الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
رسالة الرئيس
سهر العامري
2015 / 11 / 17الادب والفن
رسالة الرئيس سهر العامري
كان الوجوم مخيما على وجه الرئيس رغم أن البيت أبيض زادت في اشراقته أشعة شمس خجولة ، مثلما تخيلها الرئيس الذي نهض مبكرا صباح ذاك اليوم الباهت ، مع أنه لم ينم ليلته البارحة إلا في ساعة متأخرة ، وكنت أنا وأياه ساعاتها في حال واحدة فهو كان يتابع الأخبار المصورة القادمة من الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي ، بينما كنت أنا أتابعها بشغف مثله من أوربا.
كان قلق الرئيس باديا بصورة جلية على أسطر الرسالة التي بعثها لي صباح تلك الليلة المشؤمة ، فقد كان هو يبكي فيها على باريس ، يبكي على القيم العالمية المشتركة ، ولا ينسى كذلك أن يبكي على مبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة فأحداث تلك الليلة جعلت الرئيس يضع التاريخ القريب أمامه ، ولهذا استحضر روسو وفولتير من قبريهما ، مثلما استحضر أيام حرب الاستقلال التي وقفت فيها باريس مع الثائرين من أبناء شعبه ، ذلك الوقوف الذي أغرقها بالديون ، هذا الغرق الذي كان من بين أهم الأسباب التي أشعلت نيران الثورة في شوارعها ، ثم حصدت حرب الارهاب خلالها آلافا من الناس ، وأخيرا تمخضت تلك الثورة فولدت رجلا مجنونا راحت جيوشه تجوب أنحاء الأرض المترامية ، تبطش هنا وتدمر هناك ، وبذلك جعلت الكثير من البلدان مستعمرات لها ، أطلق عليها الإمبرياليون الفرنسيون اسم فرنسا ما وراء البحار :
مشت لك باريس ُ أم الحقوق وحشا يدبّ على أربع ِ
( دعا جندي في جيش الاحتلال الفرنسي السابق للجزائر الرئيسَ الفرنسي الجديد فرانسوا هولاند إلى تشريف فرنسا بالاعتذار إلى الجزائر عن الجرائم التي ارتكبتها في هذا البلد ، وذكر أن فرنسا انتهجت "قمعاً مركّزاً ضد أية محاولة للثورة، ونهبت ثروات الجزائريين لفائدة المعمّرين ورجال المال، الذين كانوا مسيطرين على الحياة الاقتصادية والسياسية للمستعمرات )
لكن الرئيس لم يلتفت لكل ذلك ، لم يلتفت الى سايكس – بيكو ، ولم يلتفت الى مجاز مدينة سطيف ، ونسى أن أفريقيا نهبت حتى أقاموا على جماجم أهلها برج إيفل ، وهم أنفسهم من نهب كنوز الفراعنة ، والبابليين ، وهم أنفسهم من سرقوا لسان سي علال ذاك الفتى الذي أنكروا على آبائهم داره وموطنه ، فهل من المعقول أن ينسى الرئيس كل ذلك ، ولم يكتب لي عنه شيئا ؟ هل فقد عقله تلك الليلة أم أنه كان يقرأ التاريخ بعين واحدة .
كان هناك عصفور يزقزق على شجرة عود سامقة وقت أن كان الرئيس يكتب رسالته الحزينة لي في صبيحة تلك الليلة المشؤمة ، وبين الفينة والفينة كانت زقزقة ذلك الطائر ترتفع ، وكان الرئيس يسمعها بوضوح رغم أن العصفور كان معلقا في غصن من أغصان أعلى الشجرة التي كانت فارعة الطول ، وتقع خلف جدار سميك لغرفة الرئيس في بيته الأبيض .
تخيل الرئيس أن العصفور ذا العقل الصغير يسخر منه كلما وضع كلمة على سطر من رسالته تلك ، ولكن مع هذا ظل الرئيس يكذب فيما يكتب ، ولم يراجع نفسه مرة واحدة ، فهو مهتم بأمر الارهاب الذي يطال المدنيين من الناس في تلك الليلة ، وينغص الحياة في عاصمة النور .
اهتمام الرئيس الزائد جعل العصفور أن يسأل شجرة العود عن أصلها ، وعن مكان ولادتها قبل أن تهاجر مثل الرئيس الى الضفاف الغربية للمحيط الأطلسي ، وقد أثار هذا السؤال استغراب الشجرة ، فردت بغضب عليه ، قائلة له : إنها لم تهاجر أبدا ! إنها شجرة مسبية منذ سنوات خلت ، اقتلعها من أرضها جندي من جيش الرئيس ، وأتى بها الى هذا المكان الذي خرجت منه خطط كثيرة أزهقت أرواح الناس في اصقاع كثيرة من العالم.
- قبلي أيها العصفور سبوا الكثير من أشجار القرنفل والعود من باريس آسيا ، هانوي ، وحملوها الى باريس أوربا ، وصنعوا منها أفضل العطور ، كي يتعطر بها رجال ونساء تجار المال والحروب .
- أنا من هناك أيضا . رد العصفور.
- من هانوي ؟
- كلا . من سايكون .
- وكيف وصلت الى البيت الأبيض ؟
- قولي لي أنت كيف وصلت ؟
- بعد أن سبوني ، حملوني بسفينة حربية ، قطعت بي بحورا عدة ، وشاهدت من الأمواج العاتية ما يخيف كل حي في هذا الوجود ، وحين رست تلك السفينة قرب نصب الحرية في خليج نيويورك حُملت بطائرة من هناك ، وكنت وقتها ما زلت صغيرة في السن ، بعدها غرسوني قرب غرفة الرئيس مثلما تشاهد .
- يبدو أن رحلتك استغرقت أياما طويلة !
- نعم . طالت كثيرا ، وعلى ما أتذكر فقد زادت على شهر .
- ربما كنت أنا أسعد حظا منك ، فقد حملني جند الرئيس بطائرة ، وبعد ساعات أطلق سراحي في باحة البيت الأبيض ، لكن شعورا ما في الارتياح هو الذي قادني نحوك ، وفضلت أنا أن تكوني لي وكرا في هذه الديار الغريبة ، والبعيدة .
- من هانوي أنت ؟
- لا . من سايكون قلت لك !
- قل من مدينة هو ش منه ، فقد تبدل اسمها ، وحملت اسم ذلك الطباخ الفيتنامي الذي طالما أضطهد من قبل تجار المال والحروب من الفرنسيين ، حين كان يطبخ لهم الكثير من الطعام في مطاعم سفنهم ، ولمثلهم فقد طبخ لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل حين كان يعمل هو في فندق كارلتون بلندن في الشهور الأولى من الحرب العالمی-;---;--ة الاولى.
ذاك الاضطهاد هو الذي قاد هو شي منه الى يقاد مشاعل الثورة دفاعا عن وطنه الذي يهيمن عليه تجار الحروب ، ونهبوا ثروته ، ثم لاحقوه بتهمة الارهاب ، فراحت تتساقط قنابل طائراتهم المحرقة على القرى والمدن الفيتنامية ، ولم يسلم من قنابلهم الحارقة تلك حتى الأطفال الصغار الذين هاموا على وجوههم في الشوارع ، والطرقات ، وهم يحملون على ظهورهم نيران تلك القنابل التي ألقت بها عليهم طائرات جند الرئيس الذي بعث لي رسالة أغفل فيها ذكر الكثير من الحقائق التاريخية ، تلك الرسالة التي وصلتني في صباح ليلة مشؤمة فر فيها رجال وأطفال ونساء في شوارع باريس أوربا ، وهم في حال لا يختلف عن حال الطفلة الفيتنامية ، كيم وان ، التي فرت مثلهم عارية من نيران قنابل النابالم التي لازالت تحمل آثارها على ظهرها للآن رغم مرور سنوات طويلة على ذلك ، ولكن كل هذه الفظائع أغفلها الرئيس ، ولم يدونها في رسالته التي أرسلها لي ، بينما حدثني عن فظاعة الترويع الذي أصاب الناس المدنيين في عاصمة النور في تلك الليلة ، وقد عد الرئيس الاعتداء ذاك هو اعتداء على البشرية جمعاء ، وعلى القيم العالمية التي يتقاسمها معها ، ولكنه وبكل صلافة لم يتحدث عن القيم التي قتل بها جيشه الناس المدنيين ، وهم يسيرون مسالمين في شوارع بغداد ! والناس المدنيين في غزة الذين تنهال على بيوتهم قنابل الفانتوم الأمريكية ، وهم ينامون فيها ، كما أنه نسى أن يحدد لي القيم التي على هديها غزت جيوش حلفائه بلدانا عدة طمعا بثرواتها.
كان الأستاذ أحمد الحلي كثير الخصومة معي حين كنت طالبا عنده ، أتلقى منه دروسا في الفلسفة البراغماتية التي أخذت لب الأستاذ ذاك ، فهام بها غراما ، وراح يبذل جهودا جبارة من أجل أن يتعلق طلابه بها ، ولكنني كنت أنا الطالب الوحيد الذي يعتبرني مشاكسا له ، ولا أريد ، مثلما يزعم ، أن أقترب من فلسفة المال والربح ، ولهذا كثيرا ما كانت تدور مناقشات حامية الوطيس في قاعة الدرس بيني وبينه ، وهو القادم من عاصمة المال حيث يقبع الرئيس صاحب الرسالة .
- نعم . هذه الحرب مبررة في عرف ديوي !
- كيف مبرر يا أستاذ وهي تطحن كل اليوم مئات من الشعب الفيتنامي بقنابل النابالم ؟ ألم تشاهد أنت صور أطفال فيتنام ، وهم يفرون الى الشوارع عراة ، بينما راح جنود المال يلاحقونهم بقنابلهم ؟
- قلت لك هذه الحرب مبررة في فلسفة ديوي ، ولكنها ستكون عقيمة حين ينعدم ربح تجار الحروب منها .
- ومتى ستكون عقيمة برأيك ؟
- عندما تكون الخسارة في هذه الحرب تفوق أرباح الفحم الفيتنامي ، تلك الأرباح التي تدخل جيوب أصحاب المال والثروة الجالسين على المقاعد في الكونغرس الأمريكي .
- قل لي يا أستاذ علام يتبجح الرئيس بقيم النهب هذه ، مثلما يتبجح بحقوق الأنسان ، وحرية الأفراد .
- هم يعملون ويصرحون وفقا لشعارهم : دعه يعمل ! دعه يمر ! يضاف الى ذلك أنهم يفكرون ، ونحن لا نفكر !
- نحن نفكر يا أستاذ لكن القمع يطاردنا ، هذا هو الفرق .
مما ورد في رسالة الرئيس لي كذلك أنه سيحارب الارهاب والتطرف ، وسيطارد الارهابيين في كل مكان من العالم ، والى أن يلقى القبض عليهم ، ويحالون الى المحاكم لينالوا ما يستحقون من عقاب ، ولكن الرئيس لم يكتب لي كلمة واحدة عن ارهاب جنوده ، وما ارتكبوه من جرائم في أكثر من بلد ، وأكثر من مكان ، ومع ذلك يريد الرئيس من الاجيال الصاعدة أن تنسى ، وهو يعلم علم اليقين أن الشعوب لا تنسى أبدا !
في مساء صيفي ، رخي النسائم ، أنهيت عملي في مدرسة ثانوية لا تبعد كثيرا عن ضفاف البحر المتوسط ، صادفت في الطريق زميلة لي قادمة من اسبانيا ، وتعمل معي في المدرسة ذاتها ، وبينما كنا نسير سوية تخلف عنها ولدها الصغير الذي كان برفقتها ، ولهذا صاحت به : جاءك موشى !
هب الطفل مذعورا نحوها ، وصار يلوذ بها ، متلفتا يمينا ويسارا ، وهذا ما ثار دهشتي واستغرابي ، فقررت أن أسألها بسبب من أنه خطر لي أنها ذكرت اسما لشخص أنا على معرفة به حين صاحت هي بولدها :
- سمعتك تقولين لولدك : جاءك موشى ، من هو موشى هذا ؟
ردت علي هي بكل ثقة ، ودون تردد أو وجل ، وبرحابة صدر متناهية :
- هو موسى بن نصير !
أخذتني سورة من خجل لثوانيٍ ، ثم قلت :
- لا زلتم تذكرون موسى بن نصير بعد هذه السنين الطويلة التي عبرت في عدها الألف سنة ويزيد.
- الشعوب لن تنسى أبدا ، والتاريخ لن يرحم أحدا .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. فى ذكرى وفاته.. محطات فنية مهمة للفنان هيثم أحمد زكى
.. محمد إمام يحقق بفيلم اللعب مع العيال أعلى إيرادات مشواره الف
.. مجدي الهواري: السينما حاليا بالاشتراك مع والمنافسة أصبحت مقت
.. كم تقاضى حسن حسني في فيلم الناظر؟
.. النجمة سوسن بدر تتألق بالزي البحريني في ختام مهرجان البحرين