الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جميلة وخياط الخزف ..

صادق البصري

2015 / 11 / 11
الادب والفن


جميلة وخياط الخزف ( قصة قصيرة )

كانت - جميلة مفتن - في الخامسة والأربعين ولم تكن جميلة أو جذابة هكذا هي الأسماء هنا لا تعكس حقيقة المرء في الواقع كما هي دائما ، مرت سنواتها الخمس والأربعون - الصبا والشباب والنضج – وما تزال خالية من الجمال والجاذبية ولا تعرف شيء عن الرومانسية أو قواعد الألفة الزوجية البشرية عندما تزوجت على الأقل في حدودها المتعارف عليها
وحتى مضاجعتهما المشروعة في الذات كانا يقومان بها على إنها مشكلة تنتظر الحل
، وكلما تقدم بها العمر أصبحت أكثر قبحا ودمامة ، كان جسدها عضليا صلدا لا يدل على جنسها الأنثوي على اقل تقدير حسب الوصف المتعارف عليه ، أو أي طابع يدل على جنسها الأنثوي كما إن الحالة تتكرر بالنسبة للإناث البالغات في هذه المدن المغلقة .
و منذ أن أمضت خمس عشرة سنة في مطبخ بيت زوجها وبين طست الغسيل والخدمة ، كان شعرها خشنا ليفيا داكنا وفي كل الأوقات مغبرا ، وكان وجهها قد تزايدت فيه الغضون وحفر الزمن خطوطه بسبب الإجهاد وإفرازات العرق ، وأثدائها وقد تدلت على صدرها باتجاه البطن المترهلة ، وكأنهما بالونين ملئا بالماء ، كل الذين رأوا جميلة ويعرفونها على إنها صاحبة أعلى رقم قياسي في مسحتها البغيضة للأنثى التي لا تشبه الأنثى في كل الأحوال ، حتى ولا سلام زوجها إذ كانت بالنسبة له امرأة هرمت تعيش حياتها مناضلة للحفاظ على نسق الدمامة والتوحش بالنسبة للجنس الأنثوي في هذه المدن الميتة، وانفجر ذات ظهيرة عاريا صائحا وسط الزقاق –يا ناس اشهدوا أنا متزوج من رجل هل يرضيكم هذا -!!

وألان قد ماتت جميلة ! يبدو إن موتها كان تعويضا عن قبح صفاتها ووجهها وحياتها الفارغة ، كانت تعيسة خلال حياتها ، ستة أطفال في شبه قبو مؤجر في زقاق موحل ، حالة صحية غير مستقرة، حالة اجتماعية موبوءة ، وزوج تعس ينفر منها ومن طباعها وكل شيء فيها وكأنها فرضت عليه فرضا كزوجة بمرسوم جمهوري وكتب زواجهما كبند من بنود دستور الدولة بدون النية في تعديله كما يردد دائما !! هكذا كان ينظر إليها – سلام – ولا من حيلة أو مفر بالاستمرار في هذه المهزلة التي تسمى مؤسسة الزواج المؤبد ،
خلال سنوات زواجها لم تبرح جميلة البيت ولو مرة واحدة ، أكثر من عشر سنوات تدور في البيت مثل ثور الساقية أو حمار عربة الطابوق في المعامل ، من الصباح الباكر حتى المساء ، ولم تكن لديها عطلة أو مجرد تفكير في مبارحة المنزل لزيارة أهلها أو أقربائها أو سفرة خارج المدينة التي كانت تعيش فيها مع زوجها وأطفالها الستة ، ولا وقت لكي تغتسل أو تعتني بنفسها أو تتعلم حتى فكل هذا من الأمور الثانوية التي لا تستحق التفكير فيها - وهل هي مسعدة أو بطرانة – هكذا هو طابع العرف والتقليد الذي نشأة فيه جميلة ويتم زراعته وتسويقه على إنها قواعد وأعراف يجب الالتزام بها بالنسبة للأنثى في هذا الوسط ويلقن ذلك لاشعوريا منذ الصغر في بيئة متناقضة تعيش الازدواجية في كل شيء، هكذا هي بيئة جميلة التي نبعت منها
وكان سلام يعمل طوال اليوم أيضا ، يخرج من الصباح الباكر ولا يعود إلا في وقت الغروب ومع ذلك فان عمله لم يدر عليه شيء يذكر سوى الم المفاصل وظهر موجع وشكاية الزمن المر وحسرة القلب والعوز والفاقة ، وكلما اجتهد أكثر في عمله كان أكثر فقرا ، وكانت مهنته التي توارثها عن والده وجده عبارة عن مهنة منقرضة وسط هذا الانفجار الهائل بالبضائع والسلع والتكنولوجيا والتطور وتوفر الطابعة ثلاثية الأبعاد التي لم يسمع بها سلام ولا كل أهل المدينة ، ولا حاجة للناس بعد بمهارة أو حرفية خياط خزف أو حداد سكاكين ، وها نحن في عصر آخر لكنهم لا يعيرون اهتماما للزمن فكل شيء متوقف هنا حيث في التأني السلامة، لم تكن حياة سلام وجميلة ذات قيمة أو معنى وسط هذه الغربة والكآبة .

ماتت جميلة ولم تكن جميلة مطلقا، كما هي نفسها لم تشعر بذلك ، لم تلبس في حياتها شيء ذا قيمة على جلدها ، ولا وضعت مسحوق التجميل على وجهها أو احمر الشفاه على خديها ولا تعطرت ، وكانت كل تلك الأشياء من وجهة نظرها ترف لا تستحقه وكأنها من الموبقات ، ولا فكرت يوما أن تزيل الأوساخ من تحت أظافر أصابع يديها وقدميها ..
لقد ماتت جميلة عصر ذلك اليوم ، وضعت الجثة في تابوت والغريب في هذه المدينة كثرة التوابيت وتوفرها إذ يتم الحصول عليها بيسر وبالمجان من أي جامع قريب - هيا أهلا بالموتى . أثناء وضع الجثة داخل التابوت لنقلها إلى المقبرة الكبرى خارج المدينة حضرت أخت جميلة التي لم ترها منذ عشر سنوات وقد قدمت من محافظة أخرى ابعد لحضور جنازة أختها الوحيدة ، وقد أقسمت أن تغسل جثة أختها بيديها قبل نقلها إلى المقبرة الكبرى للدفن، سمحوا لها بذلك وحملت وأدخلت إلى غرفة المنام ليتم تغسيلها وتجهيزها للدفن ، فراحت أختها تغسلها والدموع تترقرق في عينيها وكأنها تقول أختي لقد تأخرت عليك كثيرا وتشعر بالتقصير تجاه أختها الوحيدة ،
غسلت شعرها بالشامبو، و بعناية قلمت أظافرها ودعكت يديها ووجهها بالصابون وسرحت شعرها وعطرتها بعطر فواح ، بعد الانتهاء من الغسل
دلف سلام إلى الغرفة وهو مطرق بوجه عبوس، رفع رأسه ورأى جثة امرأة مسجاة !! لفترة طويلة من الوقت لم يصدق سلام أنها كانت زوجته جميلة تلك التي ترقد ميتة ، أسرع صوب درج خزانة الملابس واخرج الصور الفوتوغرافية وكانت صورا لهما في ملابس الزواج في أسبوعهما الأول من الزواج فقارن بين تلك الصور ووجه زوجته الميتة ومن ثم تأكد إنها هي زوجته جميلة ، فقد بدت فتاة شابة تماما ! وكان شعرها يلتمع في ضوء المصباح، كانت يداها بيضاوين ووجهها نظيفا وناعما ، كانت زوجته جميلة حقا وهي ميتة ، لم يستطع سلام أن يرفع عينيه عنها ، جلس طوال اليوم إلى جانب التابوت صامتا يذرف الدمع ، كانت أختها أبدعت إذ جعلتها فتاة جميلة !!
في عصر ذلك اليوم دفنت جميلة مع جمالها في المقبرة الكبرى ، كان أطفال جميلة غير متأكدين ماذا حل بأمهم كان ذلك يتطلب أعوام قبل أن يستطيعوا إدراك بان الجسد الذي وري التراب جسد أمهم جميلة
وأصر سلام إن زوجته جميلة لم تكن مطلقا جميلة في حياتها ، لكن المرأة التي كانت في الكفن كانت سيدة جميلة ، قد يكون الموت أحيانا سعادة لبعض النساء التعيسات في حياتهن ما يجعلهن جميلات وهن في الأكفان.
اخرج لأطفاله الصور وقال انظروا لا داعي أن تتذكروا أمكم في السابق تذكروها اليوم إن في هذا القبر ترقد سيدة محترمة جميلة .

**********************************************************
صادق البصري / بغداد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري