الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوح في جدليات – 15 – حينَ أغمضت َ عينيكَ باكراً

نضال الربضي

2015 / 10 / 18
سيرة ذاتية


بوح في جدليات – 15 – حينَ أغمضت َ عينيكَ باكراً.

غادر َ آخر المعزِّين القاعة، أو هكذا ظن َّ الأب، قبل أن يدرك َ أن رجلاً ما زال َ جالساً على مقعدٍ في ركن ٍ بعيد. نظر َ إليه فلم تُسعفُه الذاكره، لعلَّه من أصدقاء ِ أبيه الراحل، وجهُه يوحي بأنَّه طاعن ٌ في السن، لا بل بأكثر َ من ذلك، إنه عتيق، صلب بما لا يتناسب ُ مع عمره، أو ضآلة حجمه المنكمش ِ في المقعد.

انتظر َ الرجلُ حتى لفَّ القاعة َ الصمت َ حتى يقوم َ من مقعده و يتجه نحو الأب الذي وقف َ إيذانا ً بوداع ِ الزائر ِ كما جرت العادة. مدَّ الأب يده مُستقبلا ً فتجاهلها الرجل و نظر إليه بعينين عميقتين، ثم قال:

الرجل (ر): هل عرفتني؟
الأب (أ): لا أظن ُّ أنني قابلتك َ من قبل، اعذرني، فأنا متعب من الجنازة.

ر: أنت متعب لذلك كان يجب أن تعرفني، فأنا سبب تعبك.

ظن َّ الأب ُ أن العجوز يحاول أن يقدِّم تعزية ً بطريقة ٍ مُبتكرة، كتلك القصص ِ أو الحوارات ِ التي تُعطى كأمثال يبدو السردُ فيها مؤشرا ً على شئ فتأتي النتيجة ُ لتؤشر َ على شئ ٍ آخر تماماً، تلك التي يبرع ُ فيها رجال الدين أو الوعَّاظ، فاستجمع َ ما بقي من صبره لكي لا ينفجر بوجههِ و يطرده خارجاً، إن هذه التراهات آخر ُ ما يحتاجه الأن و في هذه اللحظة ِ بالذات.

أ: سيدي أني حقا ً مُتعب، و غير ُ قادر ٍ على سماع ِ أيِّ شئ أرجوك.
ر: أردت ُ فقط أن أقول لك َ أنني لم أقصدك َ شخصيا ً حينما أخذت ُ ولدك َ البارحة.

كان هذا أكثر من أن يحتمل َ الأب، فانفجر َ صائحاً:
أ: أنت بلا حياء ٍ و لا خجل، قليل الذوق، معدوم الإحساس، متبلِّد المشاعر، تدوس ُعلى حزني، تستغلُّ ألمي، لتلعب َ دور الواعظ، لتتقيَّأ أمامي مشهدا ً مسرحيَّا ً سخيفا ً تمارس ُ فيه بطولة ً وهمية، تُقنع ُ فيها نفسك َ أنك تعزيني بينما أقف ُ أمامك َ كالمائتِ.

ر: لو أردتك َ أن تموت لأخذتك َ كما أخذت ُ ولدك.

قالها و قد بدا الظلام ُ في عينيه أشدَّ عمقا ً و أكثر َ اسوداداً، بدا ظلاما ً صافيا ً نقيَّا ً يبتلع ُ كل شئ و يُصدر لمعانا ً خفيَّا ً مُثيرا ً للرعب. تجمَّد َ الأب ُ في مكانه، أحسَّ أن ثلجاً ما قد أحاط بهِ و أن العرق َ البارد أخذ َ يتفصَّد ُ عن جبينه، حدَّق َ في هيئة ِ ذلك العجوز ِ الضئيل، كان اضمحلالُه ُ يصرخ ُ تكوينا ً قميئا ً، وجهه ُ بدا اقسى مما شاهدَه ُ حينما كان جالسا ً على المقعد، و يداه معروقتين ِ كوعر ٍ في شعاب ِ جبل ٍ صخريٍ تفترشُ أثلامَه المتمرَدة غير المنتظمة أحجار ٌ حقيرة لا ملامح لها، بينما تُحيط ُ به هالة ٌ غير مرئية تنتهك ُ الأعماق َ اغتصابا ً يُثبِّت ُ فيك َ شعورا ً أنك َ أمام َ منظر ٍ طبيعي، بل شديد ِ الطبيعية، لا يمكن ُ أن يكون َ أي ُّ شئ ٍ آخر أكثر حقيقة ً و طبيعية ً و تلقائية ً و انسجاما ً مع الوجود ِ منه، حتى مع أن َّ كل ما في داخلك َ يكرهُه ُ و يشتاق ُ إليه ِ ما آن ٍ معا ً.

أ: من أنت، و ماذا تريد؟

ر: قد عرفت َ من أنا، كل ما فيك َ يعرف، نوعك َ البشري يعرفني كما يعرف ُ نفسَه، بل إنني جزء ٌ من نفس ِ كلِّ واحد ٍ منكم، أنا من يأتي بدورة ِ حياتِكم إلى محطتها الأخيرة، أنا محطَّتكم الأخيرة، أنا الموت. أمَّا ماذا أريد فبسيط ، اخترتُ أن أتحدَّث إليك اليوم لأنَّ صخب َ نفسك َ كان عاليا ً و أنا أنتزع ُ ما بقي من حياة ِ ابنكَ قبل أن يهمد َ جُثَّة ً بين يديك. صخبُك َ استفزَّ في َّ قوَّتي فاخمدت ُ ابنك َ بقسوة ٍ لا تستدعيها اللحظة. لقد نجحت َ في استثارة ِ قوَّتي الكامنة و استنهاض ِ جبروتي بغليان ِ نفسك َ و هو بين يديك، فسحبت ُ من عضلاتِه كل ما فيها من طاقة ٍ بدون رحمة، ضربت ُ قلبَه بقبضتي و أنا أعصرُه ُ في الثانية، ثم استزفتُ من أعصابِه ما فيها من نبض ٍ كهربيٍّ بسرعة ٍ شديدة أغلقتْ دماغَه ُ بعنف ٍ أدَّخرُه لِعتاة المجرمين فقط، كان هذا بسببك َ أنت.

مذهولا ً صاح الأب:
أ: بسببي أنا؟؟؟؟؟!!!!

ر: نعم! أنت َ من رفضتني حينما أحطتَ بجسدِهِ بين يديك، لقد عرفتني فيه فلم ترض َ عن قدومي، و لا قبلت َ نهايته المحتومة، أردتَه ُ أن يحيا و قد جاء َ وقت ُ موته، أمسكتـَه ُ و انتفض َ قلبُك َ و استنفرت َ كلَّ طاقاتِك َ كأنك َ ستتشبَّث ُ به للأبد، قرأت ُ في ذبذبات ِ دماغِك تحديا ً لي، في مشاعرِك َ حقدا ً علي، في اعتصارِك َ لجسدِه تعبيرا ً عن توق ٍ لإخبائه بين ضلوعِك َ، لاستيداعِه قلبَك َ، يا لك َ من أحمق! و هل يستطيع ُ أحد ٌ أن يفرَّ مني، هل فرَّ مني أحد ٌ قبلها، هل يمكن ُ لكم يا مائدة َ الدُّود ِ و طعام َ البكتيريا أن تقتلوني؟ ألست ُ منذُ بدءِ التاريخ ِ قرين َ جِنسكم ُ الملعون الضعيف ِ العاجز؟ أيُّ إله ٍ من آلهتكم خلَّصكم مني؟ مَن مِن أبطالكم أو قوَّادكم أو أباطرتكم أو ملوككم أو حكمائكم أنجدكم من سطوتي؟ كيف تتحدَّاني أنت َ؟ لهذا جئت ُ اليوم، لكي تعلم َ أن تشبُّثك َ في الحياة قد أردى ولدك َ بكل ِ القسوة ٍ و البطش ِ الذين يليقان ِ بهُزال ِ جنسكم و سذاجته.

أ: هل انتهيت أم لديك َ المزيد ُ لتقوله؟
بدا صوت ُ الأبِ هادِئا ً أكثر مما ينبغي، وديعا ً بأقلَّ مما يستلزم ُ الموقفُ، تبدَّى مُتَّزِنا ً رزيناً، و كأن َّ الجنازة َ و الدفن َ و التابوتُ و أصوات َ النحيب ِ و العويل ِ و مناظر َ شعور ِ النساء المُنكَّشة و قبضاتهنَّ التي دقت الصدور َ بعنف فتركت مساحات ٍ حمراء َ على أجساد ٍ مهدودة، كلَّها قد اختفت، أو هي باقيةٌ لكن لا يتمثَّل ُ لها تأثير، فأكمل:

أ: أنت َ لم تأتِ من أجلي، لقد أتيت َ من أجل ِ نفسِك. أنت َ كاذب ٌ بامتياز، بنفس ِ القدر ِ الذي أنت عليه ِ من الوحشية ِ و الدناءة ِ و الانحطاط ِ و الحقارة ِ و الوضاعة ِ و القماءة ِ و الإسفاف. أتيت َ لكي تُبرِّر َ قسوتك، لكي تُسوِّغ َ لوحشيتك، لكي تُعلِّل َ حتميَّة َ وجودِك َ العابِث ِ الذي لا معنى لَه ُ و لا قبول َ لخسارة ِ ما يمثِّلُه. أنت لا تحتاجني لكي تقتل، لكي تُميت، فأنت تقتل ُ و تميت ُ كلَّ يوم، الضعيف َ و القوي، العاجز َ و الجبَّار َ، الوديع َ و العتيِّ، القابل بك ِ و الرافض َ لكَ، المُنتحر َ اللائذ َ بظلمك َ العادل الشامل ِ للناس، و المُتداوي الهارب َ من عدلك ِ الظالم ِ لكل محبي الحياة. إن رفضي لك َ حرَّك َ في طاقتك السؤال َ عن معنى وجودك َ فاصطدم َ مع طبيعتك َ العبثية، فجئت َ تبحث ُ عندي عن سبب ٍ لك أنت، عن معنى لقوَّتك، عن هدف ٍ نبيل ٍ تتقمَّصُه كي تستمر َ بدون َ أسئلة، كي تركن َ إلى صوابه ِ فيكفيك مشقَّة َ احتمال ِ ذاتِك الكريهة، و عبثيتك َ التي هي أرومة و أساس ُ و جوهر ُ كيانِك َ التَّافه الذي يقلب ُ الجميل َ قبيحا ً و يستردُّ العذب و الطازج َ و الحبيب َ و المُشبع. لقد أتيت َ تعتذر ُ من نفسك َ عن نفسها، و تخدع ُ ذاتَك َ عن ذاتها، و ترمي على ضحاياك َ مسؤولية َ طبيعتك، و تُسخِّر ُ كل َّ آلامهم تسويغات ٍ و مُبرِّرات ٍ و عللا ً و أسبابا ً لتقبل َ نفسك و ترضى عن طبيعتك. إنَّك َ الجبار ُ القويُّ العتيُّ الذي لا رادَّ له و لا مهرب منه الذي في كل ِّ جبروتِه ِ تتمثَّل ُ صورة ُ الحياة ِ النهائية التي تتحوَّلُ فيها أجسادُنا إلى المائدة ِ التي احتقرتَها لكي نصبح َ: لا شئ، أنت إذا ً الـ "لا شئ"، و هكذا أراك: لا شئ، لهذا أحتقرك و أحتقر حتميتك و أحتقر ُ كل َّ ما تمثِّلُه، و ما تأتي به، و أين تأخذُنا و كيف تأخذ ُ إليه، و ما تصدر ُ عنه و تخرج ُ منه، و لهذا فأنا لست ُ مسؤولا ً عن قسوتِك َ في انتزاع ِ ولدي، و لا عن بطشِك َ في انتزاع ِ أولاد ِ الناس و بناتِ البشر و أحباب ٍ الأحياء و أصدقاء َ العائشين، إنَّما أنت بذاتِك َ المسؤول ُ عن كلِّ هذا لأنَّك تمثيل ٌ لطبيعة ِ هذا الوجود الذي أرضى منه ُ بالحب و أردُّ إيَّاك َ عليه، فاغرب و اتركني لحزني، فإنَّك حين تأتي في وقتك َ ساعيا ًورائي سأعانقك، لكني قبلها أرفضُك َ و أبصقُ عليك، أرفضُك َ الآن، و سأرفضُك َ حتى تأتي. أنا أعيش ُ في الحب، أنا وولدي.


-----------------------------------------------------------------------------------
إلى ذكرى ديفيد، ابن صديقي الحبيب جوني، الذي خطفه الموت ُ منَّا جميعا ً قبل شهور، و الذي هو من عمر ابني جورج ذي الخمسة ِ عشر عاماً. و إلى قوَّة ِ الحياة التي بدأت تعمل ُ من جديد في جوني، قوَّة ِ الحب، و عزيمة ِ الاستمرار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أجواء من البهجة والفرح بين الفلسطينيين بعد موافقة حماس على م


.. ما رد إسرائيل على قبول حماس مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار؟




.. الرئيس الصيني شي جينبينغ يدعم مقترحا فرنسيا بإرساء هدنة أولم


.. واشنطن ستبحث رد حماس حول وقف إطلاق النار مع الحلفاء




.. شاهد| جيش الاحتلال الا?سراي?يلي ينشر مشاهد لاقتحام معبر رفح