الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القرية .. قصة قصيرة

البدراوى ثروت عبدالنبى

2015 / 11 / 12
الادب والفن


عصارى يوم الخميس داخل قرية من قرى الدقهلية بدايتها ترعة تفصل بين الطريق و الأراضى الزراعية  يفصل بين الأراضى مجرد جسر صغير تسير عليه الحيوانات ، فجميع القرى المحيطة بالقرية  ذهب أغلب رجالها إلى الخليج و العراق وعادوا فتغير الشكل التقليدى للقرى و الفلاح ، تغير الملبس وظهرت الوحدات الصحية إما بتبرعاتهم أو من الحكومة و أيضا انتشرت المدارس و على الأسطح أطباق إستقبال الأقمار الصناعية ، شكل المبانى تغير من الطوب اللبن إلى عمارات متعددة الطوابق ،و انتشرت الالآت الزراعية للحرث ،  لكن هذه القرية مازالت المنازل بها طابق أو طابقين ، لم يتغير شكلها ، فالرجال جميعهم يقوموا الى عملهم مع أذان الفجر يصلوا وبعدها يذهبوا إلى عملهم و ينتهى العمل مع أذان الظهر  ، ولكل منزل جدول فى الطعام يبدأ بالعدس و الزفر المذبوح فى منتصفه و أخر الأسبوع دائما ما يكون أرز و بطاطس و بصل ، فالوقت منظم مع وقت الصلاة ينتهى اليوم بصلاة العشاء الا يوم الخميس .
وهناك الشيخ منصور العدوى إمام المسجد الوحيد بالقرية ، هو المسئول عن التعليم  من خلال الكتاب يعلم القراءة و الكتابة ، فله جسد ضخم ، يلبس الجبة و القفطان و الحزام  ، هادئ لا ينفعل أبدا ، صوته اذا تكلم يخرج جهورى يصل الى القلب ، لم يرى مرة واحدة بعينه دموع مطلقا  حتى بالصلاة حتى ظن الأهالى انه لا يهاب أى شئ ، له سلطة مطلقة على الجميع لا يرد له كلمة او حكم على أحد فهو المحكمة العرفية و لا محكمة سواها فهو بيده الزواج و الطلاق و أحيانا يصف بعض الوصفات الطبية إذا مرض أى شخص ، موجود دائما فى اوقات الصلاة لم يتأخر مرة على صلاة ، تحوطه هالة من الغموض لا أحد يعرف ان كان متزوج أم لا ، و لا يجرأ أحد على سؤاله عن أمر شخصى مطلقا فالشيخ هو أمر مسلم به داخل القرية  ، بيته مغلق دائما هادئ ، لا يظهر الا بأوقات الصلاة لم يرى مرة يضحك فقط مجرد ابتسامة ، أما النساء تراه انه الرجل الوحيد بالعالم ، تتورد وجوهن لذكر إسمه فقط ، لا تخلو جلسة من جلساتهن من ذكر إسمه فيومهن يبدأ مع أزواجهم بعد صلاة الفجر يطعمن الحيوانات و الطيور و يساعدن أحيانا فى زراعة الأرض و غالبا يعملهن داخل البيت ، فالشيخ فى أذهانهن هو مصدر الرجولة بالعالم ، عندما يذكر اسمه تقشعر له الأبدان هو مجرد هالة قوية لم تره النساء الا نادرا .
لا يخرج الشيخ منصور العدوى من منزله الا بوقت الصلاة و يجلس فى الفترة بين صلاتى العصر و المغرب يقرا كتاب فى المسجد ، فهو العليم بكل شئ فهناك يوم مخصص للإستشارات بعد صلاة الجمعة .
_ فوقت العصر يوم الخميس له طعم مختلف بعد أن ينتهوا من وجبة الغداء و يصلوا العصر يلتقوا جميعا تحت العريشة المصنوعة من الغاب والسقف من قش الأرز مكانها فى وسط الأرض ليست قريبة من البيوت .



اجتمع الرجال يوم الخميس بعد صلاة العصر كعادتهم الأسبوعية ليشربوا المعسل و يوضع البراد الكبير على النار يفصل جلستهم فقط هى الصلوات ،و بعد صلاة العشاء خرج الشيخ منصور العدوى خارج القرية ، و تجمع الرجال مرة أخرى و شرعوا فى شرب الحشيش على الجوزة مخلوط مع المعسل ، بعد وقت قصير بدأ  يظهر مفعول الحشيش على وجوههم   فاحمرت الأعين و زاد الضحك و الكلام فيسخروا من بعضهم ، ويلقوا النكات و  يتحدثوا عن كل شئ بالأسبةع الذى مضى ومن مات و من كلق أو سيتزوج ، لكن حسين الألفى صمت و عقله يدور بشدة فهناك أمر يحيره و لا يجرأ على التكلم ، و لكنه الحشيش ما يدور بالعقل فهو على اللسان و سأل إلى أين يذهب الشيخ منصور كل خميس ؟
كان صوته عالى و لكن صوت الباقون كان أعلى ممزوجا بالضحكات والنكات فلم يسمعه أحد ، أو سمعوا و ظنوا أن هذا من تأثير الحشيش فهذا السؤال هو من الأسئلة المحرمة كانها الفطرة أن يخرج الشيخ منصور و لا أحد يسأل !
و نظر لهم و كانوا بعالم أخر و هو ليس معهم وقرر الوقوف ، لتكرار السؤال  و قال حسين الألفى أين يذهب الشيخ منصور كل ليلة خميس ؟
فنظر له الجميع بذعر شديد كأنه ينطق الكفر ، و لم يعطى لهم فرصة للرد عليه أكمل كلامه لماذا كل الرضى بأحكامه بهذا الشكل ؟  ، لماذا نهابه ؟ فله سلطة مطلقة علينا لا نراجعه فى الحكم حتى من باب إطمئنان القلب  يزوجنا و يطلقنا حسب رغبته !
و من أين أتى الشيخ لا نعرف مكان مولده ؟ و هل هو متزوج ام لا ؟ أين عائلته ؟ فهو يعلم عنا كل كبيرة وصغيرة و نحن لا نعرف حتى من هو !
لماذا هذه النظرة البلهاء على وجوهكم ؟
_ لم يرد عليه أحد هناك خوف و لا احد يعلم ما سبب هذا الخوف .
_ و ماذا تفيد كل هذه الأسئلة يا ألفى ، ماذا تريد ؟
هكذا رد عليه صالح أبو العنيين فى لهجة إستهجان  .
ورد عليه حسين لأننى لا أعرف من هو ؟ و لا أعرف سبب سلطته علينا ؟ مجرد شخص آتى إلى قريتنا ؟ أصبح كل شئ داخل قريتنا ، القرية بأكملها تدور حوله .
_ كما قلت القرية كلها تدور حوله ، أنت لم تتذكر كيف كانت القرية من قبل فأنت مازلت شابا ، هو من يحافظ على هذا الشكل الذى لا ترغب به ، تريد ان نهدم كل هذا ، شعورنا بالأمان و الراحة ، شخص يعلم كل شئ ، انظر لنفسك يا ألفى ما تعرفه ، تلقيته على يده فى الكتاب .
_ حقيقة انا تلقيت ما علمنى اياه ، و لكن لماذا اقبل بأحكامه ، لماذا يزوجنى أو يطلق زوجتى منى و نقول ان الشيخ منصور هو أعلم بحكمه ؟
صمت الجميع و جميع الأنظار تتجه نحوه ، أخرج من جيبه سيجارة و أشعلها و هو متوتر
_نظروا إلى بعضهم و سأل أحدهم من أين لك بهذه السجائر يا ألفى ؟

نظر الألفى إلى سيجارته و لم يرد
_ أنت خرجت يا ألفى من قريتنا ، أين ذهبت ؟ هذا السبب جعلك تفكر هكذا !
 
رد و كأنه يحكى عن الجنة التى يتخيلها بهدوء و قال ...
_ و لماذا لا أخرج ، الحياة مختلفة خارج قريتنا تماما ، فهناك مدارس و وحدات صحية ، أطباء حقيقين ، تعليم مختلف ، هناك محاكم  و ليس هناك رأى واحد هناك اختلاف فى كل شئ .. سألت نفسى لماذا نخاف من سلطته ؟
_ نعرف ما تقول فالجميع فكر فيما تقول ، القرية منذ زمن أنتشر بها المرض و لم يتعافى أحد مات من مات ، أين هذه الوحدات و الاطباء و ما تقول عنه ، لماذا لم يأتوا ليقضوا على المرض و يريحوا المرضى  الشيخ منصور ساعد المرضى و نصحنا بإلتزام بيوتنا ، و مجرد شهر انتهى المرض ماتت أسر كاملة و لكن كنا سنموت جميعا لولا الشيخ منصور ، انتهى العراك من يومها ، انتهى كل شئ ، تخيل القرية بدون الشيخ منصور ماذا سيكون حالها ؟ هل ستظل حالة الحب التى بيننا كما هى ، نحن لا نعرف الخارج و لا نريد ان نعرفه و لكن اذا أردت أنت عيشتهم فاذهب لهم ، إذهب لقانونهم ووحداتهم الطبية و مدارسهم ، صحيح انت ابن امبارح و لكن إحنا حبينا العيشة دى ، منعرفش مين صحيح هو الشيخ و لا هو منين و لا أبويه و لا شئ عن زواجه ، و لكن هو القانون و المحكمة الفاصلة التى نستريح لها .
_ واتى صوت من أخر الجلسة و قال ما الذى سيحدث عندما نعرف من هو الشيخ ؟
_ لا شئ سوف يحدث و لكن الهيبة سوف تنتهى و الغموض ، أى شئ معقد له سحر إختصارا هو من نرمى عليه الحمل الأكبر من حياتنا هو يفسر المجهول منها .
سكت الجميع و شعروا أن هذه المحادثة سوف تؤدى بهم إلى شئ مجهول أكبر من عقولهم أو هكذا ظنوا  ، إحساس لتفكيك ما كانوا عليه، أشعلوا الحجارة مرة أخرى و زادت أنفاس الحشيش و أحمرت الأعين و هناك أسئلة أخرى تطرأ على عقولهم كأنهم أكتشفوا شئ ، النور الذى يأتى مع الفكرة ، شعور بالتميز قد يكون جميعهم تمنوا أن يظهر الشيخ الأن و يتكلم بصوته الجهورى ليطمئنهم  ، زاد الخوف ، ضحكوا و لم يعرفوا لماذا هذه الضحكات خرجت بهذا الشكل و استمروا فى إلقاء النكات  ، حتى الألفى الذى كان متأهب منذ قليل لمزيد من الأسئلة و الإجابات شرد  ، مر الوقت و كل منهم يشعر بغربة ، شعروا برغبة ان يذهبوا لبيوتهم و يناموا ، مجرد شعور بالوحشة للنوم .

سمعوا صوت تواشيح بصوت صافى جميل فسكت الضاحك و المتكلم و خشعت قلوبهم و أطفوا النار و الحجارة و لعنوا الحشيش و ذهبوا جميعا للمسجد مع أذان الفجر و صلوا كما لم يصلوا من قبل وراء الشيخ .
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال