الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوجميع: إيقونة غيوانية من زمن الرصاص

عبد المجيد السخيري

2015 / 10 / 27
الادب والفن


في سياق الاشتغال على بحث في الموسيقى الحضرية الاحتجاجية بالمغرب، كان لا بد لنا أن نتوقف عند التجربة الغنائية الغيوانية التي شكلت محطة هامة في تاريخ الفنون الموسيقية المغربية بشكل، وفي تاريخ الفن الاحتجاجي الحضري بشكل خاص؛ وبالمناسبة نتذكر أحد رموزها ومؤسس أشهر فرقها الغنائية، "ناس الغيوان"، المشهور ب"بوجميع"، صاحب الصوت الصادح للفرقة التي تشكلت فنيا وترعرعت في واحد من أشهر الأحياء الشعبية (الحي المحمدي) بالمدينة العمالية الدار البيضاء منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، قبل أن تتبلور ملامح مشروعها الفني في سياق التجربة المسرحية التي قادها المسرحي المعروف الطيب الصديقي. رحيل بوجميع في ظروف مريبة وعلى نحو مفاجئ سيحوله إلى أسطورة، وسيلقي بظلاله على استمرارية الفرقة، ومدى قدرة أعضائها على الوفاء لجذورها الشعبية وهويتها الفنية والرمزية ضاربة الجذور في البيئة التي تفتح فيها وعيهم، واستلهموا منها مواد اشتغال الفرقة والكثير من إيقاعات أغانيها الممتدة إلى أصول ساكنة الحي العمالي والشعبي بالغة التنوع والثراء، وملتصقة بقضايا الناس والبسطاء وتطلعاتهم وأحلامهم...
إن عطاء الفرقة الفني وتراثها الغنائي الزاخر بالألوان الفنية الغنية للتراث الشعبي العريق، وبالجودة الفنية في صياغته وإعادة تشكيله في وجدان الناس، وتكييفه في قوالب لحنية وإيقاعية ونغمية ولغة موسيقية تساير العصر، وتتلاءم والمضامين الجديدة المعبر عنها في أشكال من القصيد والشعر والزجل المتناغم مع الحساسية الثقافية والذائقة الفنية لأوسع فئات الشعب، جعلها تتبوأ مكانة خاصة في قلوب الناس وتحظى باحترام المثقفين وتقدير نقاد الفن والموسيقى.


أصول صحراوية وامتداد عمالي

ولد بوجميع، واسمه الحقيقي حكور بوجمعة، بكاريان الخليفة بالحي المحمدي بمدينة الدار البيضاء، كبرى مدن المغرب سنة 1944. تنحدر عائلته من الجنوب الصحراوي للمغرب، وقد تنقلت بين مناطقه بفعل ظروف ونمط العيش. ورغم إقامتها لمدة في نواحي إقليم تارودانت ، فإن ذلك لم يمح من ذاكرة الفنان الراحل ولا من طباعه وملامحه أصوله الصحراوية الأولى، وهي الأصول التي يمكن أن نقتفيها في الاختيار الثقافي والفني لبوجميع وقد تخصَبت في بيئة الحي المحمدي التي شهدت ميلاد تجارب متنوعة في الموسيقى والأدب والمسرح، وفي طليعتها التجربة الغنائية الغيوانية بفرقها المتعددة: ناس الغيوان، لمشاهب وغيرها.
يعد بوجميع الإيقونة الخالدة للظاهرة وللفرقة الشهيرة، بعدما سعى في تأسيسها وتغذية مرجعيتها الموسيقية والفنية من رصيد أجداده وذاكرة والدته ومحكياتها ومرويات التراث الشعبي الممتد إلى جذور بعيدة جنوبا وغربا وشرقا من جغرافية مغرب متعدد الأعراق واللغات والثقافات، فيما لعبت جذوره الطبقية دورا هاما في اختياراته وانتمائه لأفق المغرب العميق، وصيرورته صوتا ينشد آلام وآمال الكادحين بصدى ما كان يعتمل في المجتمع المغربي من صراعات سياسية وثقافية، وبما كان يمور في العالم من نضالات وكفاحات تحررية. لم يكن أمام بوجميع من خيارات كثيرة للتعبير عن ذاته، خاصة بعدما اضطرته ظروف الأسرة الكادحة إلى ترك مقعده بالمدرسة والارتماء في أحضان الشارع ومدرسة الحياة، ملازما لوالده في أمسيات الأذكار والإنشاد الصوفي التي ستورثه ذلك العمق الصوفي في النصوص التي تغنت بها فرقته في بداياتها، بينما سيجد في أرجاء الحي الشعبي الملاذ في الاستمتاع بألوان من الموسيقى الشعبية لمغرب الأعماق وروايات "الحلاقية"، قبل أن ينتقل إلى الفعل سنة 1963 بتأسيس الفرقة المسرحية "رواد الخشبة"، بمعية رفاق من أبناء الحي ومنهم عمر السيد، أحد أبرز أعضاء الفرقة الباقين على قيد الحياة. ومما يُذكر أنه ألّف لهذه الفرقة مجموعة من النصوص المسرحية ("المسمار"،"فلسطين"، "الحاجة كنزة"...)، وذلك قبل أن يلتحق بفرقة المسرح البلدي التي كان يديرها الطيب الصديقي، ويشارك في أشهر مسرحياتها مثل:"سيدي ياسين في الطريق" و"عبد الرحمان المجذوب"، و"الحراز"، حيث أدى فيها مقاطع غنائية تراثية مختلفة شملت فنون "العيطة" و"كناوة" و"الملحون". وهو بذلك كان يجسد الدور التي يتفق مع ميوله ويناسب قدرته العجيبة على استظهار ما اختزنته ذاكرته من قصائد وموشحات منذ الطفولة. فقد كان مولعا بالأهازيج الشعبية منذ صغره، وتأثر بشكل بالغ بجلسات وحلقات الذكر الصوفي التي كان يداوم حضورها رفقة والده، ما جعله مرجعا مهما في مجال الثقافة الشعبية المغربية. ولعل ذلك أسهم بشكل مميز في طبع شخصيته الفنية وصقل ملكاته الإبداعية، حتى أن جل عطاءاته الفنية وأغانيه كانت تستلهم بشكل استثنائي الموروث الشعبي بكل مكوناته وروافده، وتعيد صياغته فنيا في قوالب موسيقية وإيقاعية تواكب زمنها، وتستوعب تطلعات المرحلة الجديدة، والمضامين التي تعكس تقلباتها وجديدها.

بوجميع والثورة الفنية

لقد بصم بوجميع تجربة "ناس الغيوان" ورسم لها طريقا واضحا في تمثَُل رسالتها الفنية ومشروعها الموسيقي. فهذا العامل السابق الذي اشتغل بمعامل النسيج والتصبير والحديد، تفتح وعيه الطبقي على واقع المغرب ومعاناة عماله وكادحيه، ما أهله لخوض مغامرة موسيقية وغنائية محفوفة بالروح الجماعية.
غير أن سنة 1967 ستشكل نقطة تحول هامة في وعي بوجميع ومسيرته الفنية، شأن كثير من أبناء جيله، إثر لقاء الفنان بتجربة سياسية فريدة من نوعها قادته إليها رحلته إلى باريس رفقة الطيب الصديقي لتقديم عروض مسرحية بالخارج، وحيث ستكون فرنسا مسرح ثورة طلابية عارمة سنة 1968. وقد ظهرت سريعا ثمار التحول بعد العودة إلى الوطن، والشروع في إنشاء مجموعة غنائية جديدة رفقة الراحل العربي باطما وبمساعدة عبد العزيز الطاهري، الذي كان له دور كبير وحاسم في إخراج تجربة ناس الغيوان إلى الوجود سنة 1971.
خروج الفرقة إلى الساحة الفنية شكل حدثا موسيقيا خلخل المألوف والنظام الغنائي السائد. ومعظم الأغاني التي أدتها الفرقة في بدايتها كانت من تأليف بوجميع :"مزين مديحك"، "الهمامي"، "غير خوذوني"، "فين غادي بيا خويا"، "الماضي فات"، "جودي برضاك"، "واش احنا هما احنا"، ورائعة "الصينية". فقد كان له حضور حاسم في تحديد الخط الفني للمجموعة، حتى أن باحثين في تاريخ التجربة الغيوانية اعتبروا أن فرقة "ناس الغيوان" الحقيقية تمثلت في شخص بوجميع، ولدت معه وانتهت بموته. ولعل جنوح أغاني المجموعة بعد رحيله إلى التقوقع داخل نصوص يطغى عليها المنزع الصوفي والفرداني، فضلا عن تسطيح الظواهر الإنسانية والاجتماعية والسياسية المعالجة يعزز مثل هذا الرأي.

الغيواني المغدور

رغم قصر الفترة الزمنية التي قضاها بالفرقة، وحتى آخر سهرة له صحبة الفرقة يوم الخميس 24 أكتوبر 1974، فقد ظل بوجميع حاضرا بقوة في ذاكرة الجمهور العاشق للأغنية الغيوانية، إلى حد يصعب تخيُّل الفرقة بدونه، بدليل أن ما أنتجته هذه الأخيرة من أعمال بعد وفاته قليلا ما يستوقف الجمهور، رغم جهود أمثال الراحل العربي باطما لإعطاء الفرقة نفسا جديدا وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تراث المجموعة. كان حضور بوجيمع قويا ومميزا في الصورة التي تكونت عن التجربة الغيوانية كحدث فني وموسيقي شكل ثورة على النمط الغنائي السائد الفردي والنخبوي، باستلهام التراث الشعبي الذي استوعبت ذاكرته، وبشكل استثنائي، الكثير من إبداعاته وإيقاعاته وأنماطه اللحنية، وأعادت صياغتها فنيا في قوالب جديدة بالارتكاز على لغة بسيطة ذات عمق شعبي، إنما مزودة بمضامين نقدية للأوضاع السائدة، وتوظيف ذكي ومبدع للآلات التراثية مثل: البندير والسنتير والطبل...
عندما اكتشف المخرج العالمي مارتين سكورسيزي أغاني الفرقة من خلال شريط "الحال" للمخرج المغربي أحمد البوعناني، أعجب بها أيما إعجاب، ولم يجد بدا من تشبيهها بفرقة رولينغ ستون الشهيرة، معتبرا أن ناس الغيوان هي بمثابة رولينغ ستون إفريقيا. ولعل من تبقى من أعضاء الفرقة على قيد الحياة يفخر كثيرا بهذه الشهادة، ويعدها دليلا على ولوج العالمية.

ملحوظة: كتب هذا النص السنة الماضية في الذكرى الثلاثين لرحيل "بوجميع"، الذي قضى في ظروف مريبة وأعلن رسميا عن وفاته ليلة 27 أكتوبر من سنة 1974.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر