الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الضحك ممنوع

ناهدة جابر جاسم
(Nahda Jaber Jassem)

2015 / 11 / 19
الادب والفن


الضحك ممنوع
الضحك؟ هل يتهم بالضحك؟ أقصد الضحك الحقيقي الذي يتجاوز المزاح والسخرية والسخافة. الضحك باعتباره متعة عظيمة وعارمة بل كل المتعة.
كنت مولعة  باللعبة الضحك. ومنذ طفولتي وأبي يميزني من دون أخواتي الأربع من ضحكتي. حينما أضحك أشعر أنني املك الأرض بسمائها وبحارها وكائناتها . أذكر مرة كنت مع بنات جيراني جالسات على سطح دارنا قرب برج طيور أبي وتنور أمي. الجدار المطل على الشارع والذي يحتوي على فتحات اكثر من عشر . ولأنني لم يكن لي اخا أكبر مني فأهل بنات جيراني كانوا مطمئنين. لا حب ولا عشق ولا خزعبلات. لا خوف على بناتهم . بيتنا كانَ عش نثايا. بنات جيراني من عوائل كادحة ،أحداهنَ كانت أسمها سعدية. أبوها حارس ليلي وأمها بائعة خضرة في السوق. سعدية كانت تجيد النكته والتمثيل. مثلت لنا مشهدا لإسماعيل ياسين الممثل المصري والكوميدي الشهير. مثلت مشهد من فيلم /اسماعيل ياسين في الجيش/مشهد اصطحاب العسكري لياسين الى الحمام. طلبت مني ان اجلب لها فانيلة وسروالا داخليا من ملابس أبي. ارتدتهم كما عملت مكياجا مستخدمة قطعة من الفحم لتكبير شفايفها وواضعة قطعة اسفنجية بين الشفة السفلى والاسنان…وبدأت تصيح( ألحوني ياناس حينظفوني… صرخ به العسكري اسكت وادخل الحمام…أصلي انا عمري مادخلتش الحمام/ هي تمثل ونحن غارقات في الضحك والسعادة المطلقة ببراءة المشاعر التي تجمعنا.
حينما زرت العراق في نهاية عام 2003 وبعد فراق دام اكثر من اربع وعشرين عام سألت عنها وصديقات طفولتي. جعلتني اخبارها اترمد حزنا وأبكي بصمت على مصيرها الدرامي. اخبرتني أمي أن سعدية وزوجها اعدما في انتفاضة 1991 تاركين سبعة اطفال منهما اثنين معوقين، وجريمتها كانت توزع طعاما وماءا للمنتفضين.
* * *
كانت ضحكتي صاخبة، فريدة النبرة تبدأ خفيفة ثم تتصاعد بسرعة هائلة لتبلغ ذروتها فأكاد أتلاشى فرط البهجة.
كان الوقت غروباً والشمس تنحدر نحو حضن الفرات حينما سمعتُ أبي يسأل أمي حال عودته من العمل:
- وين نهودة
أجابته امي:
- على السطح مع أخواتها وبنات الجيران
ناداني بعلو صوته:
بويه نهوده أش لون ضحكة ترد القلب بس لو تنصيها، عالية وتوصل لرأس الشارع.
أجبته بضحكة أعلى وقلت:
- عرفت ضحكتي بويه كلنا كنا نضحك
كنتُ أراه من حافة سياج السطح المشرف على باحة البيت الداخلية، أجابني ضاحكاً
- بويه حبيبتي أكدر أميز ضحكتك من بين العشرات
كان مبتهجا يرفع ناظريه نحوي وأنا أعاود ضحكي بكل القلب
* * *
لم أكن أضحك ضحكتي المميزة على ما ترويه زميلاتي وجاراتي من نكات وطرائف فحسب، بل كنت أحاول خلق الضحك خلقاً. فكنت أقترح على صديقاتي المقربات في المدرسة إقامة حلقة ضحك، فننزوي في طرف الساحة البعيد لصق جدار المدرسة العالي المظاهر لمحلة أهل الشط وهم قوم هاجروا من الكوت بعد أن جف نهر قريتهم، ولبناية رعاية الأيتام. وأقول لهن لنبدأ. فتضحك واحدة منا ضحكة مصطنعة فتقلدها الجالسة بجانبها ثم الأخرى وتدور الحلقة. نضحك ونضحك حتى يحلّ الضحك الحقيقي فيجرفنا بسيله فتضج الساحة بضحكاتنا حتى أن التلميذات يتجمعن حولنا ينظرن بدهشة أول الأمر ثم سرعان ما يجرفنَّ منحدر الضحك العاصف فيبدو منظرنا طريفاً وكأننا في مهرجان ضحك. ضحكات تنطلق من القلب متدافعة متزاحمة صاخبة عنيفة كعنفوان صبانا وأحلامنا بالحرية والمساواة في مدينة فاضلة.
* * *
في الاربع سنوات الاخيرة قبل التحاقي بصفوف الانصار الشيوعين خفتت ضحكتي وصارت نادرة القدوم وأنا أخوض غمار العمل السري مجازفة في فقد كل شيء أبني وظيفتي أهلي حتى أنني نسيت خفة دمي والطرق التي أتفنن بها كي أجلب الضحك لي وللقريبين مني. وحينما يأتي أحيانا بغتة، فأضحك بصخب أقطعها متخيلةً لحظة القبض عليّ. تفاقم وضعي حتى أن الضحك مات حينما سمعتُ بإلقاء القبض على رفيقي -جميل مكط- الذي كان حلقة الوصل بين التنظيم الذي أقوده وتنظيمهم الذي أنكشف. صرت أتوقع القبض علي في أية لحظة، وكذلك زوجي الجندي في جبهة البصرة. وحينما نجحنا في الوصول إلى الثوار وحللنا في فصيل المكتب السياسي وشعرت بالأمان وسط رفاقي وقرب رفيق عمري انطلقت روحي الحبيسة وعادت ضحكتي مجلجلة أكثر صخباً وعنفاً.
كنت أظن أنني تخلصت من ضغط هاجس الاعتقال والقيم والأعراف الاجتماعية القاسية، وحولي مجتمع مثالي، مثقفين مؤمنين بفكر واحد يبغي تحرر الإنسان و المرأة. فكنت أضحك من القلب على نكات الرفاق وقصص الأنصار ومفارقات الحياة.
لكن في اجتماع حزبي وكنا نجلس خمسة رفيقات ورفاق فاجأني مسئول الخلية رفيقي "أبو الجاسم" في أخر فقرة في الاجتماع يعني بالمتفرقات:
- رفيقة بهار عليك شكوى من رفيق
استغربت. لم أفعل أي شيء. وفي لحظات فكرت في مسار يومي. فلم أجد أي فعلٍ يستدعي من احدٍ شكواي. انتظرت كي يكمل لاستبين الأمر. كان يتلكأ في القول وجعل يتلفت إلى عمق الوادي. كنا نجلس بعيدا عن بنايات الفصيل على صخور مرتبة كالمقاعد محاطين بسفحي جبل متين الشاهقين، ويصلنا ضجيج مجرى نهر "الزاب" الهادر في عمق الوادي.
لزمت الصمت أنتظر. حرك يديه ونطق متعثراً:
- رفيق "علي" يقول تكلموا معها كي تخفف من ضحكتها التي تثير الرفاق.
رددت على الفور:
- معقولة هذا الكلام رفيق.. معقولة!.
نهضت مغادرة الاجتماع وأنا أغلي غضباً على كل مَن حولي
أسكبت الدمع غزيراً وبصمت
-;-وشعرت الكون يتمادى في الغياب
-;-حزناً على دفن رنات وبهجة ضحكتي
-;- ووجه أبي وزوجي المستغرقين بالضحك كلما انفجرت بضحكي
سأصبح وجلة في السنوات القادمة. احبس ضحكتي إلى أن تشردنا في دول الجوار فرجعت إلي بكل زخم صخبها بعد أن تحررت من الجو الحزبي وعلاقاته الخانقة.
عاشقة للضحك منذ طفولتي وصباي وشبابي ….ضحكتي التي كان يميزها أبي لخصوصصيتها! ضحكتي يعني هويتي كأنثى وكاناهدة!!!!!!
- بقيت ضحكتي وكأن ابي يهمس  ويقول لي بوية نهودة اضحكي. انا وانت لانملك سوى الضحك على الدنيا والساسة العار!
أضحك يا ابنتي  وأبقي على فطرتك.
 إنت  أن  ظللت على فطرتك ساتجدي  المتعة في كل أفعالك من أكل وشرب ولمس وسمع بل حتى في مجرد وجودك.
تشرين الثاني 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل