الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ققنس- غيابات القلب - للقاص المغربي أحمد بوزفور

حسين سليمان- هيوستن

2005 / 10 / 30
الادب والفن


يتم استشراف الواقع من خلال الحلم. والحلم في المجموعة القصصية (ققنس ) هو حلم لا كما يراه النائم في نومه، ولا كما يراه أيضا الحالم في يقظته. حلمه هو حلم الروح التي لا تقول الليل أو النهار. إنه حلم يذكرنا بالأساطير، بأساطير لا عهد لنا بها. هل صحيح أن الكاتب حلم قصته الأولى أو أحلامه في مجموعته ققنس؟
يأخذ الحلم في قصصه سياقا مختلفا عن أحلام النفس وعن عالم الخفاء الذي يستيقظ بمبادرة من اللاوعي. لذا فالمادة التي تدعي الحلم في قصصه هي مادة غريبة جديدة. لعل فيها إنسان جديد يخرج عن المدار المألوف! إنسان يخلط في ماكنته الفضاء بمختلف عناصره كي يخرج ببضاعة باهرة. حلمه أو أحلامه كأنها مصنوعة في فرن تنصهر فيه حالات الوجود كي تتشكل في مدارها المطمئن، وحيث لا يفتأ القاص يشير به ويقارنه مع مدار عالمنا البائس.
أداته الحس الفلسفي الذي يقاد (بالوعي- الشبيه) الحاد، الماكن. والحس هنا يلعب لعبته الفنية، فمرة يستسلم لرغبة الوعي ومرة ينتفض فيبادر إلى القيادة.
في قصته الرابعة: غيابات القلب. يدخلنا الكاتب إلى ثلاثة غيابات ( الحليب- الحلم- النمر) أما في الغيابة الأولى: الحليب، فيحس الراوي بطعمه حين يستيقظ في الصباح. وهذا الإحساس كان قد تولد، ولم يتولد في الآن ذاته، من الحلم الذي رآه قبل الاستيقاظ ("أحسست بطعمه في فمي وأنا أستيقظ هذا الصباح. لم أتذكر الحلم، ولكن طعم الحليب كان في فمي") ولأنه أستيقظ بهذا الإحساس كان عليه أن يذهب برحلة استسقاء إلى ربوع الطفولة حيث ما كان يدفعه إلى ذكريات الحليب هو الطعم الذي تغلغل في نسغه ولا يدرك سببا لتغلغله. يحس بالحليب ("وشرشرته وهو يهبط من الإبريق الأبيض") ثم يتغلغل أبعد من ذلك نحو حليب المعزة فيتذكر تلك الأيام. ثم يقطع المسافة الكاملة حين يتذكر أطياف عالم الرضاعة. هذا التدرج لذكريات الحليب يخلق فضاء متماسكا واعيا مركزه الإحساس بالحليب مع إغفال عالم الحلم الذي دفع بذلك الإحساس إلى السطح. لكن الفقرة التالية في نفس مقطع الغيابة الأولى تحيلنا نحو انكسار وتشظي لفضاء ذكرى الحليب، ذلك لأن مادة أخرى غريبة قد جاءت وامتزجت بالطعم الأبيض ("وأنا الذي لم أذق الحليب منذ سن السابعة، ولكنه يعود (بعد هذا العمر الطويل) ممتزجا بطعم غريب: طعم كطعم التراب( الصلصال).") إذن تتكثف علامات الغيابة الأولى إلى حليب وصلصال! لا نعرف من أين جاء طعم الصلصال- أظن انه يدمج مادة الرضاعة مع مادة الخلق- أو ما هو مبرراته، يقتحم المبنى العام من دون منطق: لقد جاء متأخرا فالذاكرة بعد أن شحذتها رائحة الحليب ونكهته عادت فتذكرت إحساسا آخر هو طعم الصلصال. هل العمل هنا هو عمل ذاكرة وتذكر أم شجن يدفع الأحاسيس كي تعمل عملها الذكوري؟ والصلصال في فقرة تالية ينفتح عن معنى آخر وهو صلصال لوح الكتّاب، لكتابة المحفوظات عليه ("أسترد طعم الصلصال في فمي الآن، طعم مزدهر، مهرجان حواس. أرى صفرة الصلصال الباهتة، وأسمع سن قلم القصب وهو يخط عليها،") طعم حليب وطعم صلصال ولمس صلصال. لقد استيقظ من نومه مسجونا بين الحليب والصلصال، لا يعرف سببا له. ربما تأثير غير مباشر بالحلم الذي لا يذكره حتى هذه اللحظة أو ربما حالة مزاج لا يدري كيف تركبت. أحاسيس متداخلة تكشفها رويدا رويدا النصوص التي تقتبس شذرات من عالم منطو كي تفتحه مستخدمة الحلم الذي ليس كالحلم ومستخدمة الذكرى التي ليست كالذكرى بقدر ماهي شجن للذكرى.
لسبب أو آخر توقفت عند فقرة الرضاعة التي يكشف عنها الكاتب من أعماق يصعب الوصول إليها عينيا، ويصعب في الوقت نفسه نسيان الأحاسيس التي حفظتها، يقول ("في غموض كثيف حين أتصور أمي وهي تتزين وتبكي في نفس الوقت، أرفع عيني الطفلتين إليها فأراهـا تتكـحل أمام الـمـرآة المكـسورة، وأرى الـدمـع الأسـود ينـساب علـى خـديـها الجميلتين...وتلقمني ثديها الأبيض وهي تطل علي بوجهها الجميل الباكي فأغمض عيني وقد أنحفر فيهما إلى الأبد.") هذه الصورة النمطية موجودة في قاع الواعية، في كل واحد منا، حتى من لم يأخذ الرضاعة من صدر الأم. إنها الصورة تجمع الصور المجزأة الكثيرة في صورة واحدة كبيرة، صـورة حبيبة قهـرها زمـان لا يتصالح أبـدا مع أمـاني الحب. إنه الزمان الذي تذرف فيه دموع مطلية بالسواد، بينما في الجانب الآخر هناك ثدي الحليب أبيض ينقل الحب والحياة إلى كائن الأمل. فيغمض عينيه ليتقبل هدية ربانية، هدية أولى، وجه الأم الذي سيّولد، في كل منا، حاجة البحث عن وجه حبيبة يماثل الوجه المحفور فينا إلى الأبد.
لا احتفالية واضحة حقيقية بالزمان. فالزمان يقف في هذه النصوص على الهامش أو أنه يأتي عالة بل ومهمل أيضا. فهو بالمعنى الحسي غير موجود. وما تقوله الصور إنما تقول الحالة الشعرية مبنية في إطار القص. ليست الكلمة شاعرية بمقدار الصورة التي تنير بقدرتها الغزيرة ضوء الكلمة الشعرية. تنطبع الصور بكليتها بل تشدنا في غمار طوفان من الأحاسيس كي تغرقنا في لذة صوفية تذكرنا بالحالات.
يشتري الراوي الذي نسي الحلم الغريب نصف لتر حليب، ثم يسخنه ويصبه في الفنجان. ينفخ على الحليب كي يبرد ثم يتذوقه. وفي الرشفة الثانية يتذكر بشكل باهر الحلم. يتذكر الحلم بتذوق الحليب! لقد استيقظ مغمورا بإحساس طعم الحليب، بينما ينسى الحلم الغريب الذي أوعز للطعم كي يطفو على سطح الواعية. هذه الدورة الحياتية التي تغلق نفسها بين حالات الروح والمادة، حلول وتصوف يقرن تباين الروح بالمادة. وهي كما يلي: نسيان الحلم بالاستيقاظ- ثم إحساس باهر بطعم الحليب لا يدري من أين جاء- سرحان وتذكر في عالم الحليب الطفولي- تذوق مادي للحليب- تذكر باهر للحلم.
الغيابة الثانية، الحلم: إنها تمثيل الولادة لكن أية ولادة! ("رأيتني أولد، أخرج إلى الدنيا شيئا فشيئا... رأسي في الخارج أصبح، وسائر جسمي بعد في الداخل، وأنا أولد شيئا فشيئا، وأنا أتولد...أحس أن هذه الولادة لا نهاية لها، وأنني سأبقى هكذا إلى الأبد...وأني سوف أعيش أولد حتى أموت...أحس أني أموت، وأن هناك يدا كبيرة من فوق، من فوق وليس من تحت، لا تستقبلني بل ترسلني... يد يابسة باردة تضغط بأصابعها القاسية على كرتي الطينية وتفتتني... ولكن أين الحليبالصلصال؟ الغريب أن الحلم لا حليب فيه ولا تراب...فمن أين جاء هذا الطعم المركب إلى فمي وأنا استيقظ مرعوبا من الحلم هذا الصباح؟") بالفعل هذه الولادة التي لا تريد أن تنتهي، لا تريد الخروج إلى الحياة فهي مستمرة، أو أن هناك العائق ما يمنعها من النجاح والخروج إلى عالم الحياة. يد يابسة تضغط من فوق! يصف مشبها هذه اليد ("وكأن هذه اليد الكبيرة سمراء، وكأنها يد عظمية معروقة لا لحم فيها،") فهي التي تقف في طريقه نحو الحياة، لا تريد له ذلك، سمراء معروقة تمنع حياته من فوق كي تعود وتتلاشى.
تريد له اليد العودةُ والنكوص، وربما من هنا أثُير إحساس باطني بطعم الحليب . وهذا الإحساس يضع الراوي على مهد الحياة الذي من السهل فيه النكوص والتراجع. ليس الحليب فقط بل ممزوجا بطعم الصلصال الذي به كان الراوي في الكتّاب يطلي لوحه الخشبي لكتابة المحفوظات.
إن خيوط البناء تربط مكونات القصة ربطا شفيفا رفيعا، يصعب تتبع مسارها الذي يطبع خطواتها في طرق متغايرة تأخذ أكثر من تفسير واحتمال. فالعبارة التي تقولها الحكاية واسعة وتحتوي الرموز التي تتغير تبعا للموقف. وهنا لا يعرف إن كانت الولادة هي ولادة عن حق أم تحضير للموت! لا يعرف إن كانت رفضا داخليا للخروج أم إعاقة سريرية ومرض.
تستطيع القراءة أن تضع مشارف للغيابة الأولى والثانية، أن تتوقع ما يريده النصان لكن النص الثالث، الغيابة الثالثة- النمر، يحيل النصين السابقين فيفتح فيهما اكثر من نافذة، نافذة على عوالم متداخلة. غيبوبة تحمل الغيابتين الأولى والثانية على ظهر مياه مترجرجة، ضباب وسديم لا تحديد فيهما. إنها الغيابة الصورة التي تصعد إلى مافوق الشعر، إلى ماوراء الشعرانية. تصهر بهذا الصعود الزمان والمادة فتحولهما إلى أحاسيس حرة.
الغيابة الثالثة- النمر: هناك، ربما تفسيران لهذا النص، فإما أن يكون هو الموت والنهاية ("وحيدا، حرا، عاريا، يسير على حافة الآن...يسير النمر وحيدا كآدم، حرا كشعاع، عاريا كإمبراطور.") وإما أن يكون هو غياب نكوص- عدم ولادة أو ولادة ميتة! ("على الضفة الأخرى تتجمع قبائل القلب حول النار ترقص وتضرب الطبول، وتصلي: يا أطلس دم دم ..دم ... يا اللا يسكن واللايعيا دعنا نحيا دم دم... دم...")
لكن الغيابة الثالثة المقطوعة عن الحلم، ليست حلما بل هي فكرة هائمة نفترض بأنها اعترت الراوي. لذلك بعد تجلي الحلم بقوة يتساءل حين لا يجد الحليب والصلصال فيه من أين جاء طعم الحليب والصلصال، هما ليسا في الحلم؟ تجيء الغيابة الثالثة كأنها الجواب!
إنها إذن غيابة موت أو شعور بالموت الناكص. الشعور بالموت مرتبطا بعلاقة الولادة وباليد السمراء المعروقة. هناك التحام يذهب وراء تخوم الحلم والتخيل. التحام صوفي وحلول مع الطفل أول ولادته، كان الحلم قد دفعه إلى السطح. والحلول الموت الذي يريده الراوي هو الإدانة، إدانة حياة كاملة، حياة أرضية يدها كابحة. والراوي كما يبدو يريد الموت لكن قبائل قلبه تعزّم وترقص بسحر غريزة الحياة، تدعوه للحياة، رقص بدائي غرائزي لا يحكمها الإنسان لكنه يحكم اختياره للطريق، فهل يسمع غناءها ودعوتها للحياة أم يبقى حرا شعاعا يسير على حافة "الآن" السائلة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??