الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


((ديوان بالديوانية))

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2015 / 10 / 20
كتابات ساخرة


ديوان وديوانية

بعد حرب عام 91 وهزيمة البلد في معركة غير متكافئة لم يلتقِ بها جيشان، بدأتْ الحياة تدب من جديد في مدن العراق وقصباته...
شارع النهر كغيره، تعود الحياة له ببطأ، في وقت لم تعد رواتب الدولة تفي بالغرض لإعالة عائلة، قمت مع صديق بفتح محل (بسوق حيدر) لشراء الكسر وتبديله وتصفيته وبيع الرمل وغيرها...
وكما هو معروف فقد (هب) الناس ببيع مصوغاتهم بسبب ضغط الوضع الاقتصادي أو بسبب اغراءات زيادة سعر الذهب دون الالتفات الى أن قيمة الدينار العراقي هي التي تتردى بقوة وليس الذهب هو الذي يرتفع، وبرغم ادراك البعض للواقع، إلا ان الكثيرون راحوا يراهنون على أن الدينار سيتعافى من جديد، لكن خاب ظنهم حين طالت فترة الحصار و(طاح) حظ الدينار بالتوافق مع ما كان يطبعه ببراعة (المرحوم) حسين ابن حجي كامل.
تحرَكنا أنا وشريكي نجمع الكسر بمقابل (كواني) فلوس، وسخّر لنا أصدقاءنا كمال وقابل وعادل وشامل قدوري طلال (تحياتي لهم) محلات التصفاة (بالطمة)، فقد كان علينا تدوير الرمل بنفس اليوم الى فلوس للاستمرار بالعمل، ولأن كان (بعد أكو حيل) فينا، كنا من الفجر نقوم برحلات مكوكية لبعض المدن الكبيرة حول بغداد، ومنها مدينة أهل شريكي (الديوانية).
كنا نجمع قبل يوم أقصى سيولة ونُبكر المشوار، خلال ساعة نقطع الخط السريع ثم نتجه منه للديوانية عبر طريق فرعي لنصف ساعة من خلال ناحية تسمى (الدغارة)*، ثم نقضي النهار (بالديوانية) نشتري من الصاغة (الكسر) بكافة اشكاله وألوانه ونعود قبل المساء.
لم يصِب رحلاتنا الربح المرجو على الدوام، فلو استطاع أحدهم ـ بحسن أو بسوء نية ـ تمرير قطعة بغير عيارها (وما أكثر ذهبهم القديم غير الموسوم) لتاهت الحسبة وخسرنا الصفقة، كما أننا كنا ببعض الأحيان لا نشتري ما يكفي من الوزن بسبب مصادفة صعود أو نزول حاد بالسوق او شحة المعروض بسبب وضع غير طبيعي أو خبر أو تهديد سياسي وأمني... وهكذا مما يتسبب بعدم تغطية حتى مصاريف السفرة.
× × ×
لم يصادف أنني جنيت سيارة برازيلي بحياتي سوى أسبوع واحد كان لنا خلاله سفرة عمل للبحث عن الذهب في (للديوانية)...
وهكذا كنا بحدود الثامنة صباحاً (نستمتع) بفطورنا المعتاد عند (أبو فاطمة) أبو المعلاك في مدينة الدغارة حيث أننا نميل أن نملأ بطوننا ونشرب شاي كي يعدل المزاج و(نصحصح) للبدء بصراعنا مع الصاغة الذين يفوقونا (احياناً) بالمهارة والخبرة فيمررون براسنا العيار (طكة) أعلى. وما أن وصلنا سوق الصياغ وجدنا ان في ذلك النهار كان قد جاء باكراً (مسوكجي) من كربلاء وكرف كل الكسر، صدمنا وقررنا أعتبار يومنا نزهة بالبساتين حتى المساء، ثم عدنا أدراجنا وكونية فلوسنا لاتزال (عامرة)!
توقفنا وتسوقنا خضار من الدغارة وتعشينا (الأوردر) المعهود معلاك (أبو فاطمة) الفريش، واتجهنا للطريق السريع وهنا (دكت) البرزلة بنا وطفت، لم أقلق في بداية الأمر لأن حسب خبرتي عليّ أن أتتبع أمرين هامين بالمحرك، الكهربائية والبنزين، فكانت (النارية) طبيعية إلا أن (الكاربريتور اختنك) أي طاف به البنزين، وتكررت الحالة لمشكلة شخصتها بالطوافة، ما كان مجال للاستمرار والسيارة تتوقف كل مائة متراً، وبدا من المستحسن العودة بها (للدغارة) بسحبها والأنتظار للغد لتصليحها.
لكن علينا أولاً التعامل مع مشكلة كونية الفلوس، فليس من المعقول أن نتركها بصندوق السيارة ولا من الحكمة أن نحملها ونصعد سيارة أجرة للديوانية فتكون مخاطرة ربما بحياتنا، مر الوقت علينا وأرخى الليل سدوله*ونحن بمنتصف الطريق مترددين.
أخيراً صار فكرنا (ندفن) الفلوس بأسرع وقت لأنها أضمن و أئمن طريقة لنتخلص منها مؤقتاً، أول مشكلة واجهتنا هي أداة للحفر، فما كان غير (الويل سبانة) أداة حفر وكانت العملية سهلة بأرض سبخة، ثم أخترنا (عاكولة) كبيرة من بين الأشواك الأخرى لنضعها فوق الحفرة التي أحتضنت كونية الفلوس... كان علينا أيضاً أن نضع دليل لتحديد مكانها، فوضعنا حجارتين كبيرتين على الناحية الأخرى لكتف الشارع.
قام بعد ذلك ابن حلال بسحب سيارتنا للدغارة، هناك قام صديقنا الكبابجي أبو فاطمة بأرشادنا على فيتر (خفر) في كراج يقع خلفه مباشرة فشخّص العلة بسهولة بضرورة استبدال (الطوافة) بجديدة حالاً، لكننا أرتأينا المبيت بالديوانية وأن نترك تصليحها الى الصباح مبررنا عدم العودة لبغداد بالليل لكن الحقيقة أننا كنا نحتاج وضح النهار والخلوة كي نستعيد كيس الفلوس، ألتقينا مع أحد الأصدقاء المقربين وشرحنا له حقيقة الموقف فأقسم أن يرافقنا بسيارته لإتمام المهمة في اليوم التالي.

كانت عملية التصليح لم تستغرق في الصباح الكثير، وبينما كان الفيتر يقوم بفحص السيارة خلف المطعم، لاحظنا تلاعب أبو فاطمة باللحم والمعلاك وأن رائحة نتانة تصدر من مخزنه الخشبي الذي بناه خلف محله بمسافة كافية لا تكشف ألاعيبه، فكلما كان يحتاج الى لحم (طازج) ينده أمام الزبائن على صبي أن يأتي له من (القصاب) بلحم إضافي، فيهب الصبي بأتجاه لقصاب ثم يعود خلسة للمخزن النتن ويأتي باللحم الـ (أكسباير).
قلت لصاحبنا دعنا (نطيّح) حظه امام زبائنه المساكين، لأننا كنا من ضحاياه وأكلنا معلاك فاسد، لكن كفينا الشر وركبنا سيارتنا وودعنا صاحبنا ورحنا لفلوسنا، و(حلفنا) مقاطعة ابو فاطمة لدرجة أننا حتى لم نلقِ تحية وداع عليه.
هناك في الشارع ظهر أمر معوق آخر لم يكن بالحسبان، حيث افترشتا قرويتان مع دبّتي حليب الشارع مع طفلة جلست بالضبط على الحجارة التي وضعناها في مقابل الحلال، كان يبدو انهن بأنتظار سيارة لتسليم الحليب.
بعد وقت أنتظار لم يمتد كثيراً، جاءت بيكب لهن فتنفسنا الصعداء، وأخذ رجلين الحليب منهن وتكلمتا قليلاً معهما، ثم أتجها ألينا مستفسرين بأسلوب استفزازي عن سبب (معاكسة) نسوانهم، فقد فسرن هاتين القرويتين وجودنا متوقفين بالبرازيلي بالقرب منهن بأنها معاكسة.
لم يخطر ببالنا حينها أن المسألة ستتطور وتتحول لمشكلة، خصوصاً والرجلان يرفضان مشاركتهن النقاش، وهما يطالباننا بأي مبرر أو سبب واحد لتواجدنا.
لإصلاح الموقف قلنا ان سيارتنا عطلت هنا بالامس وسحبناها، ونسينا الويل سبانة وجأنا نبحث عنها، قالوا لنتأكد أولا من عدم وجودها بسيارتكم ثم سنساعدكم بالبحث عنها، رفضنا فتح سيارتنا ولا مساعدتهم بالبحث عنها، وصار عناد وأقترحا الذهاب معهما لديوان شيخ العشيرة، لم نرفض الأقتراح لأننا فضلنا أبعاد المشكلة عن الفلوس باي شكل، فدخلنا غرفة طويلة مبنية على حدة، تمتد حولها شبابيك وفرش ستائر وقنفات قديفة بألوان صارخة وأرضية سجاد صوف تصدر منها رائحة دخان سيجائر وعفن، فتساءلنا... (أهذه هيالدواوين التي يفوح منها رائحة القهوة والهيل؟).
أنتظرْنا الشيخ أن يأتينا بسرعة لكن الوقت كان باكر على ألتآم مجلسه، فجاءتنا (فتوى) من شاب متهور بدشداشة يطالبنا (فصل) عشاير وهدد بتبليغ الشرطة، كان علينا إما الأصطدام به أو مسايسته، فخطر ببالي ان ألعب معه ورقة مجازفة ورحت استميله واعتبره هو الكل بالكل وانه صاحب القرار وله الحكم وان ارواحنا باتت بين يديه، وما علينا إلا ان نكون مصغين له، ووعدناه بهدية نقدية معتبرة اذا استطاع أقناع (أبو فاطمة) بأي ثمن بالمجئ لديوان الشيخ لأنه الوحيد القادر أن يُثبت أن سيارتنا قد تعطلت بالأمس...
لمّا تركنا الشاب واعداً أيانا خيراً وانصرف، كان الموقف محرج حين سردنا للشيخ التفاصيل الحقيقية لما حصل بالأمس بالضبط ما عدا فقرة الفلوس، وكنا بحاجة لاثبات فيما لو أوفى الشاب بوعده وأستطاع اقناع (أبو فاطمة) بالمجيء.
... جاء الشاب ومعه الغشاش (أبو فاطمة) الذي أستقبلناه بكل ترحاب لينقذنا بالوقت المناسب، فهمس صاحبي... (همزين ما علسناه على الغش وزعل، والله لكان علسونا اليوم!).
أخيراً... كانت البراءة و(الأمر) بأخلاء سبيلنا شرط وجود (كفيل) من (أعمامهم)، فتجنبنا القول بأن كل سوق الصاغة يكفلنا لإعتبارات لم نرغب الخوض بها، وبعثنا بصديقنا الجديد (أبو دشداشة) مرة اخرى بعد (دهن) بلعومة لبيت صاحبنا بالديوانية الذي أسرع لحل الموضوع، حيث تعامل مع الشيخ بلغة العشاير والدواوين.
وهكذا تم (الأفراج) لكنه كان مشروط بضرورة عدم التواجد أو حتى المرور بالقرب من (عربهم)، فتطلب ذلك رسم خريطة لصاحبنا للاستدلال على مكان (الكنز)، وانتظرناه على نار حتى اتى به ونحن نقف عند تقاطع الخط السريع المتجه لبغداد.
عدنا ادراجنا نفكر بشغلتنا (التعبانة) التي (مَ تسوة) تعبها ومجازفتها، ولعنت (البرزلة) وحلفت ما أبيتها بالكراج ولا ليلة ولا أجني بعمري واحدة غيرها!

عماد حياوي المبارك

× أرخى سدوله: تعني دعاه يتمدد ويسترخي وأطلق له العنان، أرخت شعرها: بسطته على كتفيها.
× تبعد الدغارة مسافة 16 كلم عن الديوانية، وتقع على نهر الدغارة المتفرع من نهر الحلة.
تتميز بزراعة الرز العنبر العالي الجودة، يسكنها قرابة 25 ألف نسمة غالبيتهم من الفلاحين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل