الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلم عازف البيانو- تحفة لرومان بولانسكي وفيض من ثرائه

حسين علوان علي
(Hussain Alwan)

2015 / 10 / 21
الادب والفن


The Pianist - 2002

كلما اعدت مشاهدة هذا الفلم المأساوي الكبير الاتقان، تبادر اليّ قدما السؤال الذي لم اجد سبيلا الى جوابه ابدا.. الا وهو كيف يمكن ان يتفق حضور جانبان شديدا التناقض في طبيعة الشعب الالماني الملهِم،
فهم اهدوا الانسانية (كانت) و(هيجل) و (فاغنر) و(غوته) و(شلر)، و(برشت) و(نيتشة) والبقية الباقية من صفوة المفكرين والفلاسفة والادباء والفنانين.. رغم كل هذه الهدايا النفيسة وهذا التراث الغني قامت الامة الالمانية خلال الحرب العالمية الثانية في العقد الرابع من القرن الماضي بتدمير اوربا عن بكرة ابيها تحت امرة زعيم الرايخ ادولف هتلر؟!!. ولم يقم هتلر بأعمال القتل والابادة تلك بيده لوحده، بل فعلها بمعيته الملايين من ضباط الجيش النازي وجنوده ومنتسبوا الغستابو وفصائل الامن والمخابرات الالمانية، هذه الازدواجية وذلك التناقض تبقى على الدوام من الامور العصية على التفسير في تأريخ شعوب بعينها كان لها قصب السبق في مسيرة الجنس البشري، ومنها الشعب الالماني الذي يشهد التأريخ بكفائته وعبقرية ابناءه، ويحسب عليه في الوقت نفسه عثرات بالغة الاسى والبشاعة والخطل، مثل الاسطورة المزعومة للأمة الجرمانية المتفوقة التي جرت على العالم الوبال والدمار.

من المؤكد أن لاشيء ولامنطق سَويّ يمكن أن يبرر ازدواجية كهذه تبدو وكأنها حالة انفصام مزمنة ابتلي بها البعض من بني البشر في حقب تاريخية تقاطعت فيها المسببات والظروف ونتائج احداث سابقة، هل يمكن القول أن هتلر خدع الشعب الألماني في مكيدة عظيمة؟.. لكن كيف يمكن لفرد ان يخدع أمة ؟!، هل أجبرها على خوض الحرب وامتهان كرامة الاخرين بجبروته وطغيانه ؟! أم أن الشعب كان شريكا متكاملا؟! أسئلة ستظل تدور غامضة مبهمة في ثنايا التاريخ وذاكرة الجنس البشري التي حفلت بالأعاجيب.

الحبكة (النازية):

يتناول فلم عازف البيانو إضطهاد الجيش النازي ليهود بولونيا خلال غزوهم لذلك البلد المنكوب، حيث عمد حكام بولونيا الغازون الى عزل اليهود في احياء مغلقة ( غيتو) لغرض حصر اعدادهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، ومن ثم تحميلهم في قطارات الموت الى حيث لقوا حتفهم في المحارق، وخلال ذلك يعرض لنا كاتب السيناريو (رونالد هاوارد) والمخرج الكبير (رومان بولانسكي) ضروب المأساة والمحن التي واجهها اليهود ومن بينهم الموسيقار البولوني ذو الاصول اليهودية (والدزلا شبيلمان) مع عائلته في تفاصيل تلك العملية البشعة من التطهير العرقي، حيث كانت العائلة ضمن طوابير اليهود الذين تمت تصفيتهم جسديا بعد فترة الاعتقال، غير أن شبيلمان استطاع النفاذ بجلده بمساعدة احد اليهود المتعاونين مع الالمان، انقذه ذلك اليهودي لانه وضع في حسبانه مكانته باعتباره احد عباقرة يهود بولونيا ومن اشهر عازفي البيانو في اوربا بأسرها والعالم.

ويتابع الفلم في حبكته وتفاصيله اللاحقة التخفي والهروب المستمر لشبيلمان بين البيوت المهجورة والاحياء المدمرة، يتجول وحيدا دون طعام او شراب، او يقضي بضعة شهور في شقق سكنية يوفرها له سرا اصدقاء بولونيون، كل ذلك في حال شديد من البؤس والجوع والامال الواهية والحزن العظيم على حاله وحال اهله الذين خطفتهم قطارات الموت،اخوته ووالديه الذين انفصل عنهما ولم يعرف عن مصيرهم شيئا، حتى ينتهي به المطاف في بناية مهجورة لأحد مراكز القيادة الالمانية التي كانت تلملم جحافلها لمغادرة بولونيا بعد تفوق الحلفاء قبيل نهاية الحرب.

يفلح المخرج العبقري رومان بولانسكي في أن يجرنا الى أعماق تلك المأساة، فنعيش فصولها الدامية دون ضوضاء وبهدوء ودون أن يخضع للاغراء الكبير الذي تمثله تراجيديا الاحداث المتلاحقة، دون أن يقع في حبائل التطهير الارسطي الذي يصل بتقنيات العرض الدرامي الى حدّ الانخراط الروحي ذي الطابع الديني ممّا ميز التراجيديا الاغريقية الغابرة وبقي على مرّ الزمن يشوب التناول الفني للحكايات الملحمية. كسب تعاطفنا مع شبيلمان الانسان المسالم والمبدع الشاب الذي يمثل الجانب المعاكس تماما للعسكري النازي الذي كان يغرق في وحل الجريمة وتحطيم المثل والقيم الانسانية النبيلة.

سخرّ بوبلنسكي كل طاقات العرض الصوري وامكانات الممثلين الحرفية ومكملات الطرح السينمائي من ازياء ومؤثرات وموسيقى ومونتاج ومكياج، فيصهر كلّ هذه المفردت في كلّ واحد لا نكاد ان نتبين اختلافاته ومراحله المتداخلة

البناية المهجورة:

يشكل وصول شبيلمان الى البناية المهجورة مفصلا اساسيا في الفيلم، فهي شكلت ملاذا اخيرا للهارب يمكن ان يظل مختبئا في سراديبها الكثيرة وانحائها دون ان يكتشفه احد بعد أن يأس من العثور على مأوى وهو الذي اختبأ حتى في جحور وسعت حجم جسده فحسب. لم يكن شبيلمان يعرف طبيعة البناية تلك التي تمثل برأيي معادلا لحال اوربا في تلك الحقبة، بناء محطم مهجور يملكه غصبا ضابط نازي، ويحوي في ذات الوقت آلة بيانو لم يطالها التدمير والتحطيم، البيانو الذي شكل الأمل في مستقبل وحال جديد حين يستطيع رغم كا هذا الدمار أن ينتج فنا وموسيقى تصل الاسماع بين دوّي المدافع وهدير الرصاص.

وجد نفسه يقف وجها لوجه امام الضابط الماني كبير الرتبة الذي عاد الى البناية مصادفة ليتفقدها، كان شبيلمان يبدو امام الضابط مثل شحاذ رث الملابس اشعث الشعر بيحث عن كسرة خبز بين الغرف الخالية ليبقى على قيد الحياة، لفت عازف البيانو انتباه الضابط الذي كانت تبدو على وجهه سيماء الهزيمة والانكسار بسبب خسارة المانيا الحرب والقرار بمغادرة بولونيا، عرف الضابط بهوية شبيلمان اليهودية، ثم عرف به عازف بيانو، طلب منه العزف ليختبره، لم يصدق شبيلمان أنه اضطر ليجلس على كرسي بيانو ليعزف بحق وحقيق وقد حسب في قرارته بانه لن يمسه ثانية، وكيف يمس آلة بيانو وهو لايستطيع ان يجد كسرة خبز، الخبز اولا، ثم البقية الباقية، وبأصابع مرتجفة وخوف وارتعاب عزف شبيلمان وكأنه كان يعزف روحه ويسفحها على أصابع البيانو، كان ذلك مشهدا عظيما من مشاهد الفيلم وربما من أعظم المشاهد في تاريخ الشاشة البيضاء، مشهد ادّاه الممثل برودي ببراعة وتمكن لايضاهى.

قرر الضابط الالماني ان يساعد هذا اليهودي العازف الشحاذ، هنا يتجاوز الفلم الطرح التقليدي لأفلام الحرب العالمية الثانية.. اذ يبرز امامنا ضابط الماني كبير المنصب.. رحيم القلب من جهة اخرى، لماذا يقرر الضابط مساعدته؟! سؤال يتركه بولانسكي وهوارد مفتوحا، هل لانه كان مغرما بالموسيقى..؟ ام لان الرايخ انكسر وخسرت المانيا الحرب، فلربما كان يتوسم في شبيلمان ان ينقذه لاحقا من العقاب ؟! لا ندري.

تنتهي الحرب وبعود شبيلمان الى اذاعة وارسو ليعزف البيانو كما كان يفعل قبل الحرب، بينما يقع الضابط في الأسر ويبحث عنه شبيلمان دون جدوى كي يحاول انقاذه.

فاز الفلم عام 2002 بثلاث جوائز اوسكارات ذهبت الى المخرج بولانسكي وكاتب السيناريو.. والممثل المبدع أدريان برودي الذي ادى اداء لايفارق الذاكرة بالفعل واستحق هذه الجائزة ( أفضل ممثل رئيس) الرقم الصعب في لائحة الاوسكار الذهبية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟