الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يكون الدم ثمن الحرية

طوني سماحة

2015 / 11 / 8
الارهاب, الحرب والسلام


عندما اعتنق سمير (اسمه غير الحقيقي) المسيحية لم يكن يدري ما الذي كان ينتظره في الافق. كان سمير ابن الشرق الاوسط شابا مثقفا وابن عائلة ثرية. كان يمتلك كل مقومات النجاح. فهو يتكلم لغات ثلاثة ويعمل في التجارة. كان متزوجا وكان عمله مزدهرا، كما انه كان منخرطا في مجتمعه الكندي الجديد ومرتبطا بعلاقات اجتماعية وسياسية. من خلال قراءاته الكثيرة وعلاقاته الاجتماعية، قرأ سمير الانجيل للمرة الاولى في حياته. اعجب بشخص المسيح. أعاد قراءة الانجيل وابتدأ يتابع برامج تلفزيونية مسيحية. لم يرق الامر لزوجة سمير فاتصلت بوالدته كيما تعلمها بالامر. يقول لي سمير "كان كل من والدتي وزوجتي على خلاف دائم، لكن اقترابي من المسيحية ساهم في ردم الهوة والتقارب بين هاتين المرأتين القويتين". لم تثن تهديدات الوالدة لابنها بالقتل وبحرمه من ثروة العائلة الكبيرة، وتهديدات الزوجة في الانفصال عن اكمال سمير لمشواره الروحي. وكان ما كان. هجرت الزوجة زوجها وأحلت الوالدة قتل ابنها. عاش سمير فترة من الزمن وحيدا في غربته الكندية دون ان يدري ان ثمة من يراقبه يوميا. ذات يوم، وفيما كان سمير يسير في الطابق الثاني من احد الابنية، اقترب منه شابان ورمياه من علو خمسة امتار تقريبا وهربا. كانت تلك اللحظة نقطة التحول في حياة سمير. عندما فتح عينيه في المستشفى بعد الحادث قيل له انه نجا من الموت بأعجوبة لكنه قد لا يستطيع السير مجددا. أمضى سمير سنوات عديدة لا يستطيع التنقل الا من خلال كرسيه النقال. خسر عمله التجاري وانتقل للحياة في مأوى للمعاقين في مكان بعيدا عن اعين المراقبين.

مضى على هذه الحادثة ما يزيد عن عشرة اعوام. تحسنت حالة سمير نسبيا فهو يستطيع السير على قدميه لمسافة أمتار قليلة. يعيش في غرفة هي اشبه ما تكون بالسجن إذ ان مساحتها لا تزيد عن ثلاثة امتار مربعة. يعتمد سمير على نظام المعونة الاجتماعية كيما يتمكن من الحياة بكرامة. يعاني من السكر وامراض اخرى نتيجة قلة الحركة البدنية والازمة التي تعرض لها. أسأل سمير إن كان قد ندم على اتخاذ قرار اعتناق الفكر المسيحي، يجيبني "لا، أفضّل ان اكون معاقا صادقا مع نفسي ومع محيطي وربي على أن اكون صحيحا معافى وكاذبا مع نفسي، محيطي وربي". آخر مرة زرت فيها سمير تركته والابتسامة على شفتيه. فهو يسعد لزياراتي القليلة، إذ ان الناس الذين يراهم بشكل منتظم قد لا يتعدى عددهم اصابع اليد الخمسة. تركت سمير وانا اسأل نفسي "لماذا؟ لماذا لا يستطيع الانسان في وطني ان يكون مختلفا؟ لماذا لا يستطيع الانسان ان يفكّر خارج حدود القيم المعهودة والتقاليد والدين؟ لماذا يكون الرد على التفكير الجريء بالتكفير والسيف؟ لماذا كتب على المواطن المشرقي ان يبقى اسير سجن الدين والعادات التقاليد؟ لماذا يكون الدم ثمنا للحرية؟ لماذا نصر على بناء مجتمع تكون الشريحة الكبرى من افراده مغيبين فكريا وثقافيا ودينيا وتكون الشريحة الصغرى فيه قتلى او معوقين جسديا نتيجة تبنيهم فكرا مغايرا؟ لماذا تتحول امّ، والتي هي رمز الحب والعطاء والتضحية، لجزار لأغلى الناس لديها؟ فكل الامهات، أكنّ نساء أم طيورا ام حيوانات، يتحركن بغريزة الدفاع عن ابنائهن وتعريض انفسهن للخطر من أجلهم. فكيف لأمّ أن تكون القاضي الذي يصدر الحكم والجزار الذي ينفذ الحكم طوعا بأغلى ما لديها في الحياة؟ كيف لامرأة ربطها عهد الحب برجل شبابها ان تتركه، ليس لكونه عنيفا او منحلا او خائنا او فاسدا إنما كونه اختار ان يفكر بطريقة خارجة عن المألوف؟ لماذا نكذب على انفسنا ونحمّل داعش واخواتها مسؤولية ما يحصل في بلادنا فيما داعش تتنفس في أحشائنا وتتحكم بعقولنا وتحرك أيدينا وترى بعيوننا؟

أنا أعرف أن سمير يدفع ثمن حرية اختار ان يحصل عليها، لكنني اسأل نفسي من المستفيد من حالة سمير وماذا ربح المجتمع والدين والثقافة من الحكم على سمير بالموت؟ عندما حكم الدين (او رجال الدين) على سمير وكل من يشبه سمير بالموت، إنما كان اولا وآخرا يحكم على ذاته. كان الدين من خلال هذه الفتوى يعلن عن عجزه عن احتواء سمير فكريا وانسانيا فكان القرار بالتخلص منه. كان الدين من خلال هذه الفتوى يعلن افلاسه إذ ما قيمة الدين عندما تغيب عنه الرحمة؟ عندما حكم المجتمع على سمير وكل من يشبه سمير بالموت، كان يسدد السهم للإنسانية التي تربط الانسان بأخيه الانسان قبل ان تربطه به روابط دينية او ثقافية او اجتماعية. عندما حكمت الام على ابنها بالموت، كانت تحكم على الامومة التي في داخلها والتي قد تكون في نظري اكثر ما يشرف المرأة، وعلى حسها الانساني الذي تميزه الانوثة والجمال والرقة والعاطفة والمحبة. عندما حكمت الزوجة على زوجها (والعكس ايضا صحيح) بالموت تكون قد حكمت على نفسها أولا. فالزوج والزوجة كيان واحد. وكل ما يصيب هذا الكيان يصيب الاثنين معا، إذ لا يمكن لعين ان تتألم دون ان تتألم رفيقتها ولا يمكن لجانب من القلب ان يخفق ما لم يخفق معه الجانب الآخر. أما بالنسبة لسمير فهو الخاسر الاكبر اجتماعيا وعائليا وجسديا لكن، واتمنى ألا اكون مخطئا، فهو الرابح الاكبر انسانيا وفكريا وروحيا. سمير هو الوحيد الذي لن يذهب الى القبر بيدين ملطختين بالدماء او بفكر تكفيري حاقد.

ليس الهدف من هذا المقال ان اهاجم دينا على حساب آخر. لكنني أحلم بمجتمع تحكمه قيم التسامح والحرية والعدل والكرامة والانسانية والاخاء. أحلم بمجتمع يستطيع فيه المسيحي ان يكون مسيحيا والمسلم مسلما واليهودي يهوديا والبوذي بوذيا والملحد ملحدا دون ان تطال واحدا منهم سهام العداء والكراهية والقتل. أحلم بمجتمع لا تكون معاناة سمير قد ذهبت فيه سدى، بل بالعكس تكون قد أرست لمجتمع متسامح مع ذاته دون ان يخشى الاختلاف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نارين بيوتي تتحدى جلال عمارة والجاي?زة 30 ا?لف درهم! ??????


.. غزة : هل تبددت آمال الهدنة ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الحرس الثوري الإيراني يكشف لـCNN عن الأسلحة التي استخدمت لضر


.. بايدن و كابوس الاحتجاجات الطلابية.. | #شيفرة




.. الحرب النووية.. سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة! | #منصات