الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نكبة قاموس -جميلة أحمد يونس-

وليد الشيخ

2015 / 10 / 23
الادب والفن


كبة قاموس "جميلة أحمد يونس"
وليد الشيخ

كلما جاءت ذكرى النكبة، أتذكر جدتي جميلة.
منها عرفت أن العسل واللبن لم يتدفقا من تلال قرية زكريا قبل عام 1948، وأن قن الدجاج ضمّ في أفضل حالاته أربع عشرة دجاجة، وأن كل تلك السنوات الثلاثين التي عاشتها جميلة في زكريا قبل النكبة، لم تكن أفضل أيام حياتها.
بيد أن جميلة "انتكبت" تماماً.
أُجبرت مع أهلها على ترك قرية زكريا، لتحط رحالهم جنوب مدينة بيت لحم، حيث أنشأت الأمم المتحدة مخيماً للاجئين على قطعة أرض استأجرتها "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (كما صارت تعرف) مدة 99 عاماً.
وكان على جميلة وأهلها أن يتدبروا أمورهم في المخيم أسوة بالآخرين، وعليها هي تحديداً أن تقف في الطابور النسائي الطويل لاستلام المؤن (علب سردين، طحين، سكر، رز، زيت).
هذه المؤونة كانت تثير حسد أهل قرى أرطاس والخضر، وحوسان ربما. وهي القرى المحيطة بمدينة بيت لحم.
انتكبت جميلة فعلاً.
اختلّ القاموس اليومي الذي كان لسانها قد اعتاده في زكريا، وسقطت منه مفردات وتشبيهات وأسماء، وازدحمت مفردات جديدة على لسانها في المخيم، وصار القاموس الذي تستخدمه يتشكّل وفق التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
أصبح تداول كلمة "الكرت" (بطاقة المؤونة) مفردة لا مجال لنسيانها، جرت على ألسنة الناس، ودقق الناس في عدد الأنفار المدرجين على كل كرت، وعلى التوزيع العادل للموارد وعلى الأختام الواضحة ومواعيد التوزيع التي لا تُنسى. فيما سقطت أسماء من قاموسها مثل الدكران، والخابية، والتلم، والمكاثي.
ودرجت على لسانها كلمة "ساناتيشن" بتلقائية كما لو أنها قضت طفولتها عند تماثيل الطرف الأغر في لندن إلى أن ضمّ قاموسها الجديد كلمة البقجة. وهي على ما يبدو كلمة مأخودة عن الفرنسية Bagage، وتشير هذه الكلمة إلى ملابس كان يتبرع بها الأوروبيون من بلاد الشمال الباردة للاجئين.
وانتكبت أيضاً حين تنقّلت بين سجن الجفر وسجن بيت لحم منذ منتصف الخمسينيات لزيارة الأخ والابن.
فعلى التوالي، ودون أسباب موجبة على ما يبدو، قام إخوة جميلة وأولادها بالانضمام إلى التنظيم الشيوعي. وظلت تسألهم عن وجوه الرجال الثلاثة الملتحين في اللوحة الشهيرة التي كانت معلقة في الغرفة الضيقة قرب الشباك، تحت شعار "الماركسية - اللينينية راية العصر".
أنا حفيدها، كنت قلقاً على إسقاط اسم أنجلز، وبذلت جهداً للتعرّف على عالمه، وهذا موضوع آخر، لا يجوز مناقشته عند الحديث عن أمر ضروري كالنكبة. لكن تجدر الإشارة الى أن جدتي واظبت على تسمية ماركس باسم (ماكس) قالت: معلقين صورة ماكس عالحيط كأنه من بقية أهلكم!
إشارة أخيرة بهذا الخصوص، يمكن اعتبار جدتي صديقة للتنظيم، ففي بيتها خبأ الأولاد والبنات منشورات الحزب، وتحت نافذتها عقدت خلايا الطلاب اجتماعات عاجلة في أواخر الثمانينيات لمناقشة الموقف من أريتيريا (وهذا على كل حال ليس مجازاً) .
وعندما قرر الرب امتحان اللاجئين الفلسطينيين من 4 إلى7 شباط عام 1950، أنزل عليهم ثلجاً هائلاً وغزيراً، بكت جميلة طوال الليل وهي تساعد زوجها في التشبّث بعمود الخيمة كي لا تأخذها الريح أو تسقط عليهم الخيمة.
وستعلم تلك الليلة بالذات، أنها وزوجها وجيرانها وأهل قريتها لن يعودوا كما كانوا من قبل. سيتمكن منهم إحساس عميق بالقهر ورغبة صاخبة في أن تطلع الشمس، ولو مرة واحدة، من أية جهة عدا الشرق. ولتكن القيامة.
لكن القيامة تأخرت.
صار لجميلة أحفاد كثر، وصاروا مثلها لاجئين مسجلين على كرت المؤن.
ستبكي جميلة أياماً وليالي كثيرة، ولن تفهم أنها لن تعود الى زكريا مرة ثانية. لن تفتح باب القن للدجاجات، ولن تمسح العتبات الثلاث وترش في الظهيرة، فقط في الظهيرة، ماءً أمام البيت. ولن ترى تل زكريا مكللاً بالسنابل من جديد، ولن تذهب لزيارة قبور أسلافها ولا لملمة عظامهم من أراضي زكريا وحول تلها.
ولن يكون بمقدورها أن تنظر ناحية الشجرة في طريق البئر، حيث كان فتى زكريا ينتظر البنات، لينهضن من تحت الشجرة، فيذهب هناك ويمرغ جسده في التراب الحار المقدس الذي أدفأته أرداف بنات زكريا.
هذا الفتى أصبح لاجئاً أيضاً، وماتت جدتي دون أن تبلغني باسمه.
ربما يقرأ ذلك أحد أحفاده.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس