الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باريس: موهبة النور ومحنة الظلام

محمد السعدنى

2015 / 11 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


كما حفل تاريخ الإنسانية بأعمال عظيمة وإشراقات كبرى، فقد صادفته فى مشواره الطويل نحو التحقق والوجود محنة الظلام واختبارات العدم، ومرت عبر أيامه مساحات للضوء، كما مساحات أخرى للعتمة، ولعلنا فى محنة باريس مدينة النور والجمال وقد ضربها هذه الأيام سهم الإرهاب الغشوم ليطفئ أنوارها نستعيد ذكريات الإنسانية المعذبة بالجهل والظلام والتخلف، حين سحل "هيباتيا" وحرق "جان دارك" ونستعيد محنة الحسين بن منصور الحلاج، ومحرقة كتب إبن رشد، وحريق مكتبة الإسكندرية القديمة، ومحاكم التفتيش وعذابات جيوردانو برينو وجاليليو، وكوبرنيكوس، وغيرهم ممن حملوا مشاعل التنوير والعقلانية، ومثلوا قيم النهضة "الرينيسانس" لعالم قاوم التخلف والظلام والعنف بالجمال والفكر والعلم والفن والفلسفة، وحسبناه انتصر فى معركته للأبد، وإذا بنا أمام دورة أخرى لتاريخ مخاتل عاد يراوغ إنسانيتنا فى هجمة مجرمه لقوى ظلامية تكره النور كما ترفض التقدم وتحكم فى مستقبلنا أسوأ ما حمله ماضينا من مآس ومحن. ضرب الإرهاب باريس كما ضرب مدينة السلام والجمال فى بلادنا "شرم الشيخ"، لكنه نسى بغباءه التاريخى المعهود أن الإنسانية لاتعدم القيم، وأن المدن لاتموت. وهل يمكن لباريس بمتاحفها ومباهجها ومسارحها، أن يموت فيها برج إيفل وقوس النصر، وميدان تروكاديرو، وأوبرا باريس، وقصر فرساى، وحدائق شامب دو مارس وحدائق التويليري بزهورها وتماثيلها وبحيراتها الصناعية؟. هل يمكن أن يموت نهر السين والشانزليزيه ومولان روج وساحة الكونكورد ومتحف اللوفر؟. وهل يمكن أن تموت البهجة وأن يودعنا الجمال وتغادرنا أنوار الحرية والإخاء والمساواة التى حملتها الثورة الفرنسية للبشرية، لمجرد أن "داعش" الإرهاب بكل جهالتهم وظلاميتهم يريدون محو هذه القيم الإنسانية وإحلال الجريمة والعتمة محلها؟.
هل يمكن لباريس منحة النور وموهبة الوجود وحب الحياة، أن يضعها الإرهاب ومن وراءه قوى كبرى متآمرة وأصولية منحرفة رهينة للعدم ومحنة الظلام؟.
واجهت فرنسا محنة الإحتلال الألمانى فى الحرب العالمية الثانية، وخرجت محررة فى أغسطس 1944 ولم يصب وسط باريس بأى دمار أو أذى، ورفض القائد الألمانى "ديتريش فون شولتيتز" أوامر هتلر بتدميرها، بينما الدواعش أرادوا إطفاء أنوارها ومحو بهجتها وجمالها فهم أنصار القبح والغباء، ومن أسف أن تركهم "العالم الحر؟!" يدمرون آثار ومتاحف العراق وسوريا، ويحتلون أراضيهما مع جزء كبير من ليبيا، ويهددون مصر الحضارة والتاريخ، وراوغ باراك أوباما وإدارته ومن وراءه ديفيد كاميرون ليصبغوا حماية على داهش فى توسعها، مظنة أن يلاعبوا بها مصر ودول الخليج لفرض مشروعهم الدنئ فى تقسيم العالم العربى والشرق الأوسط الجديد، ولم يستمع الغرب لتحذيرات مصر ومنذ 1986 من إرهاب يدق على أبواب العالم، إرهاب تسلحه أمريكا وتموله تركيا وقطر وغيرهم، ولم يستجيبوا لنداء مصر فى الجمعية العامة للأمم المتحدة بوقوف العالم وقفة جادة ضد الإرهاب، بل أحسبهم راحوا يعاقبون روسيا وفرنسا لأنهما وقفا إلى جانب مصر وأمداها بالسلاح والأنظمة الدفاعية المتقدمة، وكشفا عورات المراوغة الأمريكية فى تمثيليتهم التى لاتخيل إلا على الأغبياء بتحالف كارتونى ضد داعش، بينما تمددت قواتها الإرهابية لتحتل 250 ألف كيلومتراً، بعدما كانت تسيطر فقط على 25 كيلومتراً من أراضى العراق وسوريا مع بداية ضربات التحالف الأمريكى منذ عام ونصف.
إن طلة متأنية على المشهد العالمى خصوصاً مايخص سقوط الطائرة الروسية فى سيناء وضرب باريس، تشى بأن أمريكا وحلفائها يكافئون الإرهاب ويعاقبون مصر وروسيا وفرنسا. ستقول متهكماً نظرية المؤامرة؟ وأقول نعم هى المؤامرة، ورفضها والسخرية منها ماهو إلا ضرب من التخفى والمراوغة، ويكاد المريب يقول خذونى.
مصر صامدة لاتزال فى وجه المؤامرة، وباريس لن تموت، فباريس ليست شارل إبدو ولا ملعب الكرة ولا مسرح باتاكلان، باريس كما مصر أكبر كثيراً من الإرهاب، وهى فى ضمير الإنسانية ومثقفى العالم باقية طالما بقت أعمال فيكتور هوجو وموليير ومونتسيكيو وفولتير وجان جاك روسو وألكسندر دوما وبلزاك وإميل زولا وآراجون وأندريه مالرو وجان كوكتو ورومان رولان وجورج صاند وسيمون دى بوفوار وجان بول سارتر وجارودى وغيرهم ممن قرأنا لهم وشكلوا وعى وفكر العالم الحر فى كل مكان. ولازلت أذكر حوارات أندريه مالرو وسارتر مع جمال عبدالناصر وهيكل وكوكبة المفكرين فى الأهرام. ووقفة سارتر والجنرال ديجول مع قوى التحرر فى الجزائر وثورة 23 يوليو.
نحن لم نعرف فرنسا بصفقة طائرات الرافال ولاحاملات الطائرات الميسترال، فلسنا من أصحاب الذاكرات القصيرة كما باراك أوباما وإدارته وتابعه ديفيد كاميرون وحكومته، بل تمتد معرفتنا بها ومنذ زمن بعيد، وإذا حصرناها فى تاريخنا الحديث والمعاصر، فلنذكر تجربة النهضة المصرية مع محمد على والبعثات العلمية لفرنسا، ومنذ كتب رفاعة الطهطاوى "تلخيص الإبريز فى تلخيص باريز"، والشيخ محمد عبده وفكرة التجديد الدينى بعد عودته من باريس، ونعرفهم حين إبتعث طه حسين لفرنسا حبيساً لكف البصر، فعاد ببصيرة أنارت أفكارنا ودنيانا،
باريس التى احتضنت الخديوى إسماعيل والزعيم مصطفى كامل وسعد زغلول ولطفى السيد ومصطفى صادق الرافعى ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وقاسم أمين وأنور عبدالملك وعبدالرحمن بدوى وحسين مؤنس وعلى مبارك ولويس عوض وحسين فوزى وتوفيق الحكيم وسمير أمين وغيرهم، وعادوا لينقلوا إلينا أنوارها وجميل أفكارها. وهى بحاجة اليوم لدعم كل من شاركت فى تكوين وعيه وإنضاج مشاعره وهذبت ثقافته ودعمت دولته وحملت له مشاعل التنوير والرقى والحضارة. باريس اليوم فى حاجة لدعم كل مصرى تدفعه وطنيته للوقوف بجانب من دعمنا ووقف إلى جانبنا، لأنه فى موقفه هذا دعم لوطنه وبلاده المستهدفة من إرهاب الداخل والخارج ومراوغة الذين صنعوا الإرهاب وأطلقوه علينا سواء كانت أمريكا أو إسرائيل أو بريطانيا وذيولهم فى تركيا وقطر.
على المستوى الشخصى فقد تعرفت على الأدب الفرنسى وروافده الثرية من رفيقة العمر د. أمانى يوسف عندما تزاملنا فى جامعة الإسكندرية وأصدرنا مجلة الرسالة وكانت تقوم بترجمة الأدب الفرنسى وتهدينى بعضاً من كتبه. ولازلنا نحتفظ فى منزلنا فى الإسكندرية بلوحات كلود مونيه إلى جانب أعمال رينوار وفان جوخ وكاندنسكى. وعندما حصل إبننا معز على منحة لدراسة الدكتوراة فى العلوم إختار جامعة مونبلييه، أو هكذا كانت نصيحة الأم.
كنت أكتب المقال بينما حولى موسيقى "مونامور" بعزف الفرنسى الرائع ريتشارد كلايدرمان، وضوء القمر لبيتهوفن بتوزيع وعزف الفرنسى الفنان كلود ديبوسيه. وكعادة المثقف الكبير د. محمد حسن العزازى رئيس جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا صباح الثلاثاء موعد كتابة المقال نحتسى القهوة معاً، وإذا به يناقش معى هم باريس ومنحتها للبشرية ومحنتها بالإرهاب. على التليفون كان الصديق الكبير رأفت نوار شيخ المحامين يطمئن أننى أكتب عن باريس.
وإذ قال سارتر ذات مرة: جهنم هى الآخرون، فلعله كان يقصد ذلك الآخر الذى هو الضد منا رغم أنه يحمل بعض أسمائنا. حتماً سينتصر النور فى مصر وباريس ويهزم الظلام.
_______________________________________








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء سجن المحامية التونسية سنية الدهماني؟ | هاشتاغات مع


.. ا?كثر شيء تحبه بيسان إسماعيل في خطيبها محمود ماهر ????




.. غزة : هل توترت العلاقة بين مصر وإسرائيل ؟ • فرانس 24 / FRANC


.. الأسلحةُ الأميركية إلى إسرائيل.. تَخبّطٌ في العلن ودعمٌ مؤكد




.. غزة.. ماذا بعد؟ | معارك ومواجهات ضارية تخوضها المقاومة ضد قو