الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما هكذا تحكم تونس

خالد شوكات

2005 / 10 / 30
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


التقيت لأول مرة الاستاذ أحمد نجيب الشابي زعيم الحزب الديمقراطي التقدمي التونسي، على هامش مؤتمر سياسي عربي عقد في المنامة عاصمة البحرين سنة 2002. وقد قضيت معه حينها أربعة أو خمسة أيام، كانت فرصة ثمينة بالنسبة لي، للتعرف على واحد من أهم قادة الحياة السياسية في تونس المستقلة، وأحد رموز الجيل الثاني من رجال الفكر والسياسة التونسيين، أولئك الذين ولدوا على مشارف الاستقلال في الخمسينيات، وتصدوا وهم شباب يساري مراهق لوظيفة المعارضة ابتداء من أواخر الستينيات.
من الكلمات البليغة التي قالها لي الاستاذ الشابي في رحلة البحرين، و بقيت عالقة إلى الآن في ذهني "أن تونس مستعصية على التحليل السياسي". وقد أثبتت الأحداث والوقائع السياسية التونسية المتتالية على مر السنوات الماضية مدى مصداقية هذه الكلمات، فهي خلاصة تجربة الرجل مع نظام سياسي غريب لا تحركه مقاربات وآليات العمل السياسي المعروفة في كل دول العالم، ولا تنضبط فيه سير رجال الحكم وأنماط تفكيرهم مع ما هو ممارس في مختلف أرجاء الدنيا.
ولعل أوضح مثال على صدقية الكلمات المذكورة، اضطرار الاستاذ الشابي – وهو زعيم أحد الأحزاب السياسية المعترف بها قانونيا- إلى خوض إضراب عن الطعام منذ ما يزيد عن تسعة أيام إلى جانب ثلة من النشطاء السياسيين والحقوقيين المناضلين، بعد صبر دام ما يزيد عن خمسة عشرة عاما، وقناعة بأن الكل الوسائل السياسية قد استنفدت لإقناع النظام الحاكم بتغيير سيرته في الحكم دون نتيجة تذكر.
والاستاذ نجيب الشابي كما عرفته من خلال اللقاء والمتابعة الدؤوبة لما يكتب ويصرح ويمارس، لا يمكن تصنيفه باعتباره صقرا من صقور المعارضة، فقد كان حريصا أكثر ما يكون الحرص، منذ تغيير 7 نوفمبر 1987 على الأقل، على أن لا يقطع شعرة معاوية مع النظام الحاكم، وأن لا يتطرف في الرأي والموقف، وأن يصبر على ابتلاءات الإقصاء والتهميش التي دأبت السلطات على تحقيقها في تعاملها معه ومع حزبه، لكن مشكلة الرجل كانت في حرصه بالمقابل على مصداقيته السياسية، تماما كما أن مشكلة الحاكم التونسي أنه لا يرغب في معارضين من ذوي المصداقية، إنما "طراطير" و"كراكوزات".
ولطالما عجبت من نظام سياسي لا يمكن أن يستوعب معارضين سياسيين من طينة الأستاذ أحمد نجيب الشابي، فلقد لمست في الرجل حرصا على المصلحة الوطنية واستعدادا للحوار السياسي واعتدال في المواقف وفي طريقة تقييم الرجال، وفوق كل هذا نضج في النظر إلى القضايا المطروحة وواقعية في بناء العلاقات مع الأطراف الحزبية وتمسك بخطاب على قدر كبير من الاحترام حتى عند الحديث عن أشد الخصوم السياسيين، لم أجده عند كثير من السياسيين العرب ممن استوعبتهم أنظمتهم السياسية وبوأتهم مواقع قرار غاية في الحساسية.
وإنه لمن الحذلقات المضحكة التي احتج بها أحد أصوات السلطة، أن الاستاذ الشابي ورفاقه قد أخبروا سلفا السفارة الأمريكية في تونس بإضرابهم عن الطعام، وأنهم احتفوا بشدة بزيارة السكرتير السياسي مساعد السفير الأمريكي لهم في مقر الإضراب، وأن في هذا دليلا على الخيانة الوطنية، فإذا ما كان الأستاذ الشابي المعروف بميولاته العروبية منذ نعومة أظافره متهما بالعمالة الأمريكية، فماذا يمكن أن يقال عن وزير الخارجية التونسي، الذي أم واشنطن مرتين في ظرف شهر بأوامر عليا، وماذا عن إشادة الصحف ووسائل الإعلام الرسمية التونسية بما حققته الزيارتان من نتائج غير مسبوقة ستعزز أواصر الصداقة الأمريكية التونسية وتبرز مدى الرضا الأمريكي الرسمي عن آداء النظام التونسي، أم أن ما يحل للحكم لا يحل للمعارضة، إن صدقت رواية الاحتفاء هذه من الأصل.
لقد اتهم الاستاذ الشابي ورفاقه، الذين أجبرهم سلوك السلطات الاحتقاري للطبقة السياسية إلى التضحية بأجسادهم – وربما بأرواحهم لا قدر الله- لبث قدر من الأمل في نفوس تونسيين يحلمون بممارسة السياسة، بالإساءة إلى سمعة بلادهم والعمل على ابتزاز نظامها السياسي وسرقة الأضواء في مناسبة دولية كبيرة تستعد البلاد لاحتضانها، وليس الاتهام إلا دليل إفلاس حكومي صارخ على الصعيد السياسي، إذ لماذا يضطر زعيم حزب سياسي في دولة مستقلة إلى خوض إضراب عن الطعام لو وجد أبواب الحوار مفتوحة، وهل ثمة زعيم حزب سياسي في كل دول العالم الحر اضطر إلى أن يفعل ذلك.
إن الذي يسيء إلى سمعة تونس حقا، هو أن تحكم البلاد بقبضة حديدية تضع كافة السلطات في يد واحد إلهية، وتفرض سلطة حزب واحد أوحد على الناس مرغمين، وتجعل من وسائل الإعلام الحكومية وغير الحكومية أبواقا للتهليل والتكبير والإسفاف وترويج الخطابات الخشبية، وتسخر القضاء ألعوبة لتصفية الحسابات السياسية، وتدفع نصف المواطنين الراشدين إلى عضوية حزب السلطة، وتصر على الإبقاء على مئات السجناء السياسيين قابعين في السجون دون شفقة أو رحمة لفترة تزيد عن العشرية، وتصم الآذان عن نصيحة الناصحين وتقارير المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية.
لقد قابلت طيلة العشر سنوات الماضية، انطلاقا من أنشطتي الصحفية والحقوقية والسياسية، عشرات المسؤولين الأوربيين والأمريكيين، ما وجدت واحدا منهم يذكر تونس بخير للأسف الشديد – رغم كل ما يمكن أن يقال عن المعجزات الاقتصادية والاجتماعية-، فالكل يستشهد بملفات حافلة بانتهاكات شديدة تتعلق بحقوق الإنسان والحريات العامة والحياة السياسية التعددية، والكل يستغرب أن تقع مثل هذه الانتهاكات في بلد مؤهل بكل المقاييس والمعايير لاحتضان تجربة ديمقراطية رائدة في المنطقة.
التونسيون في غالبيتهم – وعلى اختلاف مشاربهم – محبون للحياة ميالون للاعتدال نابذون للعنف، والجغرافية التونسية كما التاريخ التونسي كلاهما سهل بسيط في الغالب، والشعب التونسي عربي مسلم سني مالكي متجانس متحرر من أي نزعات تقسيمية، طائفية أو دينية أو عرقية أو لغوية، والطبقة الوسطى التونسية كبيرة، وعدد الأميين قليل، واقتصاد البلد متنوع، ورأس المال الأساسي هو العنصر البشري، أفتحتاج الديمقراطية إلى أكثر من هذا لتمارس.
ولقد قال لي ذات مرة الأستاذ شوقي الطبيب، الناشط الحقوقي التونسي البارز، أن البلد العربي الوحيد الذي يمكن أن تحل مشاكله في خمسة دقائق هو تونس، في لهجة سخرية واستغراب في آن، من هذه النزعة الأمنية الصارمة التي التزمها النظام في تعامله مع المجتمع المدني وقواه الحية، والتي انقسم بموجبها التونسيون إلى نصفين مواطن يراقب مواطنا.
وإن النظام التونسي هو أحد الأنظمة السياسية القليلة في العالم، التي ترى في الحوار السياسي ضعفا لا يجوز قبوله، وفي القبضة الأمنية أساسا لضمان هيبة الدولة المقدسة، ولعل مشكلة الأستاذ الشابي مع نظام بلاده، أنه كان رجل حوار، في حين يريد الحاكم رجلا يسمع فيطيع ويؤمر فينتهي ويمنح فيقبل الأيادي ويرصد له دور فيلتزم به دون تفسير أو تأويل أو اجتهاد.
ولا يختلف رفاق الشابي المضربين معه عن الطعام، عنه في غالبيتهم، فهم لم يكونوا صقورا سياسيين في يوم من الأيام، بل لعلهم من خيرة رجال تونس وأكثرهم وطنية وغيرة على مصالح البلد، من بينهم القاضي الجليل المختار اليحياوي، والصحفي الفاضل لطفي حجي، والمحامي النزيه محمد النوري، وثلة من السياسيين والحقوقيين الصادقين، ولا شك أن هؤلاء لو وجدوا أبواب الحوار الجدي مفتوحة لما تركوها إلى الإضراب عن الطعام، ولو وجدوا نظاما سياسيا يعتبرهم شركاء فعليين في العملية السياسية الوطنية، ما جنحوا إلى استغلال مناسبة دولية ذات صلة بالحرية لتسليط الضوء على قضية الحرية في بلادهم.
ومن كلمات الاستاذ الشابي التي حفظتها له، وهو اليوم يقود عملية نضالية تاريخية، قوله لي " أن تونس أمه"، وأن المرء قد يرضى الهوان في كل شيء إلا في أمه..وخلاصة القول أن تونس أم عظيمة لا تستحق أن تحكم بالحديد، وأن "الشعب التونسي بلغ من الوعي والنضج ما يسمح لكل أبنائه بالمشاركة البناءة في تصريف شؤونه في ظل نظام جمهوري يولي المؤسسات مكانتها ويوفر أسباب الديمقراطية المسؤولة...".
إن المعركة التي يخوضها الاستاذ الشابي ورفاقه اليوم تحت شعار "الجوع ولا الخضوع"، دليل على هذا الوعي والنضج الذي يجعل التونسيين جديرين بممارسة الحرية والديمقراطية، لا دليلا على الإساءة للوطن والعمالة الأجنبية..وإنها لذكرى لمن يحرص على عدم نسيان ما قال ذات يوم من كلمات فتحت له أبواب النفوذ والسلطة والشرعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو: هل تستطيع أوروبا تجهيز نفسها بدرع مضاد للصواريخ؟ • فر


.. قتيلان برصاص الجيش الإسرائيلي قرب جنين في الضفة الغربية




.. روسيا.. السلطات تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة| #ا


.. محمد هلسة: نتنياهو يطيل الحرب لمحاولة التملص من الأطواق التي




.. وصول 3 مصابين لمستشفى غزة الأوروبي إثر انفجار ذخائر من مخلفا