الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيمفونية الروائح و الأمكنة - قراءة في مجموعة أوتار الماء لمحمد المخزنجي

محمد سمير عبد السلام

2005 / 10 / 30
الادب والفن


في نصوصه القصصية ( أوتار الماء ) – هيئة الكتاب 2003 – يحول(محمد المخزنجي ) معرفة الراوي وخبراته العلمية والسيكولوجية إلى ظواهر إبداعية تقاوم انتظام هذه الخبرات في نسق واحد ، وذلك من خلال اللعب بعناصر الواقع والنص ، ثم العلامات المؤولة للشخصيات أو الأحداث غير المنطقية . إننا هنا أمام قراءة جديدة لثقافة الماضي ولمنظور الراوي والمتلقي على السواء ، فالمخزنجي يقيم انشطاراً بين وعينا وآلياتنا السابقة في إدراك العالم ، يقوم على الدهشة و التساؤل وبكارة الاكتشاف المستمرة ، ليس هذا فحسب ، بل إنه يحثنا على تحويل وجودنا – من خلال التأويل – إلى ظواهر لها حضور متغير كالأسطورة .
لقد تواترت القراءات الأدبية للعلم والواقع حديثاً ، فيري ( فرانسوا ليوتار ) مثلا أن تطور العلم لن يتحقق إلا بالتخلي عن المشروعية الشمولية لخطاب العلم نفسه ، وذلك من خلال دخول مفرداته نطاق الألعاب اللغوية اللامتناهية ( راجع – ليوتار – مدخل إلى ما بعد الحداثة /ت/ أحمد حسان / هيئة قصور الثقافة سنة 94 صـ 184 وما بعدها ) هكذا يعيد نص المخزنجي قراءة العمليات المعرفية للراوي والمتلقي ويضعنا أمما شكل أسطوري للمنظور في درجة تالية لإدراك المنظور للأسطورة فى داخل الواقع وفى هذا كسر للشفافية التقليدية في العلم عندما يكتشف نسيجه الأدبي الخفي .
في ( ذلك الوميض ) تراود الراوي رغبته المستمرة في الخروج من أسر القواعد العلمية التي تختزله ، ثم تتجسد هذه الرغبة في الصرخات البدائية الصاعدة من ذاكرته ، كأنها تعلن بروزها خلف المكتوب في المراجع أو من داخل الشمولية التي يدعيها مبني المستشفي ، فهل كان المتحدث هو طيفه الآخر في سياق هذه الصرخات الخفية ؟ أم حضوره الراهن كطبيب ؟ يلتبس إذن مصدر الصوت لصالح السياق غير المرئي ليرسم لنا وعيا بالصورة العبثية الضاحكة للمبني لأن ما يظن أنه يحتويه يسخر منه ، ومن البناء الفني الذي يفترض إدراك الراوي لشخصياته على السواء . هذا الوعي لن يتجلى في النص كوجود مركزي ، ولكنه أثر لصورة زوجين أنجبا طفلاً له سمات ( قط ) بعد اثنين وعشرين عاماً من عدم الإنجاب ، أي أننا نستطيع قراءة وجود الراوي الطبيب من خلال تطورهما الإبداعي غير المبرر والمقاوم للنزعة الشمولية . فالنص يطرح علينا روايتين متضادتين للقصة . الأولى : تشخص فيها حالة العجوزين بأنها فصام اكتئابي يقترب من دائرة ( الذهان ) ، وتتمثل في شك الرجل بأن زوجته خانته مع ( قط ) ، أما الاحتمال الآخر فيعيد قراءة الخطاب العلمي الأول بوصفه ظاهرة استثنائية لا تتصف بالكلية ، فالطفل بالفعل ذو عينين تضيئان في الظلمة ،والعجوزان ينامان في النهار ويستيقظان طوال الليل . هل استحالت الظواهر الفصامية إلى واقع إبداعي يعيد قراءة الشخصية وتأويل الأنا لنفسه ؟ أم أن هناك إدارة لا شعورية – على هيئة كائن آخر – تصارع الإرادة المنطقية الصلبة وتحاول استبدالها أو السخرية منها فينشأ الفصام بصورة مضادة لمدلوله الأول ؟
الفصام – إذا – في هذا الاحتمال أن تنكر هذه الحالات وتتمثل ما هو مخالف لهذا الواقع الإبداعي الجديد . لقد كان الطفل انتشاراً نصياً للقطط التي طردها العجوز ليتحقق له الإنجاب ، ولصورة ( القط ) فى وعيه ولا وعيه الأسطوري المقاوم لتراثه المعرفي ذى البعد الواحد . وبالمثل سوف يعاين الراوي ذلك الوميض خلف عينيه ووجوده وذاكرته ، وسيهدده دائما أو سيحقق له اللذة عندما يخلو إليه . وفى ( رنين أوتار الماء ) يتداخل البطل وطبيبه في الدهشة المصاحبة للعالم الفصامي ، فالأول يعايش الهلاوس السمعية والبصرية التى تتلاحق عليه وتدخله سيادتها . أما الآخر فيرى فيها بكارة مدهشة للوجود ، كأنها لوحة متمردة ذات سياق جمالي مؤثر ويدعو إلى متعة التلقي.
ومن المنظور الجمالي نفسه يفسر البطل هذه الأصوات والأقدام الفزعة من خلال طاقة ( أوتار الماء ) وقت الاستحمام ، فالطاقة الظاهرية للماء تخون مدلولاتها الكيميائية والفيزيقية السابقة وتتحول إلى أثر صاخب للأسطورة . هل كان الماء أسطوريا بالأساس ؟أم أنه استدعي ( عدم التحديد ) في تكوينه فقاوم عمليات تقنين طاقته في مجتمعنا المدني؟
لقد أتي الماء حاملاً لأطياف بشرية لها القدرة على تحقيق الامتزاج الكوني الكامن خلف اللاوعي الأسطوري للإنسان المعاصر . هذه الأطياف استبدلت واقع البطل وأدخلته سيادتها الجمالي / الغاية تلك إلى تسلقت وعى طبيب ( المخزنجي ) واحتلت أفقه دون تحقق فعلي ، بينما أحدثت انشطاراً – في الوقت نفسه – بينه وبين مدنيته الحاضرة فى لنص .
وتبلغ المادة غير المرئية درجة هائلة من الاتساع فى الفضاء فى نص ( شرفة العطور ) ، فتمثل تشيؤ مالا يمكن إدراكه بالحواس ، وتوحي فى التأويل بخفه أو ثقل المطلقات كطاقة متحركة في واقعنا ، فهي تنتج معرفة بالعالم بقدر ما تزاحم وجودنا وتدخلنا في لعبتها ، فالتصاعد السيمفوني للرائحة – التي توصف بأنها نيئة – يحتل البطل ويخترقه ، فهل كانت رائحة الموت كما يظن ؟ أم أنها الحياة الأخرى لهذا المطلق غير المحدد ؟ . إن الموت هنا لا يعني انعدام المادة أو زوال طاقتها ولكنه الانتشار الأول للرائحة وتطورها الإبداعي بوصفها تكويناً ملتبساً بين الوجود والاختفاء . هذا التكوين ذو صوت بشرى طليق في الهواء يقاوم الحضور العين للمادة من داخلها ، فأحيانا يحتل البطل إلى درجة الاختناق ، أو يحضر صورة بصرية من النجمات اللازوردية والوميض الفيروزي بمصاحبة عطر ( الخزامي ) ، وفى هذه الحالة لا يقاوم البطل الدخول فى اللعبة بل يقبل أن يكون فاعلاً مجازياً مثل أطياف هذه الروائح وحيزها المكاني الجمالي ، ومن ثم لا نعثر في الحركة الأخيرة من سيمفونية الروائح على صوت الراوي / البطل أو منظوره ، فقد صار حيزاً لانتشار الأريج أو الأرواح الهائمة على هيئته ، ألا يذكرنا هذا بالحياة الحيوية الظاهرية للنار ، والتي تجمع الخير والشر والحب والكراهية فى مادتها عند ( جاستون باشلار ) في تحليله النفسي للنار ؟ . وفى ( تلك الحياة الفاتنة ) تصبح المسافة بين الحياة والموت مكسورة ، فالموت يعني انشطار الصورة وتكاثرها الإبداعي ، لقد انقسمت القطة الميتة إلى قطتين نشطتين مثلما تواتر موت البطل مع حياته في تكرار لا يعني بالمسافات الزمنية التقليدية . وفى ( حقيبة بلون الشفق ) تطل حقيبة ( تشيكوف ) من ذاكرة البطل لتقرأ وجوده ووعيه ولا وعيه ، فلون الشفق فيها يوحي بالغموض والأبدية ويشعره بأنه ذرة فى ملكوت لا نهائي ، أو أنه محاط بالوحشة . ومن هذه النقطة يتغير منظوره لجزء آخر من الذاكرة يخص بحثه عن بيضة ذهبية داخل الديك فى مرحلة الطفولة ، وكأن اللامرئي أو الأثر التأويلي يبعث الحياة فى الحقيبة والدجاج وذاكرة البطل ، لأنه بلا مرجعية و فريد في مضمونه و صورته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال