الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جداريته حقيقته.. وهو سؤالها : درويش على مفترق النشيد الملحمي

فيصل قرقطي

2005 / 10 / 26
الادب والفن


عن دار رياض الريس في بيروت صدرت مؤخرا "جدارية محمد درويش" (قطع وسط 105 صفحات والغلاف للفنان محمد حمادة) وهي قصيدة جديدة وطويلة غطت مساحة الصفحات كاملة.

والكتابة عن عمل للشاعر درويش، أمر لا يخلو من المغامرة الحادة، لا سيما أن الأعراف النقدية عموما، باتت اليوم تتحرك في دائرة المسموح... وهذا المسموح له ما يبرره ويدينه على السواء.
وآفة النقد والشعر العربيين تتركز في أن النقد لم يتم يتصالح مع نفسه حيال الشعراء الكبار أو الرواد، إن صحت التسمية مثل أدونيس ودرويش وسعدي يوسف، بالضبط مثلما لم يتصالح مع نفسه حيال السماء الشعرية الأخرى، والأجيال الشعرية الأخرى التي حفرت عميقا في الأرض البوار.. أرض الشعر العربي
ودرويش صاحب مشروع شعري يتأسس بصلابة قل نظيرها، لا لجهة القول الشعري المتفرد، وحسب، وإنما، أيضا لجهة محطات شعرية تكونت عبر مواقف ومراحل اشتغل عليها الشاعر منذ أكثر من أربعين عاماً.
ولكن هل يستطيع كل هذا أن ينفي دوراً نقدياً يحاور القصيدة، ويحاول إعادة قراءتها على نحو مغاير؟! والمغايرة هنا تعني محاولة إعادة دمج وعي القارئ في النص، ليتشبع به حتى حدود التشاكل والتناقض.
هذا السؤال يدعو بالدرجة الأولى النقد العربي إلى الإجابة عنه، ليس بالنسبة لدرويش، وحسب، وإنما، أيضا بالنسبة للنتاج الشعري العربي بعامته، ولمختلف الشعراء، لأن درويش وسعدي يوسف وأدونيس، كأن ملوا من صيغ المديح الجاهزة والمفبركة.
تلك التي لا تتعدى كونها قراءة سطحية للنص، بمحصلة اصدار أحكام قيمة تنتج عن ذائقة جمالية ما.. وذلك بعكس مفاهيم النقد والنقدية الجديدة، التي تحاول قراءة النص تحليلا وتركيبا على نحو جديد.
ففي جداريته الجديدة فتح درويش الأسئلة التي كانت مغيبة لزمن طويل، إلى أقصى مدى، إذ نلاحظ أنه بدءاً من العنوان "جدارية محمود درويش" يتداخل الفردي بالجمعي، ويتداخل الاسم الشخصي والعمل الفني.. وهذا السؤال يفضي إلى مساحة في التخييل تطرح استفسارات في صميم العلاقة بين هذين القطبين. وبالتالي يعكس العنوان حالة نصف تجريدية ونصف واضحة في أن إضافة إلى ما تعكسه الحروف المتشابهة تصويريا في متن هذا العنوان مثل الدال والراء والياء والواو والجيم والحاء، مما أعطى تشكيلا بصريا له دلالات ومعان خاصة في حيز الذاتي والجمعي.
وينطلق درويش في جداريته من طرح السؤال الأكثر شراسة، ذاك السؤال الذي يفضي بنا إلى ممرات الصدم ومواجهة ما لا نحب أو نرغب.. إنه سؤال الغياب (الفقد) ومحاولة الإجابة عنه تكمن في تحدية وتعريته وجعله (أي السؤال) ينهزم أمام محاولات فشله التي تتجسد في فعل التعرية تماما.
"هزمتك يا موت الفنون جميعها" .
إلا أن هذه النتيجة، والتي كان حريصا عليها الشاعر، حتمت عليه أن يتخلص من الكثير من الجمل الرومانسية الوصفية والوطنية التقليدية لصالح جمل أكثر اقترابا من الذهنية.. لكنها جمل ذهنية لم تصل إلى مراتب الحكمة، وبالتالي حافظت على إرثها الدرويشي، مضيفة إليه لمعانا جديدا وبريقا من قبس ذهنية الحكمة.
إن الملحمة الدرويشية التاريخية والتي كانت تعتمد البطل الفردي فارسا لها نجد هنا أنه قد حل محلها في الجدارية، الشاعر وأسبابه الذاتية، التي هي بالضرورة هما إنسانيا.. فتنحى البطل الفردي (القضية) لصالح البطل (الإنساني) وهنا تتداخل حدود العلائق والوشائح الفردية والجمعية على السواء ليتأسس موضوعا مفتوحا على جماليات متعددة وجديدة، من جهة، وكذلك، على موضوعات حياتية غير مرتبطة ارتباطا كلياً بموضوع محدد.. إنها مفتوحة على الحياة واحتمالياتها غير المرتهنة في حدود:
الأرض عيد الخاسرين (ونحن منهم)
نحن من أثر النشيد الملحمي على المكان، كريشة النسر العجوز، خيامنا في الريح، كنا طيبين وزاهدين بلا تعاليم المسيح، ولم نكن أقوى من الأعشاب إلا في ختام الصيف.
أنت حقيقتي، وأنا سؤالك
لم نرث شيئاً سوى اسمينا
وأنت حديقتي، وأنا ظلالك
عند مفترق النشيد الملحمي..
وجدارية درويش هي حقيقته الواضحة.. بالرغم من انه سؤالها..ذاك الذي يتجسد عند مفترق النشيد الملحمي.
إنها مرحلة جديدة يدخلها الشاعر مدججا بعشرات (القصائد والفتوحات) ليصل بنا عند مفترق النشيد الملحمي.. هذا المفترق الصعب الذي لا يحسد عليه الشاعر، لأنه يرفض على ما يبدو أن يصبح مؤسساً لمنهج ما.. لشعرية ما لجماليات بعينها، بل إنه ينفتح على المناهج والشعريات والجماليات طراً.
كذلك تتوطد الجدارية في حيز التنازع التصارعي بين الحياة والموت، أي بين ثنائية متفجرة ليس في الهم الشاغل للإنسانية، وحسب، وإنما أيضا في السؤال الفلسطيني الأول الذي أرهق الفلاسفة وأرقهم طراً.
والسؤال بحد ذاته كمعطى دلالي ومعنوي ليس جديدا، بل هو قديم قدم الإنسان نفسه. وما من شاعر فلسطيني أو عربي أو عالمي إلا وكتب عن الموت وسؤاله هذا، ولكن الجديد في الأمر انفتاح هذا السؤال على دلالات خلودية وحيوات جمعية وفردية في آن تبحث عن خلاصها في أتون الصراع الوجودي الدار بين ثنايا خلاص الفرد (الذات) تلك التي لا تنفصل عن مدارها الانساني.. فتارة تجدها في أقصى تخوم الفردية، وهذا هو هو محمود درويش، وتارة أخرى في قاع الجمعي، الذي يتمثل أحلام ومستقبل وتطلعات شعب بأكمله فما هو فردي ليس فرديا فرديا بامتياز.. وما هو جمعي ليس جمعيا بامتياز، ودرويش استطاع في مسيرته الشعرية الطويلة أن يغيب الفردي لصالح الجمعي.. ولكن هنا في جداريته الجديدة حاور فردية الذات من خلال نبوغها في فهم الجماعة وشعائرها ومتطلباتها وموازييك وجودها على نحو متفرد أيضاً
أكثر الشعر العربي والعالمي تغنى بالموت، بل وفتح حوارات معه، ليس لها خواتيم.. هذا الموت الذي هو "الفقد" بامتياز.. لكن درويش هنا في جداريته يحاور الموت باعتباره كائنا حياً لم يفقد صلته بعد مع الإبداع، وبالتالي دخل في مبارزة غبر عادلة مع هذا الـ "موت" ليهزمه من خلال الحوار المتألق.
"هزمتك يا موت الفنون جميعها"
في حلبة الصراع الذاتي الممكن التواصل .. أما في حالة الانتقال الوطني فإنه يستسلم للموت.. كأنه نذر نفسه للتحدي الدائم، وهذا سر أزمته وخلاصه في آن.. إذ قال في مرحلة بيروت:
يا ليت لي قلبك
لأموت حين أموت
في جداريته يسند الشاعر درويش ظهره للجدار، وهو آخر ما تبقى له إذ ينغص الأصدقاء.. والنقاد يطردهم كالمعري.. وكذلك يخون القلب والزمن الطموح والفكرة.. ما أجمل أن يكون المرء أكبر من الموت، وأكبر من الطموح، ليصل إلى حوار مفتوح وجها لوجه مع الموت، ومع الوجود برمته، فنجده يطلق اعترافات جديدة في ثنايا النص لا تقل تحديا للموت نفسه على الموت.
أنا الرسالة والرسول
المكان خطيئتي وذريعتي
إنه المكان القبر.. المكان المقفر على الوجود.. بعدما خانت الأمكنة والأصدقاء والنقاد.. وليس هناك أحد يفتدي حياة أحد:
لست أنا النبي لأدعي وحيا
في اثبات الأنا يصبح الإعلان:
أنا الرسالة والرسول
وفي نفي الأنا يصبح الاعتراف:
لست أنا النبي لأدعي وحيا
وأعلن هاويتي صعود
لكن منذ البدء يشعر الشاعر درويش بشح أسلحته وانفراط ما ومن حوله فيعلن هدنة مؤقتة للتصالح مع موضوعية الذات وموضوعية الأدوات ليصل إلى الاعتراف:
لم يبق لي إلا التأمل في
تجاعيد البحيرة، خذ غدي عني
وهات الأمس، واتركنا معا
لا شيء، بعدك، سوف يرحل أو يعود

مرارة المقايضة تشي، هنا، بالاغتراب الفذ، ليس عن كل ما هو نبيل وجميل في هذه الحياة.. وإنما في التصالح الأخير مع الجدار الأخير.. والجدارية مقايضة الغد بالأمس.. مقايضة مرة، سرعان ما تقفر من إيحاءاتها وطراوة العراك فيها إلى ما هو أبقى وأدوم ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي