الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإستارتيجية الفلسطينية .......ضرورة التغيير 1/2 النشأة والأصول

عبد المجيد حمدان

2015 / 11 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


الإستراتيجية الفلسطينية .... وضرورة التغيير
1/2
النشأة والأصول
لم يتوقف الجدل حول شرعية الدعوة لعقد جلسة المجلس الوطني ، وشرعية القرارات المحتملة ، إلا ليفسح المجال لجدل آخر حول الحراك الشبابي الحالي . في الحالتين ، كما هي العادة ، تركز الجدل الفلسطيني حول المظاهر العامة – القشور - ، متجنبا الاقتراب من الجوهر والمضمون .
مشكلة النضال الوطني الفلسطيني ، الذي لم يهدأ ، وتناوبت عليه أجيال بعد أجيال ، منذ نشأة القضية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ، رغم تعدد صنوف البطولات ، وعظم التضحيات ، وتنوع المبادرات ، أنه ، وفي الحساب الختامي ، لم يسفر إلا عن الخيبات والنكسات . لماذا ؟ سؤال لم يطرح على مدى القرن وثلث القرن من عمر هذا النضال ، خوفا ربما من اكتشاف أن العلة تكمن في إستراتيجية النضال ، وأنها ، الإستراتيجية ، استحقت ، بل واستوجبت المراجعة فالتغيير ، ومنذ زمن طويل .
كتبت في : " دخول إلى حقل المحرمات " ، الصادر في 2010 ، والمتوفر على مكتبة الحوار المتمدن ، أن الخطيئة الأولى والأساس ، للثورة الفلسطينية المعاصرة ، أن عرفات بدأ من حيث انتهى الحاج أمين الحسيني ، ودون مراجعة ، أو محاولة تقييم للمنهج ، للسياسات والممارسات ، فتبين الأخطاء التي أدت لسلسلة الكوارث التي نزلت بالشعب الفلسطيني ، وتاجها النكبة الكبرى . وقلت أن ذلك عنى إصرارا على تكرار ذات الأخطاء ، فتهيئة الأذهان لاستقبال كوارث أشد هولا ، وهو ما جرى في الواقع .

وكنت قبل ذلك ، وفي كتاب " إطلالة على القضية الفلسطينية " الجزء الأول ، والمتوفر أيضا على مكتبة الحوار ، قد توقفت عند الإرث الاجتماعي ، الفكري ، الثقافي والتاريخي لشعبنا الفلسطيني ، وانعكاساته على وعي القيادة الناشئة لمتطلبات المواجهة مع الحركة الصهيونية . فالوطن الفلسطيني ، ومنذ ما قبل إمبراطورية الإسكندر المقدوني ، وحتى سقوط الخلافة العثمانية ، ظل جزءا من إمبراطورية كبرى ، تحمل على عاتقها عبء ومسؤولية الدفاع عنه ، وعن وحدة ترابه ، وتطور شعبه . ونتيجة لذلك ، لم يحدث في كل تاريخ الشعب الفلسطيني ، أن راوده مجرد الشعور ، بأن مسؤولية صد خطر يستهدف فلسطين وحدها ، أو مع غيرها تقع على عاتقه .
حال هذا الوضع ، وعلى مر هذا التاريخ الطويل ، بين الشعب الفلسطيني وبين إفراز وتطور قيادات سياسية وطنية ، يسكنها أي هم من الهموم الوطنية ، الاجتماعية والثقافية ، والتي سكنت قيادات الشعوب الأخرى . قد يقال ؛ تلك لم تكن حالة فريدة ، خصوصا في منطقتنا ، وهو صحيح ، لكن المؤامرة الصهيونية أعطتها تلك الفرادة . وزاد الطين بلة أن حكومة الباب العالي في اسطنبول ، ورغم انكشاف أطماع الحركة الصهيونية ، وانتقالها إلى التطبيق ، مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، واصلت حرمان الشعب الفلسطيني ، ولأكثر من ثلث قرن ، من تخليق وتطوير مثل هذه القيادة .
لقد فاجأ سقوط الخلافة ، وعد بلفور ، الاحتلال فالانتداب البريطاني ، تمدد الاستيطان اليهودي في العهد العثماني – أكثر من خمسين مستوطنة ، وأربع مدن ؛ ريشيون ليتسيون ، بتاح تكفا ، رحوبوت وتل أبيب -، فاجأ الشعب الفلسطيني الذي خرج من الخلافة بلا قيادة ، وفوق ذلك غارق في لجج الفقر ، الجهل ، الأمية والمرض . وبسبب شغور مواقع القيادة من أي شاغل ما ، كان بديهيا أن يقفز إليها وعليها ، المتنفذون اجتماعيا وماليا ؛ إقطاعيون ، رجال دين ، ممثلو عائلات ، تجار ، رؤساء وأعضاء بلديات ...الخ ، ودون أي امتلاك لمؤهلات القيادة السياسية الوطنية . وكان أن انعكس ذلك على تقدير تلك القيادة الناشئة خصوصا ، والجماهير الفلسطينية عموما ، لخطورة وعد بلفور من جهة ، ولأطماع وقدرات وإمكانيات الحركة الصهيونية وقيادتها ، ولدور دولة الانتداب البريطاني في تطبيق الوعد ، من جهة أخرى .
لكن الحقيقة المرة ، والتي دأبنا على تجاهلها ، أنه ومنذ دخول الجيش البريطاني ، وانتهاء الوجود العثماني ، وحتى تشكيل أول هيئة قيادية ، أواسط الثلاثينات ، ظل الشعب الفلسطيني بلا قيادة ، فعلية أو حتى شكلية ، اللهم إلا إذا اعتبرنا تنافس ممثلي العائلات ، الحاج أمين الحسيني وراغب النشاشيبي ، على الحظوة لدى المندوب السامي البريطاني ، هو هذه القيادة .
وقفة :
وما لم ولا نتوقف عنده ، أنه ، وفي هذه الفترة التي طالت لقرابة العقدين – 18 سنة من 1918 إلى 1936 -، تحددت معالم ذلك المستقبل غير البهي لفلسطين ، ومن ضمنه معالم إستراتيجية النضال الوطني الفلسطيني ، سارية المفعول حتى يومنا هذا .
كيف ؟
الجواب يتطلب وقفة مع الماضي . ذلك أننا في أبحاثنا وكتاباتنا ، واصلنا تجاهل حقيقة أن الإرث التاريخي ، الفكري والثقافي ، والممتد لأكثر من ثلاثة آلاف سنة ، وفي مركزه شبه انعدام المسؤولية الوطنية ، عن صد العدوان الخارجي ، والحفاظ على وحدة الوطن ، أن هذا الإرث تحول إلى نوع من الموروث الجيني عندنا كفلسطينيين ، وعند أشقاء – سوريين ، أردنيين ، لبنانيين وعراقيين - عاشوا ذات ظروفنا . كما تجاهلنا حقيقة أننا لم نحظ بقيادة وطنية سياسية ، احتاجها شعبنا وهو يواجه قوات الدرك العثماني ، تطرده من أرضه ، وتسلمها لليهود – قرى الخضيرة وملبس العام 1882 ، وحيث بنيت عليها مدن بتاح تكفا وهديرا ، وفيما بعد أرض المدورة في بيسان والتي كانت ملكا لزوجة السلطان عبد الحميد نفسه - . قيادة احتاجها الشعب حين حل البوليس الإنجليزي محل الدرك العثماني ، في طرد الفلاحين من أرضهم وهدم قراهم – وادي الحوارث ومرج ابن عامر كمثال - . قيادة احتاجها ومصادماته مع المستوطنين وقوات الانتداب تتوالى مرة بعد أخرى ، ولا تهدأ إلا لتعود إلى الانفجار من جديد .
لكننا اعتدنا النظر لظهور دور لممثلي العائلات - الحسيني والنشاشيبي بالأساس – في العلاقة مع المندوب السامي البريطاني ، على أنه تجسيد لهذه القيادة . كما اعتدنا تجاوز معاني ما انطوى عليه سلوكهم مع حكومة الانتداب ، والمتمثل في التقرب من المندوب السامي الأول ، هيربرت صمويل ، المكلف بوضع أسس وقواعد تطبيق وعد بلفور ، ثم مع من خلفوه في التنفيذ .

ولو أننا أمعنا النظر قليلا ، لرأينا أن هؤلاء الممثلين للعائلات ؛ الحسيني ، النشاشيبي ، الشقيري ، أبو ماضي ، عبد الهادي ....الخ ، لم يروا في الانتداب البريطاني ، بعد خيبة الأمل التي خلفها فشل الثورة العربية الكبرى ، غير صورة لحلول الدولة المركزية الجديدة – بريطانيا - محل الدولة المركزية القديمة – الخلافة العثمانية ومن سبقها - . وهكذا عاشوا تلك الفترة الفاصلة في تاريخ القضية – أل 18 سنة - ، على وهم دفع إدارة الانتداب لحمل عبء مسؤولية الدفاع عن الوطن ، والحفاظ على وحدة ترابه من جهة ، ودفع مسيرة تطوره من جهة أخرى . ومن هنا جاءت تلك المراهنة ، والمقامرة القاتلة ، على ذلك التوصيف بعدالة هذه الإمبراطورية الاستعمارية ، ومناصرتها لحقوق الشعوب المستضعفة . مراهنة برزت في صورة اقتصار عمل القيادة العائلية ، كما كان الحال أيام الخلافة العثمانية ، على التظلم من ارتفاع وتائر الهجرة اليهودية ، والشكوى من تصاعد عنف عمليات طرد الفلاحين الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم ، فالمناشدة بتطبيق العدالة .
ولأن عمليات الطرد لم تمر بلا مقاومة ، ولأن الهبات ، ردود الفعل ، التي ظلت الجماهير البسيطة والفقيرة عمادها ، قد تتالت ، فقد كان طبيعيا أن تولد من رحمها ، وأن تتبلور إستراتيجية للنضال الوطني ، وفي هذه الفترة – أل 18 سنة – التي مارس فيها ممثلو العائلات دور القيادة . إستراتيجية نشأت وتبلورت عشوائيا ، في خضم ، ومن رحم ، الهبات الشعبية المتلاحقة ، وفي غياب أية منهجية ، تستند لقواعد معرفية وفكرية .
فكما أشرنا ، وحتى في عهد الخلافة العثمانية ، قاوم الفلاحون الفلسطينيون إجراءات هدم قراهم ، ترحيلهم ، وتسليم أراضيهم لليهود . وفي عهد الانتداب تصاعدت المقاومة ، وتتالت موجاتها واحدة بعد أخرى . ولم تعرف فلسطين فترة هدوء واحدة تقترب من الخمس سنوات . لقد حدث ذلك في غياب تام لقيادة واعية ، موجهة لهذه المقاومة . وبسبب ذلك اتسمت المواجهات بالمواقعية ، والمناطقية في أحسن الأحوال . وفي اختيار أساليب وآليات وأدوات المواجهة ، استند المقاومون إلى خبرتهم الخاصة ، المستمدة من تراث وخبرة صراعاتهم العائلية والحمائلية . ذلك التراث القائم على اعتبارات المكانة والكرامة ، والرافض لحسابات توازنات القوى ، وحيث شكلت مقولة :" الموت ولا المذلة " الانتحارية ، جوهر فلسفته الحاكمة . وليكون شعار ؛" موش مهم نخسر ، المهم أن لا نستسلم "، هو الشعار الحاكم في المواجهات . ولأن الصراعات الحمائلية عنيفة بطبيعتها ، واقتصرت أدواتها على ما تيسر لأطرافها من السلاح الأبيض ؛ الحجر ،العصا ، الشبرية – كان الشباب خصوصا والرجال عموما يتمنطقون بها - ، الخنجر ، السيف ، السكين ، فقد شكلت كلها أدوات الصراع مع الاستيطان ، ومع إدارة الانتداب .
ولأن الفزعة ، في التقاليد الشعبية ، ظلت آلية الحشد المعتمدة ، لمواجهة الخطر الخارجي المهدد للحامولة وللقرية . ورغم مخاصمتها لقواعد التنظيم ، وانحيازها للفوضى وضعف الاستمرارية ، فقد انتقلت لتشكل آلية الحشد في كل المواجهات . وحتى بعد هبة البراق التي استقطبت مشاركة وتأييدا شعبيا واسعا ، وإرهاصات الثورة المسلحة التي لحقتها – ثورة جبل المكبر وحركة الكف الأخضر - ، فقد تواصل الحفاظ على أدوات الصراع تلك من جهة ، وآلية الحشد هذه من جهة أخرى . والأهم من كل ذلك حدث ذلك بمعزل عن قيادة كان عليها أن تتولى مهام التخطيط ، الإدارة ، الحشد ، التعبئة ، التوعية والتنظيم ....الخ .
المبادئ:
وبعد ، يمكن تلخيص المبادئ التي قامت عليها هذه الإستراتيجية في التالي : 1- حتمية انتصار الحق وهزيمة الباطل . 2- مركزية القضية للأمتين العربية والإسلامية . 3- التفوق العددي – الكثرة تغلب الشجاعة - .
لم يكن غريبا ، ولا مستغربا ، أن لا يدرك جمهور غرق في عالم الغيبيات ، وفي عزلة تامة عن متغيرات العصر وتقلباته ، عدم صلاحية هكذا إستراتيجية ، قائمة على هكذا مبادئ ، لكسب صراع بكل هذا التعقيد مع الصهيونية . لكن الغريب ، والمستغرب في ذات الوقت ، أن ترتقي هذه المبادئ إلى مراتب القداسة ، عند الأجيال التالية ، وحتى يومنا هذا .
إن نظرة فاحصة ، مهما كانت عابرة ، على المبدأ الحاكم لفلسفة الصراع مع الصهيونية ، وعلى هذه الإستراتيجية ومبادئها ، تظهر ، وبوضوح شديد ، القناعة الفلسطينية التامة ، بتفوق العدو الصهيوني الكاسح ، وفي مختلف الميادين ، ومن ثم انعدام فرص صد خطره ، ناهيك عن هزيمته ، بالاعتماد على القدرات الذاتية وحدها . كما وتظهر ، وبوضوح لا لبس فيه ، أن القيادات الفلسطينية ، على ضعف مؤهلاتها ، وتدني درجات وعيها ، كانت تدرك أن ذلك التفوق يرجع إلى ذلك البون الحضاري الفاصل بين طرفي الصراع . والحقيقة المؤلمة أن تلك القيادات ، وهي ترى القيادة الصهيونية ، تعمل بكل جد ودأب ، على توسيع وتعميق ذلك البون ، فقد رمت ، هذه المسألة ، وراء ظهرها ، ونامت مطمئنة ، على هدهدة أحلام إستراتيجية تمت ولادتها على تلك الصورة العشوائية .
فعلى عكس قياداتنا التي واصلت العيش في الماضي ، كانت القيادة الصهيونية ابنة العصر . تتابع متغيراته وتعيشها . تقرأ تاريخ صراع العصر وتعي دروسه . وهي لذلك تدرك تماما أن الصراع المقدمة عليه ، رغم أنه صراع الحق الفلسطيني وباطلها ، تحسمه القوة القابضة على زمام العلم وتقنياته . وأن الاستناد لأمة بحجم الأمة العربية ، أو حتى الأمة الإسلامية ، يبطله ، وحتى يعكس اتجاهه ، تعاطف قوى دولية نافذة ، ورأي عام متقدم ، يمكن الوصول إليه عبر استخدام متقن للإمكانيات والقدرات المتنوعة ، والتي يملكها يهود العالم .
وفي موضوع التفوق العددي الفلسطيني ، لم تقف جهود القيادة الصهيونية عند حدود الزيادة السريعة لأعداد المهاجرين الجدد ، ورفع النسبة لعدد السكان فقط . ذلك أنها أولت اهتماما بالغا للنوع ، العنصر الحاسم في كسب الصراعات ، كما دللت عليه تجربة قرنين كاملين من تاريخ الاستعمار على مستوى العالم أجمع . ففي حين كان الإنسان ، وجودة الخدمات المقدمة له ، وعلى تنوعها ، محط اهتمام وعناية القيادة الصهيونية ، ظل في المقابل موضع إهمال القيادة الفلسطينية ، آنذاك وحتى يومنا هذا . كيف ؟
مفارقات :
حتى في العهد العثماني ، وحين كان المستوطنون ما زالوا أقلية لم تصل إلى نسبة أل 10 % ، فقد استقلوا في إدارة مجتمعهم ، مشكلين ما يشبه دولة داخل الدولة ، وليتوسع هذا الاستقلال في عهد الانتداب . أداروا تعليمهم ، صحتهم ، بيئتهم ، صهروا شتات مجتمعهم ، شقوا طرقهم ، كهربوا مستعمراتهم ، أقاموا بنيتهم التحتية ......الخ . ومع أن ذلك كله كان يجري تحت سمع وبصر الفلسطينيين وقيادتهم ، وأن القيادة الصهيونية تبني مشروعا يستهدف التحول لدولة تحتل مركزا متقدما بين دول العالم ، فإنه لم يحفزهم على تبني مشروع يسرع الخروج من حالة التخلف الكارثية ، والموروثة من الخلافة العثمانية .
في التعليم مثلا اكتفت القيادة الفلسطينية بالثقة في جهد الانتداب ، بنقل التعليم من نظام الكُتَّاب إلى النظام المدرسي . وهي لذلك لم تعر جودة التعليم ، وهو مضمون البناء للمستقبل ، أي اهتمام . وأغلب الظن أنها لم تدرك أهميته ، رغم قوة مثل التجربة الصهيونية الماثلة . وهكذا وفي العام 47 ، بداية النكبة ، كانت لدينا بضع مدارس ثانوية ، ومدرسة فوق ثانوية واحدة ، هي الكلية العربية . هشاشة هذا الوضع كشفته حقيقة أن عدد المتقدمين لامتحان الثانوية العامة ، بلغ 219 طالبا فقط وفي كل فلسطين ، بينهم عدد من الطلبة اليهود .
على الجانب المقابل ،وضعت القيادة الصهيونية حجر الأساس لجامعة التخنيون حيفا العام 1912 ، أي في العهد العثماني ، وللجامعة العبرية العام 1918 ، وبدأ معهد وايزمان – روحوبوت – العمل العام 1934 . وفي العام 47 بلغ عدد طلاب الجامعة العبرية 2500 طالب وطالبة . وجدير بالذكر ، مرة أخرى ، أن جودة التعليم ، والبحث العلمي تصدرت أولويات برامج القيادة الصهيونية آنذاك .
وفي الصحة ، وحين كان الإنسان وصحته ، يحتل صدارة اهتمام القيادة الصهيونية ، وحين كان مستشفى هداسا مثلا يجمع بين خيرة المتخصصين وفي كل الفروع ، بقيت فلسطين العربية بلا مستشفيات تقريبا . مرة أخرى عهدت القيادة الفلسطينية لإدارة الانتداب معالجة هذه التركة الثقيلة . صحيح أن الانتداب أنشأ عيادات ومراكز صحية مختلفة ، لكن محافظة القدس ، والتي ضمت ألوية القدس ، رام الله ، أريحا وبيت لحم كمثال ، ظلت بلا مستشفى واحد ، وحتى بداية العهد الأردني .
والمثالان السابقان ينطبقان على باقي المجالات . الريف الفلسطيني مثلا ظل مقطوعا عن المدينة ، حتى ربطه الانتداب بطرق ترابية ضيقة ووعرة ، خدمت أغراض تحركاته بالأساس . وسكانه واصلوا الشرب من قنوات الينابيع ، إلى أن سقف الانتداب القنوات وبنى الحواويز – الخزانات- البديلة ، ولم يعرف الريف الفلسطيني شيئا اسمه الصرف الصحي ، وآخر اسمه البنية التحتية للاقتصاد . فقد بقي بلا كهرباء وشبكات مياه واتصالات حتى ثمانينات القرن الماضي وما بعدها .
وظل الحال الاجتماعي هو الأخطر . فالمجتمع الفلسطيني لم يعرف شيئا اسمه التنظيم حتى مطلع الثلاثينات ، باستثناء مجالس بلدية في بعض المدن . وظلت الحامولة هي نواته . ولها - الحامولة والقبيلة والعشيرة - كان ولاء الفرد أولا وثانيا وثالثا وعاشرا ، وفي مرتبة متأخرة يأتي الولاء للوطن . وكان مفهوم الوطن في الثقافة الدينية السائدة بدعة ، والولاء له كفر . كما وتفوقت عوامل الخلاف على عوامل الائتلاف . لقد كان مجتمعا مفككا وأبعد ما يكون عن الوحدة .
وعلى العكس سار مجتمع المستعمرات . فالتنظيم في هيئات ، مجالس مستعمرات وبلديات ، جمعيات ، نقابات ، نوادي ، تنظيمات سياسية وعسكرية ...الخ ، صهر هذا الشتات غير المتجانس في كتلة واحدة متماسكة ، وحتى شديدة الصلابة ، وخلق منه مجتمعا حديثا بكل معنى الكلمة .
هيئة قيادية :
كان تواصل وتطور المواجهات ، ونشوء الأحزاب السياسية ، مطلع الثلاثينات ، قد أنضج الظروف لنشوء هيئة قيادية عليا ، رسا اسمها على الهيئة العربية العليا ، ورئاستها للحاج أمين الحسيني .
ولما كان من غير المقدر لهذه القيادة ، بسبب ظروف نشأتها ، ومؤهلات أعضائها ، أن تعيد النظر في إستراتجية النضال التي نشأت وترسخت في غيابها ، فقد فاجأها الإضراب الكبير والشامل عام 36 . كانت إدارة نضال بهذا العمق والاتساع أكبر من قدراتها . وذهبت مناشداتها لإدارة الانتداب أدراج الرياح .
وكانت خيبة الأمل ، من فشل الثورة العربية الكبرى ، قد تراجعت ، إثر ظهور عدد من الممالك العربية ، بشبه استقلال تحت الحماية البريطانية . ولأن منظمي الإضراب الكبير لم يستجيبوا لنداءات قيادتهم ، فقد عهدت أمرهم للقيادة العربية الناشئة . وبالفعل توقف الإضراب نتيجة الوساطة العربية ، وركونها لحسن نوايا بريطانيا الصديقة . وجاءت النتيجة بقدوم لجنة بيل وصدور قرار التقسيم الأول ، والذي شكل صدمة قاسية للجماهير الفلسطينية وبعض أعضاء قيادتها الناشئة .
الثورة :
أسقط قرار التقسيم آخر مراهنات الحاج أمين على العدالة البريطانية . وفر ، مع عدد من أعضاء القيادة ، إلى سوريا ولبنان ، مستفيدا من حالة الخصام بين الاستعمارين الفرنسي والبريطاني آنذاك . ومن منفاهم ، " قادوا ! " ثورة 37 – 39 التي اندلعت فور إعلان قرار التقسيم .
نحن في فلسطين لم نتوقف ، لا مليا ولا سريعا ، عند هذه المحطة الأهم على مدار النضال الوطني الفلسطيني . نعم ؛ هي كانت واحدة من أعظم ثورات الشعوب على الاستعمار البريطاني . لكنها في ذات الوقت قدمت لنا اختبارا بالغ الأهمية لإستراتيجية النضال الوطني . فلقد أثبتت ، وبالملموس أن بند مركزية القضية للأمة ، معبرا عنها بالأنظمة الحاكمة ، أو النظام العربي ، قبض ريح . وهي في أحسن الأحوال وسيلة متاجرة ، مقايضة وتثبيت لهذه الأنظمة . وجاء اختبار حرب العام 48 أشد سطوعا . كيف ؟
أولا كانت ثورة 37 – 39 ثورة فلاحين شكلا ومضمونا ، جرت المدينة لمساندتها . وهي ، تبعا لأوضاع الريف ؛ حيث سيادة الجهل ، ضعف الوعي ، الإيمان بالقدر ، انتشار وتنوع الخلافات ، تضارب المصالح ، كانت عصية على الانضباط ، التخطيط ، التنظيم والتوجيه . وزاد الطين بلة وجود القيادة في الخارج ، والصعوبة البالغة في وسائل الاتصال ، الأمر الذي سهل على الانتداب تفعيل سياسة فرق تسد ، وضربها من الداخل ، وحيث حملت في سنتها الثانية الكثير من المآسي لشعبها. وثانيا أن هدف الثورة انقلب من مواجهة الصهيونية والاستيطان ، إلى مواجهة دولة الانتداب ، بصفتها راعية ومؤسسة وحامية الاستيطان . والثالثة والأهم ، أن القيادة الفلسطينية لم تسترجع من القيادة العربية تلك الصلاحيات التي تنازلت عنها طوعا ، لحل معضلة الإضراب الكبير ، ولتكون الأخيرة هي القيادة الفعلية .
بانت هذه المسألة واضحة جلية ، مع ظهور نذر الحرب العالمية الثانية ، ومن خلال مناشدات هذه القيادة العربية فصائل الثورة وقفها ، مساعدة للصديقة بريطانيا في جهدها الحربي ضد دول المحور ، ومشفوعة بوعود إنصاف الصديقة بريطانيا لشعب فلسطين ، عقب تحقيق النصر على النازية .
وجاءت نتائج الثورة التي كانت موضع إعجاب عالم المستعمرات بأسره ، مخيبة لآمال الشعب الفلسطيني من جهة ، وكسبا صافيا للحركة الصهيونية ، والنظم العربية من جهة أخرى . الحركة الصهيونية التي أراحتها الثورة من عبء المواجهة حققت زيادة كبيرة في تدفق المهاجرين ، وإقامة عشرات المستوطنات الجديدة أولا ، واستغلال حالة الحرب لتحصين المستعمرات وتحويل عدد كبير منها لقلاع عسكرية ثانيا ، وإنشاء المنظمات العسكرية ورفع وتائر التجنيد ، التدريب والتسليح ثالثا ، وتطوير إستراتيجية الحركة الصهيونية بإضافة ضرورة الحرب مع الشعب الفلسطيني ، لتحقيق حلم الدولة اليهودية ، بالمساحة المطلوبة رابعا .
على الجانب الآخر ، وعلى عكس نظيرتها السورية التي انتزعت اعتراف فرنسا بحق سوريا في الاستقلال ، وقيام حكومة محلية ، فشلت الثورة في تحقيق أي مكسب ، وخرج الشعب منهكا ، ومجردا حتى من الأسلحة البيضاء . واضطرت القيادة لمغادرة لبنان إلى بغداد . وبسبب انحيازها لثورة رشيد عالي الكيلاني غادرت إلى طهران . واستقر المقام بهرب الحاج أمين إلى ألمانيا وتحالفه معها .
لهذه الأسباب وغيرها واصلت القيادة مسلسل التنازلات عن صلاحياتها للقيادة العربية . وفي فترة الأربعينات كلها ، وخصوصا بعد نشوء الجامعة العربية ، باتت القيادة الفلسطينية شكلا مجردا من أية صلاحيات . ورغم شن اليمين الصهيوني حرب عصابات ضد إدارة الانتداب ، بحجة عرقلتها تدفق موجات المهاجرين الهاربين من جحيم النازية ، واصل الشعب وقيادته حالة السبات ، وكأن ما يجري كان يحدث على كوكب آخر . أما القيادة ، ممثلة بجامعة الدول العربية ، فقد ردت بعقد سلسلة من مؤتمرات القمة ، كان استبعاد القيادة الفلسطينية عنها ، وتكريس نقل صلاحياتها ، هي كل نتائجها .
حرب 48 والنكبة :
وكان أن حرب العصابات الصهيونية دفعت بريطانيا للطلب من الأمم المتحدة التدخل ، وإنهاء انتدابها . ذلك التدخل الذي أسفر عن قرار التقسيم الثاني ، رافعا حصة الدولة اليهودية من 22% في التقسيم الأول ، إلى 56 % في التقسيم الثاني . وكان الرفض العربي والفلسطيني للقرار ، والتلويح بالحرب ؛ الهدف الذي خططت واستعدت له القيادة الصهيونية ، وانتظرته بفارغ الصبر .
الحاج أمين ، والذي كان لاجئا سريا في القاهرة ، واستنادا لمبدأ مركزية القضية للنظام العربي ، سارع إلى إعلان الحرب ، والبدء في تشكيل جيش الجهاد المقدس ، ومن الصفر ، في وقت زادت القوات الصهيونية المزودة بأحدث الأسلحة عن الخمسين ألفا ، بما في ذلك فرقة تمرست في ساحات الحرب العالمية الثانية . وتمثلت محصلة هذه الحرب الفلسطينية الصهيونية ، ما بين 29 / 11 / 47 و15 / 5 / 48 ، في نجاح القيادة الصهيونية لتطبيق مخططها للتطهير العرقي ، في كامل المنطقة المخصصة للدولة اليهودية ، حسب قرار التقسيم . لم تهتم قيادة الحاج أمين لهذه الخسارات الفادحة . كانت واثقة ومطمئنة لقدرة العرب على استرجاعها ، وإعادة بناء ما دمر . ولم يثر انتباهها في حينه ، ولا في الفترات اللاحقة ، واقع أن الجيوش العربية التي دخلت فلسطين في 15 / 5 ، وقفت على حدود التقسيم ، وبمن فيهم متطوعو جيش الإنقاذ ، جيش الجامعة العربية ، والتزمت إستراتيجية الدفاع . وتتالت بعدها فصول المؤامرة العربية ، من تسليم الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية ، وإلحاق الباقي بالأردن ، والإطاحة بحلم الاستقلال وتقرير المصير . ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد . فقد استكمل في اتفاقيات رودس للهدنة ، والتي وظفت الجيوش العربية حارسة لحدود دولة إسرائيل الناشئة ، وضامنة لأمنها واستقرارها من جهة ، وتبديد حلم العودة في مؤتمر لوزان الخاص بتطبيق القرار 194 الداعي لعودة اللاجئين ، من جهة أخرى .
ومن هذا المكان ، من حيث انتهى الحاج أمين ، بدأ عرفات وباقي الفصائل مشوار الثورة الحديثة . ورغم أن مياها كثيرة مرت من تحت الجسر ، لم تر القيادة الفلسطينية الثورية ، مبررا لإعادة النظر في هذه الإستراتيجية . كيف ؟ ........يتبع في الحلقة القادمة .















الإستراتيجية الفلسطينية .... وضرورة التغيير
1/2
النشأة والأصول
لم يتوقف الجدل حول شرعية الدعوة لعقد جلسة المجلس الوطني ، وشرعية القرارات المحتملة ، إلا ليفسح المجال لجدل آخر حول الحراك الشبابي الحالي . في الحالتين ، كما هي العادة ، تركز الجدل الفلسطيني حول المظاهر العامة – القشور - ، متجنبا الاقتراب من الجوهر والمضمون .
مشكلة النضال الوطني الفلسطيني ، الذي لم يهدأ ، وتناوبت عليه أجيال بعد أجيال ، منذ نشأة القضية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ، رغم تعدد صنوف البطولات ، وعظم التضحيات ، وتنوع المبادرات ، أنه ، وفي الحساب الختامي ، لم يسفر إلا عن الخيبات والنكسات . لماذا ؟ سؤال لم يطرح على مدى القرن وثلث القرن من عمر هذا النضال ، خوفا ربما من اكتشاف أن العلة تكمن في إستراتيجية النضال ، وأنها ، الإستراتيجية ، استحقت ، بل واستوجبت المراجعة فالتغيير ، ومنذ زمن طويل .
كتبت في : " دخول إلى حقل المحرمات " ، الصادر في 2010 ، والمتوفر على مكتبة الحوار المتمدن ، أن الخطيئة الأولى والأساس ، للثورة الفلسطينية المعاصرة ، أن عرفات بدأ من حيث انتهى الحاج أمين الحسيني ، ودون مراجعة ، أو محاولة تقييم للمنهج ، للسياسات والممارسات ، فتبين الأخطاء التي أدت لسلسلة الكوارث التي نزلت بالشعب الفلسطيني ، وتاجها النكبة الكبرى . وقلت أن ذلك عنى إصرارا على تكرار ذات الأخطاء ، فتهيئة الأذهان لاستقبال كوارث أشد هولا ، وهو ما جرى في الواقع .

وكنت قبل ذلك ، وفي كتاب " إطلالة على القضية الفلسطينية " الجزء الأول ، والمتوفر أيضا على مكتبة الحوار ، قد توقفت عند الإرث الاجتماعي ، الفكري ، الثقافي والتاريخي لشعبنا الفلسطيني ، وانعكاساته على وعي القيادة الناشئة لمتطلبات المواجهة مع الحركة الصهيونية . فالوطن الفلسطيني ، ومنذ ما قبل إمبراطورية الإسكندر المقدوني ، وحتى سقوط الخلافة العثمانية ، ظل جزءا من إمبراطورية كبرى ، تحمل على عاتقها عبء ومسؤولية الدفاع عنه ، وعن وحدة ترابه ، وتطور شعبه . ونتيجة لذلك ، لم يحدث في كل تاريخ الشعب الفلسطيني ، أن راوده مجرد الشعور ، بأن مسؤولية صد خطر يستهدف فلسطين وحدها ، أو مع غيرها تقع على عاتقه .
حال هذا الوضع ، وعلى مر هذا التاريخ الطويل ، بين الشعب الفلسطيني وبين إفراز وتطور قيادات سياسية وطنية ، يسكنها أي هم من الهموم الوطنية ، الاجتماعية والثقافية ، والتي سكنت قيادات الشعوب الأخرى . قد يقال ؛ تلك لم تكن حالة فريدة ، خصوصا في منطقتنا ، وهو صحيح ، لكن المؤامرة الصهيونية أعطتها تلك الفرادة . وزاد الطين بلة أن حكومة الباب العالي في اسطنبول ، ورغم انكشاف أطماع الحركة الصهيونية ، وانتقالها إلى التطبيق ، مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، واصلت حرمان الشعب الفلسطيني ، ولأكثر من ثلث قرن ، من تخليق وتطوير مثل هذه القيادة .
لقد فاجأ سقوط الخلافة ، وعد بلفور ، الاحتلال فالانتداب البريطاني ، تمدد الاستيطان اليهودي في العهد العثماني – أكثر من خمسين مستوطنة ، وأربع مدن ؛ ريشيون ليتسيون ، بتاح تكفا ، رحوبوت وتل أبيب -، فاجأ الشعب الفلسطيني الذي خرج من الخلافة بلا قيادة ، وفوق ذلك غارق في لجج الفقر ، الجهل ، الأمية والمرض . وبسبب شغور مواقع القيادة من أي شاغل ما ، كان بديهيا أن يقفز إليها وعليها ، المتنفذون اجتماعيا وماليا ؛ إقطاعيون ، رجال دين ، ممثلو عائلات ، تجار ، رؤساء وأعضاء بلديات ...الخ ، ودون أي امتلاك لمؤهلات القيادة السياسية الوطنية . وكان أن انعكس ذلك على تقدير تلك القيادة الناشئة خصوصا ، والجماهير الفلسطينية عموما ، لخطورة وعد بلفور من جهة ، ولأطماع وقدرات وإمكانيات الحركة الصهيونية وقيادتها ، ولدور دولة الانتداب البريطاني في تطبيق الوعد ، من جهة أخرى .
لكن الحقيقة المرة ، والتي دأبنا على تجاهلها ، أنه ومنذ دخول الجيش البريطاني ، وانتهاء الوجود العثماني ، وحتى تشكيل أول هيئة قيادية ، أواسط الثلاثينات ، ظل الشعب الفلسطيني بلا قيادة ، فعلية أو حتى شكلية ، اللهم إلا إذا اعتبرنا تنافس ممثلي العائلات ، الحاج أمين الحسيني وراغب النشاشيبي ، على الحظوة لدى المندوب السامي البريطاني ، هو هذه القيادة .
وقفة :
وما لم ولا نتوقف عنده ، أنه ، وفي هذه الفترة التي طالت لقرابة العقدين – 18 سنة من 1918 إلى 1936 -، تحددت معالم ذلك المستقبل غير البهي لفلسطين ، ومن ضمنه معالم إستراتيجية النضال الوطني الفلسطيني ، سارية المفعول حتى يومنا هذا .
كيف ؟
الجواب يتطلب وقفة مع الماضي . ذلك أننا في أبحاثنا وكتاباتنا ، واصلنا تجاهل حقيقة أن الإرث التاريخي ، الفكري والثقافي ، والممتد لأكثر من ثلاثة آلاف سنة ، وفي مركزه شبه انعدام المسؤولية الوطنية ، عن صد العدوان الخارجي ، والحفاظ على وحدة الوطن ، أن هذا الإرث تحول إلى نوع من الموروث الجيني عندنا كفلسطينيين ، وعند أشقاء – سوريين ، أردنيين ، لبنانيين وعراقيين - عاشوا ذات ظروفنا . كما تجاهلنا حقيقة أننا لم نحظ بقيادة وطنية سياسية ، احتاجها شعبنا وهو يواجه قوات الدرك العثماني ، تطرده من أرضه ، وتسلمها لليهود – قرى الخضيرة وملبس العام 1882 ، وحيث بنيت عليها مدن بتاح تكفا وهديرا ، وفيما بعد أرض المدورة في بيسان والتي كانت ملكا لزوجة السلطان عبد الحميد نفسه - . قيادة احتاجها الشعب حين حل البوليس الإنجليزي محل الدرك العثماني ، في طرد الفلاحين من أرضهم وهدم قراهم – وادي الحوارث ومرج ابن عامر كمثال - . قيادة احتاجها ومصادماته مع المستوطنين وقوات الانتداب تتوالى مرة بعد أخرى ، ولا تهدأ إلا لتعود إلى الانفجار من جديد .
لكننا اعتدنا النظر لظهور دور لممثلي العائلات - الحسيني والنشاشيبي بالأساس – في العلاقة مع المندوب السامي البريطاني ، على أنه تجسيد لهذه القيادة . كما اعتدنا تجاوز معاني ما انطوى عليه سلوكهم مع حكومة الانتداب ، والمتمثل في التقرب من المندوب السامي الأول ، هيربرت صمويل ، المكلف بوضع أسس وقواعد تطبيق وعد بلفور ، ثم مع من خلفوه في التنفيذ .

ولو أننا أمعنا النظر قليلا ، لرأينا أن هؤلاء الممثلين للعائلات ؛ الحسيني ، النشاشيبي ، الشقيري ، أبو ماضي ، عبد الهادي ....الخ ، لم يروا في الانتداب البريطاني ، بعد خيبة الأمل التي خلفها فشل الثورة العربية الكبرى ، غير صورة لحلول الدولة المركزية الجديدة – بريطانيا - محل الدولة المركزية القديمة – الخلافة العثمانية ومن سبقها - . وهكذا عاشوا تلك الفترة الفاصلة في تاريخ القضية – أل 18 سنة - ، على وهم دفع إدارة الانتداب لحمل عبء مسؤولية الدفاع عن الوطن ، والحفاظ على وحدة ترابه من جهة ، ودفع مسيرة تطوره من جهة أخرى . ومن هنا جاءت تلك المراهنة ، والمقامرة القاتلة ، على ذلك التوصيف بعدالة هذه الإمبراطورية الاستعمارية ، ومناصرتها لحقوق الشعوب المستضعفة . مراهنة برزت في صورة اقتصار عمل القيادة العائلية ، كما كان الحال أيام الخلافة العثمانية ، على التظلم من ارتفاع وتائر الهجرة اليهودية ، والشكوى من تصاعد عنف عمليات طرد الفلاحين الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم ، فالمناشدة بتطبيق العدالة .
ولأن عمليات الطرد لم تمر بلا مقاومة ، ولأن الهبات ، ردود الفعل ، التي ظلت الجماهير البسيطة والفقيرة عمادها ، قد تتالت ، فقد كان طبيعيا أن تولد من رحمها ، وأن تتبلور إستراتيجية للنضال الوطني ، وفي هذه الفترة – أل 18 سنة – التي مارس فيها ممثلو العائلات دور القيادة . إستراتيجية نشأت وتبلورت عشوائيا ، في خضم ، ومن رحم ، الهبات الشعبية المتلاحقة ، وفي غياب أية منهجية ، تستند لقواعد معرفية وفكرية .
فكما أشرنا ، وحتى في عهد الخلافة العثمانية ، قاوم الفلاحون الفلسطينيون إجراءات هدم قراهم ، ترحيلهم ، وتسليم أراضيهم لليهود . وفي عهد الانتداب تصاعدت المقاومة ، وتتالت موجاتها واحدة بعد أخرى . ولم تعرف فلسطين فترة هدوء واحدة تقترب من الخمس سنوات . لقد حدث ذلك في غياب تام لقيادة واعية ، موجهة لهذه المقاومة . وبسبب ذلك اتسمت المواجهات بالمواقعية ، والمناطقية في أحسن الأحوال . وفي اختيار أساليب وآليات وأدوات المواجهة ، استند المقاومون إلى خبرتهم الخاصة ، المستمدة من تراث وخبرة صراعاتهم العائلية والحمائلية . ذلك التراث القائم على اعتبارات المكانة والكرامة ، والرافض لحسابات توازنات القوى ، وحيث شكلت مقولة :" الموت ولا المذلة " الانتحارية ، جوهر فلسفته الحاكمة . وليكون شعار ؛" موش مهم نخسر ، المهم أن لا نستسلم "، هو الشعار الحاكم في المواجهات . ولأن الصراعات الحمائلية عنيفة بطبيعتها ، واقتصرت أدواتها على ما تيسر لأطرافها من السلاح الأبيض ؛ الحجر ،العصا ، الشبرية – كان الشباب خصوصا والرجال عموما يتمنطقون بها - ، الخنجر ، السيف ، السكين ، فقد شكلت كلها أدوات الصراع مع الاستيطان ، ومع إدارة الانتداب .
ولأن الفزعة ، في التقاليد الشعبية ، ظلت آلية الحشد المعتمدة ، لمواجهة الخطر الخارجي المهدد للحامولة وللقرية . ورغم مخاصمتها لقواعد التنظيم ، وانحيازها للفوضى وضعف الاستمرارية ، فقد انتقلت لتشكل آلية الحشد في كل المواجهات . وحتى بعد هبة البراق التي استقطبت مشاركة وتأييدا شعبيا واسعا ، وإرهاصات الثورة المسلحة التي لحقتها – ثورة جبل المكبر وحركة الكف الأخضر - ، فقد تواصل الحفاظ على أدوات الصراع تلك من جهة ، وآلية الحشد هذه من جهة أخرى . والأهم من كل ذلك حدث ذلك بمعزل عن قيادة كان عليها أن تتولى مهام التخطيط ، الإدارة ، الحشد ، التعبئة ، التوعية والتنظيم ....الخ .
المبادئ:
وبعد ، يمكن تلخيص المبادئ التي قامت عليها هذه الإستراتيجية في التالي : 1- حتمية انتصار الحق وهزيمة الباطل . 2- مركزية القضية للأمتين العربية والإسلامية . 3- التفوق العددي – الكثرة تغلب الشجاعة - .
لم يكن غريبا ، ولا مستغربا ، أن لا يدرك جمهور غرق في عالم الغيبيات ، وفي عزلة تامة عن متغيرات العصر وتقلباته ، عدم صلاحية هكذا إستراتيجية ، قائمة على هكذا مبادئ ، لكسب صراع بكل هذا التعقيد مع الصهيونية . لكن الغريب ، والمستغرب في ذات الوقت ، أن ترتقي هذه المبادئ إلى مراتب القداسة ، عند الأجيال التالية ، وحتى يومنا هذا .
إن نظرة فاحصة ، مهما كانت عابرة ، على المبدأ الحاكم لفلسفة الصراع مع الصهيونية ، وعلى هذه الإستراتيجية ومبادئها ، تظهر ، وبوضوح شديد ، القناعة الفلسطينية التامة ، بتفوق العدو الصهيوني الكاسح ، وفي مختلف الميادين ، ومن ثم انعدام فرص صد خطره ، ناهيك عن هزيمته ، بالاعتماد على القدرات الذاتية وحدها . كما وتظهر ، وبوضوح لا لبس فيه ، أن القيادات الفلسطينية ، على ضعف مؤهلاتها ، وتدني درجات وعيها ، كانت تدرك أن ذلك التفوق يرجع إلى ذلك البون الحضاري الفاصل بين طرفي الصراع . والحقيقة المؤلمة أن تلك القيادات ، وهي ترى القيادة الصهيونية ، تعمل بكل جد ودأب ، على توسيع وتعميق ذلك البون ، فقد رمت ، هذه المسألة ، وراء ظهرها ، ونامت مطمئنة ، على هدهدة أحلام إستراتيجية تمت ولادتها على تلك الصورة العشوائية .
فعلى عكس قياداتنا التي واصلت العيش في الماضي ، كانت القيادة الصهيونية ابنة العصر . تتابع متغيراته وتعيشها . تقرأ تاريخ صراع العصر وتعي دروسه . وهي لذلك تدرك تماما أن الصراع المقدمة عليه ، رغم أنه صراع الحق الفلسطيني وباطلها ، تحسمه القوة القابضة على زمام العلم وتقنياته . وأن الاستناد لأمة بحجم الأمة العربية ، أو حتى الأمة الإسلامية ، يبطله ، وحتى يعكس اتجاهه ، تعاطف قوى دولية نافذة ، ورأي عام متقدم ، يمكن الوصول إليه عبر استخدام متقن للإمكانيات والقدرات المتنوعة ، والتي يملكها يهود العالم .
وفي موضوع التفوق العددي الفلسطيني ، لم تقف جهود القيادة الصهيونية عند حدود الزيادة السريعة لأعداد المهاجرين الجدد ، ورفع النسبة لعدد السكان فقط . ذلك أنها أولت اهتماما بالغا للنوع ، العنصر الحاسم في كسب الصراعات ، كما دللت عليه تجربة قرنين كاملين من تاريخ الاستعمار على مستوى العالم أجمع . ففي حين كان الإنسان ، وجودة الخدمات المقدمة له ، وعلى تنوعها ، محط اهتمام وعناية القيادة الصهيونية ، ظل في المقابل موضع إهمال القيادة الفلسطينية ، آنذاك وحتى يومنا هذا . كيف ؟
مفارقات :
حتى في العهد العثماني ، وحين كان المستوطنون ما زالوا أقلية لم تصل إلى نسبة أل 10 % ، فقد استقلوا في إدارة مجتمعهم ، مشكلين ما يشبه دولة داخل الدولة ، وليتوسع هذا الاستقلال في عهد الانتداب . أداروا تعليمهم ، صحتهم ، بيئتهم ، صهروا شتات مجتمعهم ، شقوا طرقهم ، كهربوا مستعمراتهم ، أقاموا بنيتهم التحتية ......الخ . ومع أن ذلك كله كان يجري تحت سمع وبصر الفلسطينيين وقيادتهم ، وأن القيادة الصهيونية تبني مشروعا يستهدف التحول لدولة تحتل مركزا متقدما بين دول العالم ، فإنه لم يحفزهم على تبني مشروع يسرع الخروج من حالة التخلف الكارثية ، والموروثة من الخلافة العثمانية .
في التعليم مثلا اكتفت القيادة الفلسطينية بالثقة في جهد الانتداب ، بنقل التعليم من نظام الكُتَّاب إلى النظام المدرسي . وهي لذلك لم تعر جودة التعليم ، وهو مضمون البناء للمستقبل ، أي اهتمام . وأغلب الظن أنها لم تدرك أهميته ، رغم قوة مثل التجربة الصهيونية الماثلة . وهكذا وفي العام 47 ، بداية النكبة ، كانت لدينا بضع مدارس ثانوية ، ومدرسة فوق ثانوية واحدة ، هي الكلية العربية . هشاشة هذا الوضع كشفته حقيقة أن عدد المتقدمين لامتحان الثانوية العامة ، بلغ 219 طالبا فقط وفي كل فلسطين ، بينهم عدد من الطلبة اليهود .
على الجانب المقابل ،وضعت القيادة الصهيونية حجر الأساس لجامعة التخنيون حيفا العام 1912 ، أي في العهد العثماني ، وللجامعة العبرية العام 1918 ، وبدأ معهد وايزمان – روحوبوت – العمل العام 1934 . وفي العام 47 بلغ عدد طلاب الجامعة العبرية 2500 طالب وطالبة . وجدير بالذكر ، مرة أخرى ، أن جودة التعليم ، والبحث العلمي تصدرت أولويات برامج القيادة الصهيونية آنذاك .
وفي الصحة ، وحين كان الإنسان وصحته ، يحتل صدارة اهتمام القيادة الصهيونية ، وحين كان مستشفى هداسا مثلا يجمع بين خيرة المتخصصين وفي كل الفروع ، بقيت فلسطين العربية بلا مستشفيات تقريبا . مرة أخرى عهدت القيادة الفلسطينية لإدارة الانتداب معالجة هذه التركة الثقيلة . صحيح أن الانتداب أنشأ عيادات ومراكز صحية مختلفة ، لكن محافظة القدس ، والتي ضمت ألوية القدس ، رام الله ، أريحا وبيت لحم كمثال ، ظلت بلا مستشفى واحد ، وحتى بداية العهد الأردني .
والمثالان السابقان ينطبقان على باقي المجالات . الريف الفلسطيني مثلا ظل مقطوعا عن المدينة ، حتى ربطه الانتداب بطرق ترابية ضيقة ووعرة ، خدمت أغراض تحركاته بالأساس . وسكانه واصلوا الشرب من قنوات الينابيع ، إلى أن سقف الانتداب القنوات وبنى الحواويز – الخزانات- البديلة ، ولم يعرف الريف الفلسطيني شيئا اسمه الصرف الصحي ، وآخر اسمه البنية التحتية للاقتصاد . فقد بقي بلا كهرباء وشبكات مياه واتصالات حتى ثمانينات القرن الماضي وما بعدها .
وظل الحال الاجتماعي هو الأخطر . فالمجتمع الفلسطيني لم يعرف شيئا اسمه التنظيم حتى مطلع الثلاثينات ، باستثناء مجالس بلدية في بعض المدن . وظلت الحامولة هي نواته . ولها - الحامولة والقبيلة والعشيرة - كان ولاء الفرد أولا وثانيا وثالثا وعاشرا ، وفي مرتبة متأخرة يأتي الولاء للوطن . وكان مفهوم الوطن في الثقافة الدينية السائدة بدعة ، والولاء له كفر . كما وتفوقت عوامل الخلاف على عوامل الائتلاف . لقد كان مجتمعا مفككا وأبعد ما يكون عن الوحدة .
وعلى العكس سار مجتمع المستعمرات . فالتنظيم في هيئات ، مجالس مستعمرات وبلديات ، جمعيات ، نقابات ، نوادي ، تنظيمات سياسية وعسكرية ...الخ ، صهر هذا الشتات غير المتجانس في كتلة واحدة متماسكة ، وحتى شديدة الصلابة ، وخلق منه مجتمعا حديثا بكل معنى الكلمة .
هيئة قيادية :
كان تواصل وتطور المواجهات ، ونشوء الأحزاب السياسية ، مطلع الثلاثينات ، قد أنضج الظروف لنشوء هيئة قيادية عليا ، رسا اسمها على الهيئة العربية العليا ، ورئاستها للحاج أمين الحسيني .
ولما كان من غير المقدر لهذه القيادة ، بسبب ظروف نشأتها ، ومؤهلات أعضائها ، أن تعيد النظر في إستراتجية النضال التي نشأت وترسخت في غيابها ، فقد فاجأها الإضراب الكبير والشامل عام 36 . كانت إدارة نضال بهذا العمق والاتساع أكبر من قدراتها . وذهبت مناشداتها لإدارة الانتداب أدراج الرياح .
وكانت خيبة الأمل ، من فشل الثورة العربية الكبرى ، قد تراجعت ، إثر ظهور عدد من الممالك العربية ، بشبه استقلال تحت الحماية البريطانية . ولأن منظمي الإضراب الكبير لم يستجيبوا لنداءات قيادتهم ، فقد عهدت أمرهم للقيادة العربية الناشئة . وبالفعل توقف الإضراب نتيجة الوساطة العربية ، وركونها لحسن نوايا بريطانيا الصديقة . وجاءت النتيجة بقدوم لجنة بيل وصدور قرار التقسيم الأول ، والذي شكل صدمة قاسية للجماهير الفلسطينية وبعض أعضاء قيادتها الناشئة .
الثورة :
أسقط قرار التقسيم آخر مراهنات الحاج أمين على العدالة البريطانية . وفر ، مع عدد من أعضاء القيادة ، إلى سوريا ولبنان ، مستفيدا من حالة الخصام بين الاستعمارين الفرنسي والبريطاني آنذاك . ومن منفاهم ، " قادوا ! " ثورة 37 – 39 التي اندلعت فور إعلان قرار التقسيم .
نحن في فلسطين لم نتوقف ، لا مليا ولا سريعا ، عند هذه المحطة الأهم على مدار النضال الوطني الفلسطيني . نعم ؛ هي كانت واحدة من أعظم ثورات الشعوب على الاستعمار البريطاني . لكنها في ذات الوقت قدمت لنا اختبارا بالغ الأهمية لإستراتيجية النضال الوطني . فلقد أثبتت ، وبالملموس أن بند مركزية القضية للأمة ، معبرا عنها بالأنظمة الحاكمة ، أو النظام العربي ، قبض ريح . وهي في أحسن الأحوال وسيلة متاجرة ، مقايضة وتثبيت لهذه الأنظمة . وجاء اختبار حرب العام 48 أشد سطوعا . كيف ؟
أولا كانت ثورة 37 – 39 ثورة فلاحين شكلا ومضمونا ، جرت المدينة لمساندتها . وهي ، تبعا لأوضاع الريف ؛ حيث سيادة الجهل ، ضعف الوعي ، الإيمان بالقدر ، انتشار وتنوع الخلافات ، تضارب المصالح ، كانت عصية على الانضباط ، التخطيط ، التنظيم والتوجيه . وزاد الطين بلة وجود القيادة في الخارج ، والصعوبة البالغة في وسائل الاتصال ، الأمر الذي سهل على الانتداب تفعيل سياسة فرق تسد ، وضربها من الداخل ، وحيث حملت في سنتها الثانية الكثير من المآسي لشعبها. وثانيا أن هدف الثورة انقلب من مواجهة الصهيونية والاستيطان ، إلى مواجهة دولة الانتداب ، بصفتها راعية ومؤسسة وحامية الاستيطان . والثالثة والأهم ، أن القيادة الفلسطينية لم تسترجع من القيادة العربية تلك الصلاحيات التي تنازلت عنها طوعا ، لحل معضلة الإضراب الكبير ، ولتكون الأخيرة هي القيادة الفعلية .
بانت هذه المسألة واضحة جلية ، مع ظهور نذر الحرب العالمية الثانية ، ومن خلال مناشدات هذه القيادة العربية فصائل الثورة وقفها ، مساعدة للصديقة بريطانيا في جهدها الحربي ضد دول المحور ، ومشفوعة بوعود إنصاف الصديقة بريطانيا لشعب فلسطين ، عقب تحقيق النصر على النازية .
وجاءت نتائج الثورة التي كانت موضع إعجاب عالم المستعمرات بأسره ، مخيبة لآمال الشعب الفلسطيني من جهة ، وكسبا صافيا للحركة الصهيونية ، والنظم العربية من جهة أخرى . الحركة الصهيونية التي أراحتها الثورة من عبء المواجهة حققت زيادة كبيرة في تدفق المهاجرين ، وإقامة عشرات المستوطنات الجديدة أولا ، واستغلال حالة الحرب لتحصين المستعمرات وتحويل عدد كبير منها لقلاع عسكرية ثانيا ، وإنشاء المنظمات العسكرية ورفع وتائر التجنيد ، التدريب والتسليح ثالثا ، وتطوير إستراتيجية الحركة الصهيونية بإضافة ضرورة الحرب مع الشعب الفلسطيني ، لتحقيق حلم الدولة اليهودية ، بالمساحة المطلوبة رابعا .
على الجانب الآخر ، وعلى عكس نظيرتها السورية التي انتزعت اعتراف فرنسا بحق سوريا في الاستقلال ، وقيام حكومة محلية ، فشلت الثورة في تحقيق أي مكسب ، وخرج الشعب منهكا ، ومجردا حتى من الأسلحة البيضاء . واضطرت القيادة لمغادرة لبنان إلى بغداد . وبسبب انحيازها لثورة رشيد عالي الكيلاني غادرت إلى طهران . واستقر المقام بهرب الحاج أمين إلى ألمانيا وتحالفه معها .
لهذه الأسباب وغيرها واصلت القيادة مسلسل التنازلات عن صلاحياتها للقيادة العربية . وفي فترة الأربعينات كلها ، وخصوصا بعد نشوء الجامعة العربية ، باتت القيادة الفلسطينية شكلا مجردا من أية صلاحيات . ورغم شن اليمين الصهيوني حرب عصابات ضد إدارة الانتداب ، بحجة عرقلتها تدفق موجات المهاجرين الهاربين من جحيم النازية ، واصل الشعب وقيادته حالة السبات ، وكأن ما يجري كان يحدث على كوكب آخر . أما القيادة ، ممثلة بجامعة الدول العربية ، فقد ردت بعقد سلسلة من مؤتمرات القمة ، كان استبعاد القيادة الفلسطينية عنها ، وتكريس نقل صلاحياتها ، هي كل نتائجها .
حرب 48 والنكبة :
وكان أن حرب العصابات الصهيونية دفعت بريطانيا للطلب من الأمم المتحدة التدخل ، وإنهاء انتدابها . ذلك التدخل الذي أسفر عن قرار التقسيم الثاني ، رافعا حصة الدولة اليهودية من 22% في التقسيم الأول ، إلى 56 % في التقسيم الثاني . وكان الرفض العربي والفلسطيني للقرار ، والتلويح بالحرب ؛ الهدف الذي خططت واستعدت له القيادة الصهيونية ، وانتظرته بفارغ الصبر .
الحاج أمين ، والذي كان لاجئا سريا في القاهرة ، واستنادا لمبدأ مركزية القضية للنظام العربي ، سارع إلى إعلان الحرب ، والبدء في تشكيل جيش الجهاد المقدس ، ومن الصفر ، في وقت زادت القوات الصهيونية المزودة بأحدث الأسلحة عن الخمسين ألفا ، بما في ذلك فرقة تمرست في ساحات الحرب العالمية الثانية . وتمثلت محصلة هذه الحرب الفلسطينية الصهيونية ، ما بين 29 / 11 / 47 و15 / 5 / 48 ، في نجاح القيادة الصهيونية لتطبيق مخططها للتطهير العرقي ، في كامل المنطقة المخصصة للدولة اليهودية ، حسب قرار التقسيم . لم تهتم قيادة الحاج أمين لهذه الخسارات الفادحة . كانت واثقة ومطمئنة لقدرة العرب على استرجاعها ، وإعادة بناء ما دمر . ولم يثر انتباهها في حينه ، ولا في الفترات اللاحقة ، واقع أن الجيوش العربية التي دخلت فلسطين في 15 / 5 ، وقفت على حدود التقسيم ، وبمن فيهم متطوعو جيش الإنقاذ ، جيش الجامعة العربية ، والتزمت إستراتيجية الدفاع . وتتالت بعدها فصول المؤامرة العربية ، من تسليم الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية ، وإلحاق الباقي بالأردن ، والإطاحة بحلم الاستقلال وتقرير المصير . ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد . فقد استكمل في اتفاقيات رودس للهدنة ، والتي وظفت الجيوش العربية حارسة لحدود دولة إسرائيل الناشئة ، وضامنة لأمنها واستقرارها من جهة ، وتبديد حلم العودة في مؤتمر لوزان الخاص بتطبيق القرار 194 الداعي لعودة اللاجئين ، من جهة أخرى .
ومن هذا المكان ، من حيث انتهى الحاج أمين ، بدأ عرفات وباقي الفصائل مشوار الثورة الحديثة . ورغم أن مياها كثيرة مرت من تحت الجسر ، لم تر القيادة الفلسطينية الثورية ، مبررا لإعادة النظر في هذه الإستراتيجية . كيف ؟ ........يتبع في الحلقة القادمة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دمار شامل.. سندويشة دجاج سوبريم بطريقة الشيف عمر ????


.. ما أبرز مضامين المقترح الإسرائيلي لوقف إطلاق النار في غزة وك




.. استدار ولم يرد على السؤال.. شاهد رد فعل بايدن عندما سُئل عن


.. اختتام مناورات -الأسد الإفريقي- بالمغرب بمشاركة صواريخ -هيما




.. بايدن: الهدنة في غزة ستمهد لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسر