الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أتركوا الأطفال يفكرون خارج الصناديق لعلهم يصلحون أحوالكم البائسة

طارق المهدوي

2015 / 11 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


في كل أوطان التاريخ والجغرافيا تحدث أحياناً مصادفات نادرة عبر التقاء بعض العناصر الوراثية والكيميائية والمكتسبة عند مستويات معينة بمقادير محددة لتخلق الطفرات البشرية المعروفة في علم النفس الاجتماعي باسم "الموهوبون"، هؤلاء الذين تظهر موهبتهم منذ طفولتهم المبكرة بتفكيرهم المختلف عما هو مألوف في مجتمعاتهم من قوالب جامدة وبتقديراتهم الخارجة عما هو سائد في دولهم من صناديق مغلقة، ليمنحهم المحيطون بهم "مكافأة" قد تصل إلى درجة تقديسهم لعلهم يصلحون الأحوال البائسة في أوطانهم باستثناء مصر التي يتعرضون فيها إلى "مكافحة" قد تصل لدرجة قتلهم بمجرد اكتشاف موهبتهم، وعلى سبيل المثال التوضيحي سأعرض فيما يلي أحد نماذج تلك المكافحة خلال ستينيات القرن العشرين ضد محاولاتي المبكرة كتلميذ ابتدائي في العاشرة من عمره للتفكير خارج الصناديق بما يخالف القوالب، وأنا أعلم يقيناً بأن أكثر من ذلك قد حدث ومازال يحدث مع آخرين غيري على عكس ما تقتضيه الأحوال البائسة لمصر المعاصرة، حيث اعتدتُ على مجادلة المدرسين فيما كانوا يتقيأونه من مناهج تعليمية تعفنت بعد أن كبلوها على قوالبهم الجامدة الشبيهة بالصلبان وحشروها داخل صناديقهم المغلقة الشبيهة بتوابيت الموتى، فقد كنتُ أجادل مدرس التاريخ فيما يرويه من وقائع يراها هو تاريخية بينما أرفضها أنا باعتبارها قائمة على وجهة نظر الطرف المنتصر فقط دون إطلاعنا على وجهة النظر المضادة للطرف المنهزم، مع إصراري على أن الرواية لا تصبح تاريخاً إلا عند اكتمال مجمل صورتها بذكر كل الحقائق المتعلقة بكافة الوقائع من جميع الزوايا، وكنتُ أجادل مدرس اللغة العربية فيما يدعيه بأنها اللغة الأم للمصريين على اعتبار أن اللغة الأم هي تلك التي يحلم بها النائم عندما يعود بنومه إلى طبيعته الأصلية النقية ويتخلص من كل الإضافات والمكتسبات ويتحرر من سيطرة عقله المبرمج الذي يوجهه أثناء وعيه وإدراكه، وبما أن المصريين يحلمون بلهجتهم العامية فإنها تكون هي لغتهم الأم بينما تصبح اللغة العربية مكتسب ثقافي نقله الأجداد عن الفاتحين العرب ليضيفوه إلى ميراثهم المنقول بدوره لأحفادهم، كما كنتُ أجادل مدرس الرياضيات فيما يورده من معادلة جمع عددي مفادها أن واحد زائد واحد يساوي اثنين والتي يراها هو قاعدة علمية الأمر الذي أرفضه أنا من جانبي على اعتبار أن القواعد العلمية تكون ذات نتائج تكرارية ثابتة بصفة دائمة مهما اختلفت الظروف أو تغيرت الأحوال، في حين أن نتائج معادلته تخضع لأحوال المعدودات في كل مرة على حدا فهي لا تنطبق إلا بشرط وحدة المعدود أي الواحد سواء من ناحية النوع أو الكم فإذا اختلف الواحد المعدود الأول عن الواحد المعدود الثاني لا تكون النتيجة اثنين أبداً، فمثلاً واحد قلم زائد واحد قلم يساوي قلمين اثنين وكذلك واحد متر زائد واحد متر يساوي مترين اثنين أما إذا جمعنا واحد قلم زائد واحد متر فإن النتيجة تبقى على حالها أي واحد قلم زائد واحد متر دون أن تتحول إلى اثنين أبداً، وضاق بعض المدرسين بأفكاري غير المعروفة لديهم وبمجادلاتي غير المألوفة لديهم فأبلغوا إدارة المدرسة التي رفعت البلاغ إلى المديرية المركزية ومنها إلى القيادة البيروقراطية العليا لتقوم من جانبها باستشارة الجهات السيادية، وسرعان ما بدأت التحركات المضادة بهدف "مكافحتي" على عدة مراحل متتالية ومحورين متوازيين أحدهما فوري ومباشر لمنع مجادلاتي والآخر تدريجي وغير مباشر لتغيير افكاري مع الاستعداد لتصعيد عمليات "المكافحة" إذا استمر إصراري على التفكير والمجادلة، وبينما اقتصرت المرحلة الأولى للمكافحة على تكثيف جرعات النصائح والتوجيه المعنوي حول مكارم الصمت الذي هو من ذهب مع استدعاء أولياء أمري لتهديدهم إذا لم يلزموني الصمت بمعرفتهم، فإن المرحلة الثانية شملت معاقبتي جسدياً عبر ضربي وإهانتي وتمزيق كتبي وأوراقي من قبل بعض المدرسين والتلاميذ الموالين للإدارة بهدف كسر عيني، في حين تم تخصيص المرحلة الثالثة لعرضي على شيخ يُسمعني آيات قرآنية ثم قس يلقي على رأسي ماء سابق التجهيز ثم دجال ينفخ أدخنته السوداء وهو يقرأ تعاويذه السحرية، أما المرحلة الرابعة فقد تضمنت مثولي أمام لجنة ثلاثية من دكاترة الطب النفسي الوافدين من وزارة الصحة للاستعلام والاستطلاع ثم أمام طاقم ثلاثي من مباحث أمن الدولة والمخابرات العامة والاستخبارات العسكرية للاشتباك مع مصادر معلوماتي وأفكاري وللسيطرة على من يحرضونني، وانتهى الأمر بنقل الناظر وبعض المدرسين محل الاشتباه في مسئوليتهم عن استفحال حالتي بعدم إبلاغهم الفوري للجهات السيادية وتسليم قيادة المدرسة إلى زملائهم الذين قاموا بالإبلاغ مع التنبيه عليهم بضرورة استمرارهم في عمليات مكافحة الأفكار "الهدامة"، وتم إدراجي ضمن قوائم "الأشواك المحتملة" لجهازي مباحث أمن الدولة والاستخبارات العسكرية بما ترتب على ذلك من وضعي تحت مراقبة وملاحقة واستهداف الجهازين بصفة دائمة، مع المتابعة اللصيقة من قبل جهاز المخابرات العامة لاستغلالي عند الحاجة بشكل نفعي الأمر الذي حدث لاحقاً لفترة زمنية محدودة استشارني خلالها الجهاز فيما كانت تعجز عنه القوالب الجامدة والصناديق المغلقة قبل تراجعه واعتذاره لي تحت الضغط المتواصل للجهازين الآخرين، وإذا كانت عمليات المكافحة البيروقراطية والأمنية قد عجزت عن إيقاف أفكاري أو منعي من المجادلة بشأنها حتى اليوم، فإنها نجحت عبر ترويع الآخرين في عرقلة تداولها وتقييد التواصل حولها مع هؤلاء الذين ربما كانوا سيفيدونها ويستفيدون منها سواء بالخصم أو الإضافة وسواء بالاتفاق أو الاختلاف، لتغيب فرص التمكين للأصلح من أجل ضمان استمرار القوالب الجامدة والصناديق المغلقة التي تدفع بوطننا الغالي مصر نحو المزيد من القاع البائس لأدنى حضيض التاريخ والجغرافيا!!.
طارق المهدوي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيلين ديون تكشف عن صراعها من أجل الحياة في وثائقي مؤثر


.. -هراء عبثي-.. شاهد رد فعل مؤرخ أمريكي على الديمقراطيين الذين




.. نيويورك تايمز: تجاهل البيت الأبيض لعمر الرئيس بايدن أثار الج


.. انتخابات الرئاسة الإيرانية.. مسعود بزشكيان




.. بزشكيان يحصل على 42 % من أصوات الناخبين بينما حصل جليلي على