الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذات، واستعادة قوة التراث القديمة في رواية المريض العربي لهدى توفيق

محمد سمير عبد السلام

2015 / 10 / 8
الادب والفن


(المريض العربي) رواية حديثة للروائية المصرية المبدعة هدى توفيق، صدرت في طبعتها الأولى عن دار روافد للنشر بالقاهرة، سنة 2015، وتستعيد الساردة / البطلة فيها التراث في نوع من التناظر التقني في فعل الحكي؛ لتشكيل وعي ممكن مغاير، ومختلف، يحور فيه النص البنى الاجتماعية، والحضارية المهيمنة على البطلة، ومجموعة أخرى من الشخصيات العربية التي تعاني من صعود نموذج الصراع العبثي بين الأنا، والآخر، أو آلية الألم، أو سطوة التهميش، وغيرها من الأزمات التي تضع الهوية في حالة من المفارقة مع قوة جلجامش القديمة، أو حيل السندباد البحري في تحقيق النجاة، والعودة إلى بغداد؛ ومن ثم ارتكزت الساردة على تناظر الأزمنة؛ كي تستعيد صورة البطل الأسطوري داخل الوعي المبدع للساردة بصورة تمثيلية، تغيب فيها الذات المتكلمة في تشبيهات جلجامش، أو عشتار، أو السندباد؛ كي تتجاوز الواقع، والأزمة، وتشكل وعيا آخر بالحضور، يقوم على هوية إبداعية جديدة، ويسهم فعل الحكي في العبور من الحاضر إلى مزيج من الماضي، والمستقبل، وتجاوز خبرة الألم باتجاه التناغم، والتأمل الذي يشبه حالة النيرفانا في الثقافة الهندية؛ ومن ثم تتسع حدود الذات انطلاقا من الفاعلية الداخلية للتراث، ولقائها بأفكار التجاوز العالمية.
وابتداء من عتبة العنوان / المريض العربي، نلاحظ تناص العمل مع رواية (المريض الإنكليزي) لمايكل أونداتجي؛ فكان البطل يسترجع فيها صور القطيع، والزرافات، والرجل ذي الذراعين المرفوعتين، وغطاء الرأس، وأشكال السابحين في الكهف، وتمنى أن يموت في كهف معزول كهذا في سياق إصابة محبوبته كاثرين.
(راجع، أونداتجي، المريض الإنكليزي، ت:أسامة إسبر، مراجعة: سعدي يوسف، دار المدى بدمشق، ط2، 1997، ص 167، 168).
تداخلت المراحل العتيقة من الحضارة في وعي، ولاوعي بطل المريض الإنكليزي، وأثرت دلالات هويته الأخرى المتجاوزة للصراع المهيمن في سياق نهايات الحرب، مثلما تستعيد وردة – عند هدى توفيق – صورة جلجامش كبطل أسطوري متجاوز لخبرة الألم لديها، كما يستنزف حالات التهميش، والخضوع للصراعات العبثية المحيطة بالذات، والتي تشبه ثور السماء، وملك غابة الأرز في الأسطورة؛ فانتصارات جلجامش القديمة تقوم بتعديل نصي لوضع الذات / المريض العربي الراهن.
تكمن قوة المريض الإنكليزي في ذاكرته، وأخيلته الفنية المتجاوزة لبنية جسده المحروق، بينما تكمن قوة وردة في رواية هدى توفيق في وعيها الآخر بوجودها النسبي، وإنتاجيتها، أو فاعليتها الممكنة في المستقبل؛ ومن ثم فالمريضة تتهيأ لفعل يستعيد الأسطورة، ويسعى لتفكيك كل من هيمنة المرض، والأزمة الحضارية، أو يتجاوز – في نوع من الأداء، والصيرورة السردية الجمالية – الأخطار المتوالية مثلما فعل السندباد البحري المستدعى من ألف ليلة.
ويمكننا تتبع مجموعة من الدلالات الثقافية المرتبطة بأحداث، وشخصيات العمل؛ مثل الانتقال من تمثل الألم إلى الحياة الافتراضية، والحكي كتجاوز للحضور الذاتي، والحضاري، والمونتاج واستعادة فاعلية المهمش، والبحث عن حضور نسبي متناغم.
أولا: من تمثل الألم إلى الحياة الافتراضية:
يتمثل وعي وردة خبرة الألم الآلية، والحسية التي تلت جراحة بالساقين عقب حادث مأساوي مفاجئ؛ فتصف الآلام بنيران فوق احتمال القدرة البشرية، ويوازيها الصراخ المجرد كتجسد آلي لتمثل الوعي بالخبرة الحسية من جهة، وكتمرد على الآلية الجسدية نفسها من جهة أخرى؛ وكأن الجسد يفكك مركزية الحضور باتجاه الحضور الطيفي الإبداعي المتخيل؛ ومن ثم تتحول خبرة الألم لدى البطلة إلى تجاوز إبداعي مستمر، يقوم على اللعب الخيالي، والاتحاد بعالم التشبيه الافتراضي الذي يكمن في الحقيقي كما هو في تصور بودريار.
يزدوج كل من الخير، والشر في تمثل الوعي للألم في النص؛ وهو ما يذكرنا بحديث شوبنهور عن تصورات العقل، وعلاقتها بالإدراك، والتقاطع المشترك مع مجالي الخير، والشر؛ إذ يرى في كتابه (العالم تمثلا وإرادة) أن العقل أنثوي بطبيعته؛ فهو يهب فقط بعد أن يتلقى؛ فالتصورات توجد على أساس من تمثلات الإدراك العياني السابقة عليها، ويناقش مجال السفر الذي يقترن بالخير في السرور، واكتساب الخبرات، والشر في الخسائر، والتكلفة.
(راجع، شوبنهور، العالم تمثلا وإرادة، ت: سعيد توفيق، مراجعة: فاطمة مسعود، مج1، المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، ط1، سنة 2006، ص 121، 122، 123).
إن الزيادة السلبية في آلية الألم، والتي تمثلت في أخيلة النار في وعي البطلة، قد اقترنت بخبرة التأمل، والكتابة، والامتزاج بالوجود التشبيهي الآخر في العالم الافتراضي، ومدى تداخل الأسطوري بالصيرورة السردية للبطلة في مقاومتها للألم، ولخطاب إقصاء الآخر بشكوله الحضارية المتنوعة.
لقد شكلت البطلة حضورها الطيفي الجديد من اقتناء إسطوانات الكتب، وكتابتها للشعر، وقيامها بدور تشبيهي يعيد تمثيل شهرزاد في قصص ألف ليلة مع صديقها العراقي نور على شبكة الإنترنت، كما أن حضورها الشخصي قد امتزج في وعي، ولاوعي نور بمحبوبته لارا التي قتلت في صراع عبثي؛ وكأنها انتقلت من ثقل الألم، وزيادته الممثلة في أخيلة النار السلبية إلى تجليها كصورة طيفية، أو نسخة تشبيهية في العالم الافتراضي، كما نلاحظ ظهور نور، واختفاءه المفاجئ في عالم الصورة؛ وكأن الحضور صار ملتبسا باختفاء أساسي كما هو عند بودريار، ثم تنتقل البطلة / وردة من كونها راوية للأسطورة إلى اختلاط شخصيات الأسطورة لديها بعوالم الوعي، واللاوعي عقب اختفاء نور؛ وكأنها تتطور في صيرورة السرد من خلال تناظر نص الأسطورة بالواقع؛ وهو ملمح ما بعد حداثي، يؤكد فاعلية النص / المهمش في السياق الحضاري الراهن.
وقد تداعت مجموعة أخرى من الشخصيات – في سياق الكتابة – مع المريض العربي الممثل بصورة رئيسية في شخصية وردة عقب الحادث المأساوي، وانفصالها عن زوجها الذي انشغل بالسفر مع امرأة من كندا؛ ومن هذه الشخصيات نور العراقي الذي وجد الحب مع لارا، وقد فقد الشعور بقيمة الحياة عقب مقتلها، وأسماء ذات الشخصية الحديدية في مواجهة الفراغ، والألم، وحكايات اللاجئات السوريات، ومواجهتهن لقوانين الضرورة.
وتحاول الساردة / البطلة أن توجد عالما بديلا لهذه الشخصيات في وعيها المبدع، وعوالمها الافتراضية التي قامت على حكي انتصارات جلجامش، وبخاصة على ثور السماء، وحيلة السندباد إزاء طائر الرخ؛ وكأنها تخلص هذه الشخصيات من خبرات الألم باستعادة فعل الحكي، والتوحد بالقوة الأسطورية القديمة؛ مثلما عاين المريض الإنجليزي كهف السابحين، واستمد منه قوة جمالية تقاوم مركزية الموت، أو المرض، وإن تهيأ المريض في رواية هدى توفيق إلى الأداء، والإنتاجية المبنية على حكمة الماضي، وفاعليته الثقافية الجديدة.
ثانيا: الحكي كتجاوز للحضور الذاتي، والحضاري:
ازدوج الحكي في رواية هدى توفيق، بولادة أدوار تمثيلية نصية جديدة بديلة عن الوجود الشخصي في الواقع؛ وهو ما يعكس التجاوز الداخلي الكامن في الذات لتاريخها المحمل بالأزمات، والألم، وللخطاب الحضاري المهيمن الذي يقوم على الإقصاء، والصراع، والتعارض بين الأنا، والآخر.
لقد اتخذت وردة دور والدة نور المتوفاة، بينما اتخذ هو دور السندباد، وقرر السفر بالفعل، بينما اختلطت صورة أم نور، بفعل الحكي القديم، ويمثله طيف شهرزاد داخل البطلة؛ ومن ثم تحقق فعل التجاوز لخبرة الألم الحسية، واكتسبت الشخصية قوة الماضي، وفاعليته وانتصاراته في مواجهة الحيات، والوحوش التي تعيد تمثيل الخطاب المهيمن، ولكن في سياق خيالي آخر يخلو من تجليه كمسيطر.
تقول الساردة:
"وتذوق سندباد متعة السفر، ولذة التنزه بين البلدان، وبعد أن عاد من رحلته الأولى لم يعد يستمتع بالدعة والراحة مثلما كان يستمتع بها في سابق عهده، رغم ما حقق خلالها من ثروة، وأبدا لم يكف عن السفر إلا حين تقدم به العمر وضعف جسده.
- إذا وردتي، سندباد هذا قدوتي ..
- نعم يا نور.
- أعرف، أنت تحلم بالتجول والسفر بعيدا وطويلا ...
- هذا قدري يا وردة، لم يعد لي عنوان ولا وطن ولا أهل ...
- تصبحين على خير أمي.
- تصبح على خير يا سندباد بغداد." ص 110، 111.
انتقلت وردة من وظيفة شهرزاد المتخيلة، إلى حضورها التاريخي في النص، ثم إلى وظيفة والدة نور؛ وكأن الذات العربية تتطور بين الأنا، والآخر، والتراث في آن، بينما انتقل نور من تاريخه الشخصي إلى وظيفة سندباد البحري الأدبية؛ وكأن الذات تتبادل المواقع التاريخية، والأدبية، دونما انفصال؛ لتؤكد الساردة أن الحكي مفتتح لذوات تاريخية، وحضارية جديدة تستعصي على التحديد الصارم المسبق، أو البقاء على هامش خطاب مسيطر واحد مشبع بالأزمة الحضارية.
ثالثا: المونتاج، واستعادة فاعلية المهمش:
يتجلى كل من تراث ملحمة جلجامش، وحكايات ألف ليلة، كعنصر ثقافي مهمش في اللحظة الحضارية التي تكتب الساردة سيرتها فيها، ولكنها تومئ بفاعلية هذا التراث عبر مستويين من الدلالة؛ الأول التوحد الداخلي بشخصيات التراث، والثاني إخراج هذه الشخصيات، والأحداث إلى مستوى لحظة الحضور، واكتسابها قوة التناظر عن طريق تقنية المونتاج أو التجميع؛ فنصوص الملحمة تتقاطع مع حديث الساردة / البطلة مع نور في العالم الافتراضي من جهة، وتندمج بوعي الساردة الآخر بوجودها، وتطورها الإبداعي من جهة أخرى.
ويرى جان إيف تادييه في كتابه (الرواية في القرن العشرين) أن المونتاج هو التجميع، ويقوم على منهجية، ويمثل له برواية النخل البري لوليم فوكنر؛ حيث تتداخل قصتان؛ النخل البري، والرجل العجوز، ونمر من فصل من الأولى إلى فصل في الثانية.
(راجع، جان إيف تادييه، الرواية في القرن العشرين، ت: د. محمد خير البقاعي، الهيئة العامة للكتاب، سنة 1998، ص 88).
وقد خصصت الساردة جزءا كبيرا من روايتها للملحمة في سياق حديثها مع نور، وقد كانت في مرحلة ما بعد الجراحة، والآلام، بينما كان يعاني هو من أزمات العنف العبثي، وفقدان محبوبته؛ وكأن فعل الحكي يؤسس لما بعد المريض العربي، أو لاستعادة قوة شخصيات التراث المهمشة، ومنحها فاعلية نصية / ثقافية جديدة؛ فثمة تناظر زمني يكسب الماضي حضورا جديدا في وعي، ولاوعي الساردة، ونور، وعلاقة اختلاف بين قوة جلجامش، وضعف المريض العربي، وتومئ هذه العلاقة إلى نوع آخر من الأداء الذي يختلط فيه الماضي بفاعلية حضارية جديدة في المستقبل.
إن بحث جلجامش المؤجل عن الخلود، يتجدد في بحث الشخصيات عن بكارة جديدة للفعل الحضاري، أو عن حكمة نسبية تتعلق بالحضور الشخصي، وتفاعله بالعالمي في الوقت نفسه.
وتشبه الأزمات الحضارية كل من ثور السماء في جلجامش، والغول / آكل لحوم البشر في السندباد البحري؛ ومن ثم فإن صعود التراث في النص، يوحي بتعديل الأزمة، أو تجاوزها في مسافة بين النص، وواقع الشخصيات، وصيرورتها.
رابعا: البحث عن حضور نسبي متناغم:
توغل الساردة في التجربة الذاتية القائمة على التأمل، والقراءة، والحكي عقب الحادث؛ ومن ثم تتحد بحكمة جلجامش البشرية الأخيرة، وتبحث عن إنتاجية حضارية بديلة عن الماضي، وأنساقه الثقافية السائدة، وتبحث عن صفاء ذاتي يشبه حالات النيرفانا، وتأملات الزن.
تقول:
"روحي وعقلي تحررا من كل الحسيات؛ الألم، الفراق، الحب، والشهوة، والكره، والمسكنات، وذاتي مسيطرة عليها. وإحساس عال بالخفة كريشة طائشة تهفف في الفضاء الطلق بكل رشاقة، وانسيابية وهيام، ولم يعد شيء يزعجني، روحي صافية خالية من كل ضغائن، ودناءات البشر". ص 202.
وكانت قد أشارت قرب نهايات أزمتها بأنها هي البطل جلجامش، وهي المغامر أنكيدو؛ وكأنها تتوحد بالصور الجمالية للتراث؛ لتكتسب فاعلية نسبية جديدة ممزوجة بخبرة التأمل، والصفاء الروحي؛ فقد منحها الغياب في التأملات، والعوالم الافتراضية الاستعارية نوعا من التناغم، بينما أكسبتها الأسطورة قوة مستعادة كامنة في هويتها وصيرورتها؛ ومن ثم وصفت العكاز بأنه رفيقها؛ فهو يحمل تاريخ الأزمة، ويجسد الفعل الأدائي النسبي المتجاوز لخبرة الألم نفسها.
وبصدد علاقة الذات بالأسطورة، يرى فراس السواح أن الأسطورة قد ارتبطت ببدايات مغامرة كبرى مع الكون، وقفزة أولى نحو المعرفة، ونظاما استوعب قلق الإنسان الوجودي.
(راجع، فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين بدمشق، ط11، 1988، ص 19).
وقد طرحت رواية هدى توفيق إشكالية التحول النصي للعناصر الثقافية الكامنة في الحكايات، والأساطير، والتي شكلت وعيا ذاتيا آخر بالهوية الثقافية؛ إذ أعادت البطلة اكتشاف قوتها الداخلية من خلال لقائها بتلك النماذج المستعادة، وتجسدت فاعلية العوالم الافتراضية في علاقتها بنسق التعارض بين الأنا، والآخر في اللحظة الحضارية الراهنة، ومنحت الساردة / البطلة صفاء داخليا يتصل بالآخر / العالمي.
د. محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه