الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة جديدة في فيلم مالينا

عبد الكريم بدرخان

2015 / 11 / 19
الادب والفن


نشأت الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، وكانت بمثابة مرآة عاكسة للحراك السياسي- الاجتماعي المناهض لحكم الديكتاتور موسوليني. أوّل أفلام الواقعية الإيطالية كان فيلم (Ossessione) للمخرج لوتشينو فيسكونتي عام 1943، أما أهمّ أعلام هذه المدرسة فهو المخرج الكبير فيدريكو فيلليني.
الواقعية في السينما لا تعرف الكذب أو النفاق، فهي تصوّر الواقع بكلّ تناقضاته الحلوة والمرّة. وفي بداية التسعينات، نشأ جيلٌ جديد من المخرجين الإيطاليين، ساهمَ في إعادة إحياء السينما الواقعية الإيطالية، وإعطائها حضوراً عالمياً مميزاً، ويعتبرُ جوزيبي تورناتوري، مخرج فيلم “مالينا” (Malena)، من أبرز أعلام هذا الجيل.
عُرض فيلم “مالينا” على شاشات السينما عام 2000، وهو من سيناريو وإخراج جوزيبي تورناتوري، مُقتبِساً السيناريو من قصةٍ للكاتب لوتيشانو فينتشينزوني، والفيلم من بطولة مونيكا بيلوتشي (مالينا) وجوزيبي سولفارو (ريناتو).large_dBZsjCiaUCItqbvnrWClLTDufBW


شخصية “مالينا” بين الأنماط الأوليّة:
------------------------------------
في فيلم “مالينا” انطلقت الممثلة الإيطالية مونيكا بيلوتشي من المحليّة إلى العالمية، إذ استطاعتْ تجسيد نمطين متناقضين في امرأة واحدة. وبالعودة إلى حفريّات كارل غوستاف يونغ في اللاوعي الجمعي، ونظريته في الأنماط الأولية (Archetypes)، وبالعودة إلى تطبيقات النظرية اليونغية على الأدب عند نورثروب فراي، نجد أنّ شخصيّة مالينا قد جمعتْ بين نمطين أوّليين متناقضين: نمط بينلوب في الأوديسة، ونمط هيلين في الإلياذة. وكلاهما نمطان للمرأة في زمن الحرب، أي في ظلّ ظروف سياسية واجتماعية استثنائية.

في النصف الأول من الفيلم، تجسّد مالينا نمط بينلوب، الزوجة الوفية المخلصة التي تنتظر زوجها البطل (أوديس- نينو) ريثما يعود من الحرب، وتردُّ جميعَ خاطبيها من الأثرياء والنبلاء وفاءً له. وبما أنّ الفضاء المكاني للفيلم هو جزيرة صقلية، وبما أنّ الزوج المحارب في شمال إفريقيا سوف يعود إلى البيت عن طريق البحر، أكملَ المخرجُ تورناتوري إضفاءَ ملامحَ بينلوب على شخصية مالينا، فصوَّرها بشَعرها الأسود الفاحم الطويل، جالسةً خلف آلة الخياطة، في مشهدٍ يتقاطعُ مع اللوحات التشكيلية التي صوّرتْ بينلوب. ومع أن أحداث الفيلم تدور في صقلية، إلّا أنّ المكانَ الغائب (البحر وشمال إفريقيا) كان فاعلاً ومؤثراً في أحداث ومجريات المكان الحاضر (صقلية)، فالبحر قد يُعيدُ إليها زوجها وقد لا يُعيده، وشمال إفريقيا قد تأتي بخبر النصر في الحرب أو الهزيمة.

حينما وصل خبرُ مقتل زوج مالينا في الحرب، فقدَ نمطُ بينلوب أهمَّ أركانه، وهو الوفاء للزوج الغائب، وهنا بدأتْ مالينا بالاستعداد للخروج من النمط القديم، والانتقال التدريجي إلى النمط الجديد. بدايةً قصّتْ شَعرها الأسود الطويل الذي ربّـته في غياب زوجها (يرتبط طول الشعر بطول مدة الانتظار). ثمّ صبغتْ شعرها باللون الأحمر، لون الحبّ والجنس والإثارة. وبعدها بدأتْ بارتداء الملابس المثيرة، واضعةً أحمرَ الشفاه القاني كصرخةٍ لجذب الرجال، مشهرةً سيجارتها أمام سكّان البلدة، كرمزٍ ذكوريّ تتحدّى به الرجال.

عند قيام الدوتشي موسوليني بتسليم البلدة إلى النازيين الألمان، أصبح السكانُ تحت حكم جيش أجنبي، وأصبحتْ الظروف مناسبة لدخول مالينا في نمط هيلين، أي الزوجة الخائنة التي تتبع نزواتها ورغباتها، وتهرب مع الفارس الأجنبي (باريس- الضابط الألماني) ولو كلّف ذلك حرباً لسنوات. أعلنتْ مالينا دخولها في نمط هيلين منذ اللحظة التي صبغتْ فيها شعرها باللون الأشقر، تماهياً مع الصورة النمطية لهيلين في الفن التشكيلي، لتصبح مالينا المرأة الأجمل في العالم والأكثر إثارةً وجنوناً.


تحوّلات نظرة المجتمع إلى الجمال:
----------------------------------
معظم المشاهد في فيلم “مالينا” كانت مشاهد تصوير خارجي، أي أنّ المخرج يرصد ظواهر اجتماعية ويؤرّخ لمرحلةٍ زمنية. ولو غلبتْ مشاهد التصوير الداخلي، لكان بإمكاننا القولُ إن الفيلم معنيٌّ بمالينا وحدها، وبحالة سيكولوجية فردية.
يرصد المخرج تورناتوري تحوّلات نظرة المجتمع إلى الجمال، وفقاً لتغيُّر الظروف السياسية، وما يتبعها من تغيّراتٍ في الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويقدّم الفيلمُ ثلاثة تحوّلات في النظرة الجمالية:almastba.com_1387753474_230

– المرحلة الأولى ــ الاستبداد:

في زمن الحكم الاستبدادي الفاشي، يكون الإنسان مقموعاً ومقهوراً إلى درجةٍ لا يستطيع فيها أنْ يتحسّس الجمال أو يتقبّله، ويصبح الجمال ظاهرةً مرفوضةً في المجتمع ذي القمصان السوداء. ويعيش المجتمع حالةً فصاميةً في نظرته إلى الجمال، فنراه يشتُمه وينبذُهُ ويسحقهُ نهاراً، ثم يقدِّرُه ويشتهيه ويسقطُ أمامَه ليلاً.

وتبدأ محاولاتُ إقصاء الجمال وجودياً، بإجبار والد مالينا على الاستقالة من المدرسة، وامتناع رجال البلدة عن قبولها في أيّ وظيفة، خوفاً من زوجاتهم، وبقيام نساء البلدة ببيعها الأطعمة الفاسدة. كلُّ ذلك بالتوازي مع إقصاء الجمال معرفياً، وتصويره كلعنةٍ شيطانية هدفُها سرقةُ الأزواج من زوجاتهم، ووسْـمِهِ بالكذب والنفاق والعهر.

– المرحلة الثانية ــ الحرب:

بعد وصول الحرب إلى البلدة، وتسليمها إلى الجيش الألماني. تُجبر الظروفُ السياسية والاقتصادية والاجتماعية مالينا على العمل في مهنة الدعارة، وهنا يحقّقُ المجتمعُ حلمه بتحويل الجمال إلى عهر، دون أنْ نُغفل الدلالاتِ الجنسانية لتسليم الأرض، وما تحملُه من معنى تسليم الجسد.

وعند خروج الألمان من البلدة، تقوم النساء بسحلِ مالينا في الساحة العامة، وضربها بالأحذية، حتى تتمزقْ ثيابُها ويدمى جسدُها. وحين تقف مالينا ممزقةَ الثياب مضرّجةً بالدماء، لا تصرخ في وجوه النساء اللواتي ضربْـنَـها، بل في وجوه رجال البلدة، وكأنها تقول لهم: “أنتم مَنْ جعلتموني عاهرةً، فكيف تصمتون على معاقبتي وحيدةً؟!”. ففي زمن الحرب البشعة، يقوم المجتمع بتحويل الجمال إلى عُهر، ثم يعاقبه على هذا العهر، الذي هو عهر المجتمع نفسه.

– المرحلة الثالثة ــ السلم:

تعود مالينا إلى البلدة برفقة زوجها الذي عاد حيّاً من الحرب، وبالرغم من ازدياد وزنها وظهور التجاعيد حول عينيها، إلّا أنها ما زالتْ رمزاً للجمال. وهنا يبدأ المجتمع بالاعتذار من الجمال على كلِّ ما فعله بحقه في مرحلتي الاستبداد والحرب، وتبدأ النساء اللواتي سَحلْنَ مالينا بالتودُّد إليها بشكلٍ مبالغٍ فيه، وكأنّ المبالغة بالاعتذار وباللطافة اعترافٌ بقدسيّة الجمال الذي قاوم كلَّ الظروف. وبالتالي يعود الجمالُ قيمةً عليا في زمن السلم.


إضاءة على شخصية “ريناتو”:
------------------------------
صحيحٌ أنّ شخصية “مالينا” تطغى على مجريات الفيلم بمعظمه، إلّا أنّ شخصية الفتى “ريناتو” تمثّل محورَ التجاوُز في ثقافة المجتمع المركزية، فالشاب المتعبّد في محراب الجمال منذ يفاعته، لم يسمحْ له المجتمع المستبدّ أنْ يُبدي موقفاً متعاطفاً مع الجمال، أو أنْ يدافع عنه، أو أنْ يبوح بمكنوناته أمامه. وهكذا تشّكلتْ عقدته النفسية من الصراع بين الجمال والاستبداد، وتعمّقتْ في فترة الحرب، ولم يستطع التخلّص منها إلّا في فترة السلم، أي فترة تصالُح المجتمع مع الجمال، وهنا يتحدّث “ريناتو” مع “مالينا” للمرّة الأولى في حياته، مُتخلّصاً من عقدته السابقة، وبادئـاً – من هذه الفترة – علاقةَ حبّ مع فتاة من جيله. فالمجتمع المستبدّ المعادي للجمال، يُنجب أبناءً مشوّهين نفسياً وعاطفياً، ولا بدّ من إعلاء قيمة الجمال، ليعيش “ريناتو” ورفاقه حياةً سليمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟