الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قدميها

عبد الرحمن جاسم

2005 / 10 / 28
الادب والفن


قدميها...

لست في معرض الدفاع عن نفسي... لست أبداً أقول أنني لم أخطئ... لكن أرجوكم قبل محاكمتي، أرجوكم قفوا مكاني قليلاً... أرجوكم... لا تحاكموني دون أن تجلسوا مكاني... أرجوكم...

ثم لماذا لا يكون نظام القضاء لدينا كما في المحاكم الأميركية، لمَ، يعني هيئة محلفين هي التي تنظر إلى الجريمة وتحدد ما إذا كان المتهم مذنباً أم لا... كونوا هيئة محلفيني... ولا تكونوا هيئة اتهام...

نعم، أنا أعترف أنني قتلتها... أعترف، لست أنكر أبداً... لكنها كانت تستحق الموت، تلك... كانت تستحق أن تموت، لقد حذرتها ألف مرة... لكنها لم ترتدع... حذرتها...

ماذا أقول لكم؟ هل أبدأ من اللحظة الأولى، أم من لحظاتي الأخيرة معها... عن ماذا أحدثكم؟ قد تعتقدون أني أحببتها، أو أنها كانت تعني لي... لا الأمر ليس هكذا أبداً وكي لا يذهب فكركم بعيداً... لم يكن جسدها يعنيني أيضاً...

لماذا قتلتها إذا؟ تسألونني، طبعاً الحق معكم، فأنتم لم تروا قدميها... نعم قدميها، لا تستغربوا الأمر، نعم ما تسمعونه هو الواقع، قدميها. لا أعرف ما الذي كان يصيبني حالما أرى قدميها. حالما أرى تلك الأصابع البضة الصغيرة، كنت أفقد اتزاني... وهي كانت تصر على لبس الأحذية المفتوحة والمكشوفة... كانت تتمادى في الأمر...

ولطالما حذرتها، وحذرتها... حدثتها كيف أن الشمس والهواء يجعلان قدميها جافتين وقسايتين، حدثتها كيف أن الأحذية المفتوحة تضر الأقدام كثيراً، لكن لا مجيب، كأنما هي لا تسمع، وقدميها تساهمان في تحديها لي، دائماً كانتا تبديان أحلى مما أتصور. استمرت على حالها، كل يومٍ تأتي وتجلس في مكتبها، إلى جوار مكتبي وطوال النهار، نعم، تصوروا، طوال النهار، تضع قدميها العاريتين أمامي... لم أكن أعتقد أن العري له هكذا تأثير... لم أكن أعرف أبداً أن العري يؤدي إلى الذهول هكذا...

كل يوم، وأنا جالسٌ أمامها، آسف، أمام قدميها، ولا أستطيع القيام بشيء آخر. أصبحت أهمل عملي، أصبحت لا أهتم بشيء، إلاهما، ما العمل؟ هل كنت أستطيع شيئاً؟، لا تنظروا إليَّ هكذا، كما لو أنني مخبول... لست كذلك، لكنكم معذورون، فأنتم لم تروا قدميها...

تلك الأصابع الرقيقة، ذات الألوان المتغيّرة دائماً، كألوان الربيع تماماً، حتى في أثناء حزن الفصول، كانتا تتلونان بالحزن، صدقوني لم أعرف شيئاً يتلون هكذا، مثل قدميها... حينما كان يشحب الجو داخل المكتب عند الغروب، كان المشهد يكاد يكون مدهشاً، كل الأشياء لونها شاحب، وأصابعها باللون الأحمر تلمع، وأنا أترك كل شيء لأراقب، ساعاتٍ وساعات، ولا أبالِ بكل ما يحدث حولي...

لكن يا ساداتي لا يمكن أن يستمر هكذا، فالمدير اتنبه إلى أني لا أقوم بعملي، وكيف أقوم به؟ وكل هذا الإغراء أمامي... وهي لا ترتدع ولا تتوقف، وبدلاً من أن يلومها على الأمر، وهنأها على جمال قدميها... الوغد... كلا، كلا، هو غير ملومٍ بالأمر... فهو لا يفهم بالموضوع... وهي...

هي كل البلاء منها... كل يومٍ كانت تصر على أن يكون الإغراء مضاعفاً، كل يومٍ صار يزيد عذابي، كل يومٍ صرت لا أحب الرحيل من العمل... صار عملي الوحيد هو الجلوس ومراقبة قدميها من كل الزوايا، حتى حفظتهما، إلا أن أحسست أن الأمر يفوق طاقتي على الإحتمال... صرت لم أعد قادراً على الإحتمال...

فاقتربت منها، قلت، سأتحدث بالحقيقة، دائماً علموني بأن الحقيقة هي مفتاح النجاة، وسأقول لها الحقيقة، استجمعت شجاعتي كلها كي أكلمها بصراحة... وقلت لها بأن ما تفعله غير صحيح، وبأنها يجب أن تخفي قدميها كي أستطيع العمل... قلت لها بأنني لا أستطيع العمل، وقدميها أمامي، وبأن عليها أن تخفي قدميها، وبأن هذا الأمر نهائي...

هي نظرت إلي... –كما تنظرون أنتم إلي الآن- اعتقدت أنني مجنون... ألف مرةً أقول لكم، لستُ مجنوناً، ما كنت مجنوناً، ولست أكون... وقالت إنه من الأفضل لي أن أعود إلى مكتبي وإلا ستخبر المدير بأني أتحرش بها... وأتدخل بما لا يعنيني...

رجوتها، حدثتها بكل لطفٍ بأن تبتعد، وأخبرتها كما أنها جميلة، وبأن الأمر يضايقني، لكنها رفضت أن تستمع، كل ما تحدَثَتْ عنه هو حريتها... وبأنه لا يمكن أن يمنعها أحد من أن ترتدي ما تريد إرتدائه... سواء في قدميها أو في رأسها... كنت أنظر إليها وهي تتكلم، لكنني لم أستطع، كان الأمر قد أصبح عندي أشبه بالإدمان، لم أستطع إلا أن يظل تحديقي مقتصراً على قدميها، فعلاً لم أكن أراها، كنت أرى قدميها فقط، كانت تتكلم، وأنا لا أنظر إليها فقط إلى قدميها، صوتها يعلو، وحتى أنا أرد على كلامها، لكن دون أن أبعد نظري، لم أكن أعرف أنني أفعل ذلك، ثم... لا أدرِ قالت لي شيئاً عن كوني بلا أخلاق، ثم أدارت ظهرها لي ومشت... ومضى النهار... وفي اليوم التالي حدث الأمر القاصم... لقد طلبتْ نقلها إلى مكتب آخر... فهي لا تريد أن تعمل مع منحرف... هكذا سمتني، "منحرف"، قالها لي المدير وهو ينظر إلي بقرف... أنا منحرف؟ سألت نفسي مراراً نفس السؤال، هل أنا هكذا؟

أبداً، هل يعني إعجابي بقدميها أنني منحرف؟؟ أرجوكم أجيبوني... لم تنظرون إلي هكذا...

عدت إلى المكتب الفارغ، وجلست، لم أطق الوقت، صار النهار كئيباً... ولم تمض أكثر من ساعتين، وأنا أحس بأني أموت في مكاني، كان الأمر كما قلت أكثر من إدمان... هرعت كالمجنون إلى الغرفة التي تتواجد بها... نظرت إليها، رجوتها أن تعود، الكل نظر إلي باستغراب، هي؟ لم أكن أراها، كنت أبحث عن قدميها، وشاهدت الأمر... شاهدت الأمر... نعم لقد شاهدت خيانتها... لقد كانت ترتدي حذاءاً مغلقاً، نعم تصوروا، أكثر من سنة سوياً في نفس المكتب، وكل يومٍ ترتدي أحذيةً مفتوحة، وصنادلاً، وحالما انتقلت إلى مكانٍ جديد تفعل هذا... لقد كان الأمر مدبراً إذاً، ولم أحتمل، واجهتها بالأمر... الشرر بدأ يتطاير من عيوني. لم أحتمل، الوقحة، لقد كانت تبتزني، لقد كانت تلعب بي، كانت تتقصد إذاً، كنت أتحدث وأخبرها كيف أنها لن تفلت بفعلتها، وكيف أن عليها أن تدفع ثمن أخطاءها، ثمن ما كانت تفعله معي، وانقضضت عليها... نعم خنقتها... ورغم كل محاولاتهم أن ينقذوها من بين يدي... لم يقدروا... أجل لم يقدروا... فهي تستحق... نعم تستحق... قلت لكم سابقاً...

لقد كانت تهدف إلى تدميري، هي أوصلتني إلى هنا... لا يقولن أحد بأنها لم تكن تقصد... الدليل صادقٌ ولا يكذب... أرجوكم لا تحكموا علي بقسوة، لا تظلموني، أنا أفهم أنني قتلت، لكنني كنت مضطراً... مضطراً...

أرجوكم... افهموني... افهموني... ولكن إن حكمتم بجرمي، أفهم، أفهم، أنتم معذورون...

فأنتم... لم تروا قدميها... لم تروهما...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي


.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-




.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر


.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب




.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند