الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحبّ وترنيمة العذاب

حذام الودغيري

2015 / 10 / 18
الادب والفن


الحب السعيد لا يصنع القصص ولا القصائد.. المحبون السعداء يعيشون في عالمهم المنيع ولا يتركون المجال للسوس ينخر ما بينهم. فحياتهم وإن كانت تثير الحسد، فقيرة بالأسرار والفضائح وبالقيل والقال...
فلا نجد عنهم سوى عبارات مثل : " ولم يزالوا في مودة مع بسط زائد وفرح وانشراح إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات ..." كما حفظنا في ألف ليلة وليلة. بل حتى أوصاف السعادة في الجنة قليلة وبسيطة إذا ما قورنت بتفاصيل العذاب وتنوعه وألوانه في جهنم ..
لهذا، فإننا لا نكاد نقرأ شيئا يذكر عن قصص الحب السعيد، بينما أليافنا وخلايانا مملوءة بزفرات العذاب ودموع الأحزان التي يذرفها العشاق المرغمون على الانفصال أو البعاد. أو أولئك الأشقياء المبتلون بحب غير متبادل، فالمحب يشقى ويتعذب ويحترق بينما ا يظل لمحبوب متحجر القلب والحواس، غير مبال بعواطف محبه، يعيش في وادٍ آخر تماما... وهذه هي الحالات التي غالبا ما تعج بها الروايات والأشعار، بل تلهمها...
والطريف في الأمر، أن هناك نوعا من الشعراء أو المحبين، يبحثون فيها أنفسهم عن حالة الحرمان والصد، فهذا الشاعر العربي يقول للمعشوقة:
وتمنعي فالشعر وحي تمنع  ....  واللحن يطلق ان وقعت اســـــيرا.
ومن هنا يتبين لنا أن مراد الشاعر ليس تذوق لذة وصال المحبوبة و لا نعيم العشق ، بل مراده الكلمات المنمقات التي لا يجود بها إلا الصدّ والفقد والعذاب ...وهو في واقع الأمر لا يبحث عن معشوقة بعينها بل يبحث باستمرار عن ملهمة...إنه يعشق ذلك العذاب الذي يعيشه أو يتخيله حبا ، لإنه في الأساس، يعشق كلماته وصوره، وبلاغته، إذا أن الكلمات هي التي ستجعل له صيتا وذكرا وموضعا بين الناس إذا وجدت آذانا تستسيغها، ولا يمكنه أن يبدع إلا إذا تعذب وشقي! ..أما الاستمتاع بالحب، فهو أمرثانوي أو غير مطلوب البتة، ربما لأنه غير قادر على الحب في الواقع ء لقصور ما عنده، فيعيش الحب بالكلمات وبالخيال، ويشنف أسماع الخلق بترنيمات العذاب والأحزان.
وهذا نزار، يصور الحالة:
"ماذا أعطيـكِ؟ أجيبيـني :
قلقـي؟ إلحادي؟ غثيـاني
ماذا أعطيـكِ سـوى قدرٍ
يرقـصُ في كفِّ الشيطانِ
أنا ألـفُ أحبّكِ.. فابتعدي
فأنا لا أمـلكُ في الدنيـا
إلا عينيـكِ... وأحـزاني"
أما النوع الثاني المسيطر أيضا على ساحة الحب، في العالم العربي، فهم أولئك " "العشاق" الذين "يعشقون عشق "النساء لهم، فيكون لهم مصدر" سعادة " وبخاصة مصدر إبداع، فتزخر القصائد والنصوص برهافة المشاعر اليائسة ، و أنين الانتظار البائس لمن يحبّ بعمق ولا يجد له صدى عند المحبوب . ولهذا النوع من العشاق فعل المغناطيس على المعجبات اللائي تغويهن الأوهام، وتخدعهن العبارات المبهمة، فهم يطلبون منهن ا على الدوام مزيدا من العذاب والاحتراق والعطاء والتفاني في خدمتهم. فهم يستمدون الدفء والطاقة والنور بذوبان شمع الضحايا المعذبات اللائي يحلمن دوما بشفاء المحبوب من قسوة القلب ومن اللامبالاة لعله يحبهن ذات يوم....ولكنهن لا يدرين أن لا أحد يشفي مرض أحد، إذا لم يسع هو نفسه لعلاج نفسه، والمؤسف في الأمر، أنهن إذا خرجن من هذا الجحيم كرهن الرجال، وكفرن بالحب، أعظم قيمة في الوجود.
لذا لا ينبغي اعتبار الشعر نموذجا ونهجا للحب، ينبغي النظر للشعر باعتباره عملا فنيا، على أسس بداعة اللغة ورهافة الإحساس وإدهاش الصور...


أما قصص الحب العربية المعروفة، التي حدثت أو تُخُيّلت في فترة ما، كقصة قليس وليلى وجميل وبثينة وغيرهما، فمعظمها قصص تدمي القلب وتهد الكيان،، وفيها يقع سهم الحب على العاشقين كضرب من القدر، يلتقيان صدفة في مرعى للإبل، فيتكلمان أو يتشاجران، فيشتعل الحب بينهما ويكبر فيصبح هياما وغراما لكن، يرفض الآباء تزويج بناتهم لمن أحبهن وأحببنه لقوله الشعر فيهن أو لفقره، ويزوجوهن لشخص آخر... إلا أن هذا لا يمنع، أن تبقى جذوة الشوق والحنين والعشق متقدة بين الحبيبين المبعد بينهما... والعجيب في الأمر، هو أن أزواج هؤلاء العاشقات لا يشعرون بالضجر أوبالذل، و في ذمتهن زوجات، يعرف الكل أن قلوبهن وعقولهن تسرح مع رجل آخر بل يلتقين به أحيانا (وتقول الروايات، إن اللقاء عذري )!
وهكذا تتكون الصورة السقيمة للحب عند القراء والقارئات، فتترسخ في العقل الجمعي فكرة أن الحب كله عذاب وحرمان، ودموع وأحزان . ويتم التهيؤ النفسي لذلك العذاب "اللذيذ" الذي لا محالة منه!
ظهرت في العقود الأخيرة موضة الشعر المتصوف، الذي ينشد العشق الإلهي، وفيه مصطلحات كمثل الاحتراق والموت والفناء...وهي أشعار بديعة في غاية الجمال وقي قمة الإطراب...لكن القراء العاديين لا يفهمون معنى تلك المصطلحات، فيردونها إلى فهمهم البسيط الذي يزيدهم تأكيدا أن الحب مهما كان فإنه عذاب وسقم وألم... وهذا لا يزيد الطين إلا بلة، فأصبحت تكتظ القصائد والأشعار، بالرماد والحريق والموت والشظايا كما نرى في صفحات الفيسبوك وفي مواقع الانترنت،... لأنهم لا يدركون بأن المتصوف حين يقصد عشق الله، فإنه يقصد السعادة المثلى واللذة الكبرى والوصال الأعظم، فهو يدرى تماما أن الله منذ البدء خلق العالم بحب، وأن حبه للبشر لا منتهي، وبالتالي فإن الله يحبه، وأنه كلما رقّى نفسه وطورها كلما تأهل للتمتع بذلك الحب أكثر. ولولا أن ذلك العشق يمنح السعادة البالغة، لما شعر العارف بالسكر الإلهي ولما نشد الوصال وسعى إلى الفناء في المحبوب ... إنه يطمح لأن يصبح قطعة من نور، ومضة إلهية...ينتظر حلول الله فيه....وهذا كلام عظيم، لا يفهم بسهولة، وبخاصة لا يتفق والفكرة السائدة بأن الله بعيد ومنفصل عن البشر.
باختصار، كل هذه العوامل، تبخس من قيمة الحب وتشوهه، فالحب يصبح في التصور الجمعي طريقا ممهدا للعذاب، أو للمعصية، أو لضياع المصالح. وهذا كله يبين للأسف، أن معنى الحب السليم ، غير واضح في المجتمع العربي، وبالتالي لا يربي الآباء أبناءهم عليه...فالحب السليم يقوم على التكافؤ، يقوم على المشاعر المتبادلة، يقوم على التقدير المتبادل، يقوم على الإعجاب المتبادل ، يقوم على الانجذاب المتبادل، يقوم على الاهتمام المتبادل، يقوم على الرؤى المتحدة في المبادئ الأساسية، يقوم على مشروع حياتي مشترك، يقوم على القول الذي يصدقه العمل، فالحب ممارسة يومية تتطلب الوقوف إلى جانب المحبوب في السراء والضراء...الحب السليم ، لا يمكنه إلا أن يكون حبا سعيدا، ولا يمكنه إلا أن يخلق إنسانا متوازنا ، يشعر بالطمأنينة، والحنان، والأمل ويبتعد عن الشرور والأحقاد. فلو تعلم الأباء معنى الحب السليم وعلموه لأبنائهم لما وجدنا هذا الكم الهائل من الهائمين الذين يضيعون أيامهم وأحلامهم وراء من لا يبادلهم مشاعر الحب والتقدير، ولما وجدنا من يقبل قلة الاهتمام، واللامبالاة والمعاملة السيئة...لأن المحب السليم يحب كرامته ولا يقبل علاقة عوجاء تؤذي ثقته بنفسه وتؤذي كرامته كإنسان يستحق حياة سعيدة ويستحق حبا سليما. والحب السليم، مناسبة مثلى لتطوير النفس، ولحل عدد من المشاكل النفسية التي تحد من التفتح والتجدد، ولتجاوز عدد من المخاوف الناتجة عن صدمات سابقة، العملية صعبة، ولكنها مجدية.
الحب طاقة خارقة لتحدي الصعاب، تشعر بالسكينة والقوة في أحلك اللحظات. وإذا لم يكن كذلك، فلا يعول عليه ! ولعل .أجمل تعبير عن قيمة الحب عند العرب، قول الرسول في السيدة خديجة :إني رزقت حبها !
يبقى لي أن أذكر أسطورة حب رائعة، من اليمن، ويبدو أنها غير متداولة في العالم العربي شاهدتها في شريط وثائقي فرنسي:
يحكى أنه في مدينة يمنية قديمة، تنعم في ازدهار وسلام، كانت تعيش أميرة باهرة الحسن، راجحة العقل، يحلم الزواج منها كل الأمراء وكل الفرسان. لكنها كانت تختبرهم، فلا ينجح في اختبارها أحد...ذات يوم، تقدم إليها شاب شجاع، مغرم بها ومستعد لأي اختبار. أعجبها، لكنها طلبت منه أن يمتلك أولا، قوة "شيبام" ( اسم مدينتها) ! لم يفهم في البداية، لكنه أدرك أنه عليه أن يتعلم صلابة وقوة بُناة "شيبام؟ المدينة الصخرية، فغاب مدة، إلى أن تعلم النحت على الصخر وتقنية البناء المتين و.رجع إليها فرحا، لكنها طلبت منه من جديد أن يمتلك نور "شيبام". لم يفهم، لكنه أدرك بأنها تقصد فنّ مدينتها، فكان عليه أن يتعلم فنون الخشب ليصنع تلك النوافذ البديعة المليئة بالنقوش التي تدخل النور للبيوت. رجع إليها فرحا، فطلبت منه من جديد أن يمتلك حلاوة "شيبام". لم يفهم، لكنه أدرك، أنه ينبغي أن يتعلم تربية النحل وجمع العسل ، وذلك يتطلب لطفا ورقة بالغتين ...رجع إليه فرحا، فقالت له: أنت الآن تمتلك قوة شيبام ونور شيبام ولطف شيبام، أنا الآن فخورة بك وأقبلك زوجا وحاكما على شيبام. " وطبعا عاشا في سعادة وازدهار!!
فلا تكتمل شخصية المحب إلا بالصلابة والقوة، بالنور والفن، وبالرقة واللطف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية