الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توهج الذاكرة الفنان إبراهيم جلال وغربة المسرح في وطنه

فاضل سوداني

2003 / 1 / 13
الادب والفن


  
                                                                                               
                 

 
 كان فضل المخرج العراقي  إبراهيم جلال على المسرح العراقي والعربي هو فرض  ملكة الجدل ، بمعنى التحاور والجدل مع النص والممثل والجمهور والواقع ، لانه يفهم التاريخ  الإنساني على أنه حلقات مترابطة لايمكن الفصل بينهما، فيعطي أهمية ومكانة للفلسفة في العرض المسرحي . ولقد ساعده فهمه  لنظرية برخت على التوصل الى اسلوب شعبي  في المسرح ، فتخلص من ذلك المفهوم الذي لم يكن مستندا على تبرير درامي ـ  فلسفي كما في مسرحياته الاولى  .
وقد  كان يؤكد دائما  على ضرورة  إبراز التناقضات الاجتماعية والفهم الصائب للعلاقة الجدلية بين القديم والجديد ، اعتمادا على إستلهام ودراسة واعية للجذور الاصيلة للقديم من اجل ان يكون الجديد منسجما مع تطور العصر . و هذا هو منطق الحياة القائم دائما على التناقض والصراع ، فكل يحمل نقيضه وعليك ان تبحث عنه من خلال رؤيتك الخاصة للكشف عن الجوهر .
 وتأكيد المخرج ابراهيم جلال دائما على هذه المفاهيم يوضح فهمه للجدلية في الابداع الفني ، ويدفعه الى ان ينظر للقضية الاجتماعية من منظور مناقشتها ضمن المفهوم المعاصر للصراع والتناقض والتجديد ، فالواقع يحمل في داخله تناقضه الحاد . ومن هنا جاء حرص ابراهيم جلال على طرح السؤال الصعب في الفن : ماهو الفن ؟ وماهي المشكلة ؟ ومن هو المتلقي ؟
ان مواجهة إبراهيم جلال لهذه الاسئلة دفعته الى عدم الفصل بين مفهومه للفن ومعايشته للواقع والحياة وفهم متناقضاتها.فالمسرح بالنسبة له لا يقدم اجوبة جاهزة بل أسئلة متواصلة تثيرالقلق لكنها تمنح سعادة الاكتشاف.
لان وعي المخرج هو حصيلة للوعي الاجتماعي والفكري  ،لذا فانه حسب راي برخت يأخذ مهمة الراوي لحادثة تاريخية او واقعة معاصرة  لها خلفياتها الاجتماعية ولايمكن للمخرج ان يحقق هذا ـ حسب منطق برخت ـ  مالم يعمد الى مخاطبة فكر وعقل الانسان ، اضافة الى احترام عواطفه النبيلة .واعتماد المخرج المسرحي البرشتي على هذا المبدأ يمنحه القدرة على ان يكون مفكرا في داخل عمله .

ولهذا كان ابراهيم جلال يحاول الوصول وامتلاك هذا الاسلوب المتميز في المسرح من خلال المزاوجة بين نظرية برشت الملحمية وبين واقعية ستانسلافسكيي العاطفية .وقد  اخذ ابراهيم جلال  من برشت  الجدل العقلي واسلوب الاخراج الملحجمي ومن ستانسلافسكي  الاسلوب الواقعي والحس الشعبي . وهو لم يفهم برشت على انه قاموس لمقولات فلسفية وعقلية جامدة ، وانما استوعبه ايضا من حيث ان هذه المقولات لا يمكن ان تصل الى الجمهور في كعاطفة  ثرثارة  ، حتى لايكون المسرح متحفا للشمع وألا يكون الممثل مهرجا فكهاٌ ، لهذا فان المخرج يؤكد دائما  على المزاوجة بين الفكر ، والعقل وجذوة الروح .

لقد كان ابراهيم جلال في بداية عمله الفني مولعا بضخامة الديكورات مما يساعده على تشكيل حركي(ميزانتسين) خارجي للممثل . ولكن في عروضه المسرحية الاخيرة وخاصة مسرحيات برشت استغنى عن كل شئ تقريبا معتمدا على الفضاء كخلفية للحدث والممثل ومستغلا  اجساد الممثلين كجزء من سينوغرافيا العرض المسرحي . واصبح واضحا بان ابراهيم يتعامل مع الجوقة والمجموعات وكأنها شخص واحد يحركها بما يتناسب مع منطق العمل المسرحي . وبالرغم من انه كان يسمع موسيقى جسد الممثل ويحاول ان يعبر عنها بصورة فنية متكاملة إلا انه حاول دائما وبعناد إلغاء عناصر الايهام في عروضه المسرحية لانها لاتتناسب مع عقله المسرحي الجدلي .   
لقد اخرج ابراهيم جلال مسرحية البيك والسايق   من إعداد الشاعر الجزيل  صادق الصائغ عن مسرحية برشت  (السيد بونتلا وتابعه ماتي)   ، فتحولت لديه الى عرض شعبي عراقي فيه الكثير من الشاعرية ، خاضعا النص للبيئة العراقية او العربية والراوية او الجوقة البرشتية  تحولت الى  قصخون  عراقي يروي لمستمعيه غناءا وشعرا ماحدث من غرائب في قلعة  ( البيك )بونتلا الذي تحول لدى عرض  اخراج ابراهيم جلال وفي نص  المعد  شاعرنا الصائغ  ، الى شبيه بإقطاعي عراقي ، كذلك فان مشكلة ماتي  أصبحت مشكلة أي عامل عراقي فقير . وحاول المخرج إستغلال الاغنية  الشعبية العراقية للربط بين المشاهد والتعليق على الاحداث  . ان مهمة ابراهيم جلال  المخرج قريبة من مفهوم المسرح الملحمي حيث يطالب برشت المخرج ان يكيف النص الى احتياجات مجتمعه وان يخضعه الى الاساليب الفنية والتراثية لذلك المجتمع . ومن اجل هذا يعمد ابراهيم جلال الى الحذف والتغير في النص العالمي. ومن اجل تحقيق رؤياه الاخراجية لايمنع نفسه من اخذ بعض المشاهد الاخراجية من الاخراج العالمي ـوخاصة في مسرحيات برشت ـ  لمعالجة ذات المشهد .فمثلا مشهد خطبة بونتلا ولقاؤه بصاحبة الصيدلية وبائعة اللبن … الخ ، ان هذا المشهد معروف ومكرور على خشبة المسرح العالمي وجلال يعتمده حرفيا في اخراجه  .

وكذلك المشهد الاخير عندما يدعو  ( بونتلا) سائقه  (ماتـي) لصعود الجبال ، فان تركيبة المشهد والديكور المكون من منضدة وفوقها كراسي  وحركة لاممثل  والميزانتسين معروفة في الاخراج الالماني او العالمي ، وعندما يلتزمه جلال في اخراجه للمسرحية فانه لا يعد هذا سطوا على افكار مخرج اخر ، ولايعني ايضا بان فناننا ناضب الخيال في تحقيق المشهد ذاته برؤية جديدة ، وإنما يعني تكاملا للعقل والخيال الفني باختلاف المكان والزمان .

ان المنهج الذي اتبعه جلال في تقريب مسرح برخت من وعي وتقاليد الانسان والبئة العراقية إعتمده عند اخراجه لمسرحية دائرة الطباشير القوقازية  أيضا والتي اعدها للمسرح الكاتب عادل كاظم بإسم دائرة الفحم البغدادية .ان هذه المسرحية كانت متفردة  من خلال اعتماد مخرجها على تطبيق منهج برشت في مجادلة عقل وعواطف الجمهور ، اعتمادا على الحس الشعبي للانسان العراقي وكذلك استخدام الاجواء والاساليب الفنية في التراث الشعبي وادخاله واستخدامه للاغنية الشعبية كوسيلة فنية من وسائل الاخراج .

كان يمكن لهذه المسرحية ان تشكل علامة بارزة في تطوير المسرح العراقي او العربي لو قدر للجمهور مشاهدتها حيث عرضت يوما واحدا فقط وبعدها منعت بقرار من وزير الثقافة العراقي طارق عزيز آنذاك  بحجج غير مقنعة حتى للممثلين انفسهم . غير ان السبب الحقيقي هو الخوف من عرض سلوك بطل المسرحية  (أزدك )( مثله الفنان منذر حلمي ) الصعلوك والسكير والمبتذل والسطحي والمستغل  و نتيجة لظروف استثنائية يصبح حاكما وقاضيا على المدينة  . وبالتاكيد  كان سبب المنع  هو الخوف من ان يربط   الجمهور بين وصول أزدك لمنصبه مع الكيفية التي استلم بها صدام حسين السلطة في العراق كنتيجة لظروف استثنائية  واضطرابات مشابهة لكنهم نسوا بان ازدك هذا حكم بالعدل  وهو على الكرسي حيث كان ضميره مرشده . ان منع هذا العرض اثبت خوف السلطة من تاثير افكار برشت على وعي  الجمهور المعاصر .

ان ابراهيم جلال مخرج دائم القلق ، وهذا يدفعه الى التاكيد بان العرض المسرحي يبدأ من البروفة الاولى ويستمر تأثيره على الممثلين ، ومن ثم  تأثير العرض والاسئلة الصعبة التي يطرحها على الجمهور  حتى بعد خروجه من المسرح لمواجهة حياته من جديد . اذن اين هوى ذلك ااشهاب الناري ؟ وماهي الكلمة الأخيرة التي نطق بها ؟ألا تكون هي صرختنا جميعا لأننا لم نستطع تحقيق مسرحنا الذي نبغي عندما سرق زماننا الإبداعي عندما بدأ التخطيط  للويلات والحروب اللامجدية ؟أو قد تكون هي كلمته الأخيرة يشكر فيها أحد تلامذته لانه دفع فاتورة الحساب المكلفة عندما رقد الفنان قبل موته  في أحد مستشفيات الكويت ، وكأن مأساة السياب تتكرر كتعويذة في رقبة العراقيين  من جديد ، فالنظام مشغول بحروبه عن آلام الفنان . مات ابراهيم جلال منفيا في وطنه غير انه بالتاكيد لعن كما هي عادته تلك الهوة بين طموح الفنان وفقر عصره . لقد غبن  الفنان لانه عاش في زمن الجهالة  كما  غبن المسرح العراقي أيضا . حقا لقد غادر ابراهيم جلال خشبة المسرح  لكنه نسى معطفه الموشى بالحرير متعمدا في ظلمة المسرح العراقي كقدر سيلاحقنا جميعا . عذرا لاني اعتمدت ذاكرة المنفى في استحضار ذلك الشهاب الذي مر خطفا  في سماء منفتحة على جحيم العراق .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأهلي هياخد 4 ملايين دولار.. الناقد الرياضي محمد أبو علي: م


.. كلمة أخيرة -الناقد الرياضي محمد أبو علي:جمهور الأهلي فضل 9سا




.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 34.5 مليون جنيه إيرادات


.. … • مونت كارلو الدولية / MCD جوائز مهرجان كان السينمائي 2024




.. … • مونت كارلو الدولية / MCD الفيلم السعودي -نورة- يفوز بتنو