام، وقد ساعد ابناء هذا الشعب القوات الامريكية في حرب فيتنام مما عرضهم لاضطهاد السلطات الشيوعية فاختاروا الهجرة الى امريكا وتفؤقوا بين الولايات الاميركية ومنها ولاية ميتشغان وحاضرتها الرئيسية ديترويت مدينة السيارات مثلما توصف عالميا اذ تقع فيها مصانع فورد للسيارات ومكاتب شركات السيارات الرئيسية مثل جنرال موتورز وغيرها.
يجاور بطل الفلم (والت كوالسكي) عائلة من هذه الاقلية، وهو عامل امريكي قضى عمره يعمل في مصانع فورد للسيارات ،الشركة الصانعة للسيارة القديمة التي يقتنيها ويركنها في كراجه ويهيم بها شغفا ويهتم بنظافتها ومظهرها المثير للانتباه ، سيارة غراند تورينو التي سمي الفلم باسمها .
تقاعد العجوز كوالسكي بطل الفلم عن عمله ليعيش وحيدا في منزله مع كلبه بعد وفاة زوجته.. هذا نموذج امريكي تقليدي، ظاهرة يمكن ان تجدها في كل حي امريكي بمختلف مستوياته العمرانية والمادية والاجتماعية..لاوجود هنا لموضوعات الخيال العلمي او الجريمة المنظمة او الاثارة الهوليودية..لانساء ولامخدرات ولاقتلة محترفون..حبكة بسيطة يمكن ان تجدها تدور في اي مكان من هذه القارة الشاسعة.. لكن من يديرها هذه المرة هو ايستوود، يطبعها بطابعه الخاص ويريد منا ان نراها بمنظاره هو وبرؤيته التي لايمكن بالتأكيد تجاهلها في خارطة الابداع السينمائي المعاصر، ليس لانها الافضل، او الاهم، بل ان هناك الكثير مما يتجاوزها اهمية وحرفية بمقاييس اخرى لاتهمنا هنا.. لكن لانها موجودة ومتحققة، وفيها بعد ابداعي غير خاف لفنان مخضرم يبدو وكأنه قرر ان يغني اغانيه الاخيرة عبر تأريخ حافل تجاوز النصف قرن من عمل مستمر ومثابر في عالم الفن السابع.
كوالسكي يعاني من نقطتين سوداوين يجدهما تنغصان حياته..الاولى ماض اسود يتمثل في مشاركته في الحرب الكورية كجندي قتل ببندقيته 13 عشر محارب كوري، احساس يتفاقم في دواخله بأنه لم يكن يستحق لأن تكون يداه ملطختان بالدماء وهو الرجل البسيط المسالم،العامل المجد والملتزم ودافع الضرائب المجتهد ورب العائلة، لقد تم اجباره على فعل ذلك بدعوى الدفاع عن الوطن ( لقد تم من خلال هذا المنطق المخاتل الدفع بالملايين الى محارق الحروب في مختلف انحاء الارض وكان يصعب التمييز هل ان الدفاع كان من اجل الوطن أم من أجل النظام السياسي الحاكم )، احساس كان كوالسكي يعرف ويوقن في سريرته بان سيقوده يوما الى الهلاك ليتخلص من ربقته وهول ذكرياته المثقلة بالدماء.
النقطة الاخرى التي لاتقل فداحة عن الاولى هي انعدام العلاقة الطبيعية بينه وبين ابنيه المتزوجين الذين يعيشان بعيدا عنه ويكسبان جيدا في اعمالها، خصوصا بعد وفاة الزوجة والام وانفراط عقد العائلة تماما .. الفجوة الشاسعة بين الاجيال التي تتضاعف سماتها في المجتمعات الرأسمالية وتغدو ألما ممضا لاجيال من اباء يرون ابناءهم وقد هجروهم ولم يعودوا يلتفتون الى نصائحهم او يلقون اي بال لخبراتهم المتراكمة في الحياة، ولذلك بالتحديد وبسبب شعور قوي بالوحدة يجد نفسه مجبرا على تواصل لايرغب به مع جيرانه من الفيتناميين الهمونغيين الذين يعيشون بدورهم محنة المهاجرين الجدد في التواصل مع مجتمع غريب لاينتمون ثقافيا اليه بشيء.
هاتان الوحدتان الرئيسيتان من الحبكة متشابهتان، كائنات تنفصل عن جذورها، كائنات تجد نفسها مجبرة على التلاقي، مادام الخارج يرفضها ويضيق الخناق عليها.
هكذا يجد السيد كوالسكي نفسه مجبرا على حماية ابن عائلة الجيران الشاب من العصابات الهمونغية التي تنتشر في الحي وتحوم حوله لينظمّ اليهم وينخرط في شرورهم وهو الشاب البريء القليل الخبرة، حتى انهم يجبرونه على سرقة سيارة غراند تورينو التي يمتلكها جاره العجوز المعقد المزعج، وبالفعل يسعى الشاب لسرقة السيارة، لكن كوالسكي يضبطه متلبسا بالجريمة ويهجم عليه في الكراج شاهرا بوجهه بندقيته، غير ان الشاب ينجح في الهرب ويسقط كوالسكي على الارض مدمى بسبب سنه المتقدم وعدم قدرته على الامساك بالشاب اليافع الذي يطلق ساقيه للريح هاربا.
يسكت كوالسكي (كلنت ايستوود) على هذه الجريمة ويستمر في حياته العادية يحتسي الجعة الرخيصة جالسا امام باب منزله، يقص عشب حديقته، ويغسل على الدوام سيارته الاثيرة العتيقة (فورد) من نوع غراند تورينو، السيارة المشهورة في الحي بكونها انتيكة نادرة وعربة جميلة من الماضي البعيد .
"الهمنغاويون شعب تقليدي وصاحب اعراف" هكذا تقول (سو) الابنة الشابة للعائلة الفيتنامية واخت الشاب (تاو) وهي شابة ذكية وجميلة وذات ثقافة امريكية تنتمي الى الجيل الثاني من المهاجرين الفيتناميين الهمونغيين ، الاجيال الثانية في امريكا عادة ماتحفظ شيئا ما من تراث الاباء، ولكنها تنتمي برمتها الى المجتمع الجديد، بل وتمارس انماط المجتمع الامريكي باسلوب اقوى من قدماء الامريكيين بسبب التحدي التي تمثله عوائلهم التي هاجرت بهم صغارا وتريد منهم الابقاء على هويتهم بينما يجدون انفسهم منساقين بشدة للثقافة الجديدة .. وبسبب ان الفيتناميين اصحاب اعراف يتمسكون بها تمسكا كبيرا فقد جن جنون العائلة حين علمت بان ابنها حاول سرقة سيارة الجار وفرضوا عليه ان يعمل لاسبوع تحت امرة الجار صاحب السيارة لكي يحقق ندمه على فعلته الشنيعة امام العائلة، وفعلا يتم عرض خدماته على العجوز الذي يرفض في البداية، ثم يجد نفسه مجبرا بسبب ذلك العرف وان عائلته سترفض ابنها الى الابد لو هو لم يعمل لدى ضحيته ويفي بدينه، يقبل العجوز في النهاية ويكلفه باعمال غريبة وجد فيها طرافة ولم ياخذ الامر بجدية .. وذلك بأن يعد مثلا العصافير على الاشجار، او ان يصصلح سقف منزل مهجور في الحي، وتبدأ عائلات بحجز مواعيد لكي يعمل الشاب لديهم كأن يخلصهم من عش دبابير تحت النافذة وماشابه..هكذا تنشأ علاقة ودية بين الاثنين، ويقوم العجوز بمساعدة الشاب للعثور على عمل عند معارفه، وما ان يبدأ الشاب (تاو) بالعمل حتى يبدأ افراد العصابات بمضايقته اكثر من السابق ثم الاعتداء عليه بالضرب وبإطفاء سيكارة على وجهه ، يثير ذلك غضب كوالسكي المريض الذي يبصق دما ويذهب مع بندقيته لضرب زعيم العصابة وتهديده بعدم المس بصديقه الشاب (تاو).
تسوء الامور كثيرا بعد ذلك حيث تعمد العصابة الى الهجوم على بيت الشاب بالبنادق الرشاشة، يختطفون (سو) ويشبعونها ضربا حتى تعود الى البيت وكأنها جثة هامدة.
سكت الفيتناميون بعد هذا الاعتداء لانهم لايريدون الاتصال بالشرطة وقرروا الابقاء على الحدث سرا في محيط الجالية، لكن كواسكي لن يسكت، لقد شعر هو بنفسه بالاهانة لانهم اعتدوا على اصدقائه الصغار ( سو وتاو ).. الغرباء الذين كون معهم علاقة جميلة لم تربطه حتى بأبنائه وربما وجد فيها تعويضا عنهم، شعر بالاهانة والقهر لان ذلك حدث بسببه فهو من هدد افراد العصابة ومضى اليهم ببندقيته مهددا. يجيئه بعدها تاو الشاب غاضبا ويطلب مساعدته في الانتقام عن طريق قتل افراد العصابة.. يفهمه العجوز ان قتل رجل لاي سبب كان هو فعل شنيع يمكن ان يبقى يدفع ثمنه طوال حياته ندما، مثلما يدفع هو بنفسه ثمن مافعله في كوريا، بالنتيجة يغلق كوالسكي باب المنزل على الشاب ويذهب بنفسه لينتقم طالما ان يداه ملطختان بالفعل بالدماء، يذهب لينتحر بالاحرى..فهو يذهب الى العصابة متحديا ويوهمهم بانه سوف يشهر سلاحه من جيبه ضدهم، لكنه انما (يشهر) قداحة ليشعل بها سيكارته..فيمطره هؤلاء بالرصاص ويموت على الفور.
في وصيته يهب كوالسكي منزله الى الكنسية..ويهب سيارة الغراند تورينو الى جاره الشاب تاو على خلاف ماكان يتوقع ابناؤه.. في النهاية نرى تاو وهو يقود السيارة باسما في شوارع ديترويت..السيارة القديمة الجميلة تمثل هنا رمزالقيم ومثل الاباء، قيم يسلمها كوالسكي رغم كل الموانع الى الجيل الاحدث، ان يبتعد عن الاشرار،ان يعمل ويعيش بعرق جبينه،ان يكون مخلصا لاهدافه وشجاعا في مواجهة الحياة ومحبا للاخرين، لقد ادى العجوز رسالته ومضى ليموت بارادته تكفيرا عن الدماء التي بقيت معلقة برقبته.
قصة هادئة دون ضوضاء ودون تعقيدات عادة ماتصاحب تصوير وانتاج افلام هوليود، فقد عرف عن ايستوود المخرج انه غالبا مايكتفي بتصوير واحد للمشهد السينمائي، واذا كان مدير التصوير محضوظا فانه يسمح بالتصوير لمرتين فقط، يدخل الينا ايستوود من باب واسع وودّي على خلاف ( سمعته ) كرجل كاوبوي يمتهن القتل والعنف، وهو يحق له ان يفخر بهذا الفلم الذي يبجل المعاني الانسانية الكبيرة، الخير،الصداقة،البحث عن السعادة، ليبدو كلنت ايستوود (رجل الكاوبوي الدموي العتيق) وكأنه قد ثاب الى رشده،وضع المسدس جانبا،وقرر ان يعلم الحكمة مثل فيلسوف رواقي قديم يدعو الى التواضع والحياة وفقا للطبيعة، لكنه يعمل في بيئة رأسمالية تعتمد مبدأ البراغماتزم ونفعية القصد من الحياة، فكان عليه ان يوازن بين الاثنين حتى لوكلفه ذلك حياته.

ديترويت
10,29,11








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟