الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقاومة وتروتسكي وقطار برت لانكستر

كمال سبتي

2005 / 11 / 1
الادب والفن


قلت مرة إنني غشيم منفى وغشيم حياة وأقول هذه المرة إنني غشيم سياسة.
ومواقفي السياسية غير المحنكة قطعاً والخاسرة كلَّ أحد هي فخري في هذه الحياة وهي بأجمعها تشكل روحاً من موقفي الشعري الذي يقود حياتي.
ولقد كان من ينتظر مني بسبب هذه المواقف التي وقفتها ضد حرب أميريكا الأولى وضد حصارها وضد حربها الثانية وضد احتلالها وضد أحزابها العراقية أن أقف مع المقاومة.
لكنني قلت لا للمقاومة..وأنا أتحقق من خطابها الطائفيّ والعشائريّ كلّ حين. خطابها الذي لا يحنو على طفل عراقيٍّ في عز حرّ بغداد بكأس ماء بارد ، بل يسعى إلى أن يكون باعثاً على فعل العكس تماماً: ضرْبِ منشآت الماء والكهرباء مثلاً.
وحين بدأت انتفاضة جيش المهديّ العامَ الماضي تمنيتُ في مقالي "كلمات إلى مقتدى الصدر" أن يُلقى السلاحُ فتنعدمَ خسائرنا في الشبان جرّاءَها ، وكتبتُ في المقال ذاته:
"ها أنا مبتعد عن حفلةِ البذخ الأميريكيّ في تعيين الخدم ، ومنتظر أن يتحقق مشروع سلميّ للديمقراطية في بلادنا فأعودَ إليها نهائياً.."
فانقطع وزراءُ في الإدارة العراقية وقتَها عن مراسلتي بسبب تعبير "تعيين الخدم"! وقلت للمقاومين الآخرين إنكم إرهابيون وطائفيون..فشتمتني مواقع عديدة منها التي ينشر فيها أبو مصعب الزرقاوي خطبه وبياناته وأفلامه وسمَّتني ، من بين تسميات عديدة ، ابنَ علقميٍّ وببغاء صهيونياً.
فخر ألا أكون مع أحد من هؤلاء.
وفخر أن أسعى إلى أن أموت فقيراً.
***
ينتمي المثقف عادة إلى معنى مقاومة تَكوَّنَ في وعيه من تراكم قراءات.
معنى هو اصطلاحيّ ابتداءً وقد لا يكون واقعيّاً.
لنسألْ :
من الذي تصيد التكنوقراط أساتذةَ كليات وأطباءَ ومهندسين وعلماء آخرين واحداً واحداً ؟
ومن الذي ترجَّل من سيارته وفتح النار على أناس أبرياء كانوا يشترون الخبز ؟
ومن الذي قتل معلمي مدرسة أطفال ؟
ومن جاء بعابري حدودٍ وفخخهم ليفجروا تجمعاتٍ احتفاليةً في ساحات مدنٍ روحية ، أو جامعاً صغيراً أمَّه متعبدون ، أو باصاً تجمَّعَ فيه فقراء باحثون عن عمل ذات صباحٍ كاظميٍّ مخدوعين من سائقه بنقلهم إلى رزق شريف..إلخ ؟
ومَن ؟ ومَن ؟ ومَن ؟..
الذي يستطيع أن يفصل بين المسؤول عن هذه الأفعال وبين المسؤول عن أفعال مقاومة أخرى هو ذو قدرة ذهنية لا أمتلكها.
أنا صَعُبَ الفصلُ عليَّ فلم استطعه..للأسف الشديد.
***
ممكن لي أن أؤجج المقاومة بشعري ومقالاتي وأنا جالس "= مختفياً" في الجنوب الهولنديّ فلا أخسر العرب وأنا شاعر عربيّ من العراق مضروب عليه وعلى شعره حصار عربي أصلاً لأسباب عديدة..مكانُها آخَرُ في التأوه والسجال.
ولكن ماذا عن الموقف الشعري ؟
ماذا عن الضمير؟
إلى من أنتمي أنا أولاً ؟
إلى ضميري أم إلى معنى اصطلاحيٍّ عن المقاومة ؟
***
يطيب لمختلِفٍ معي في "المقاومة" من العراقيين أن يذكّرني بـ"تروتسكي"يتي لمجرد أنني تذكرت تروتسكي أيام مناسبة اغتياله في آب الماضي وأعدت اشتغال قصيدة لي عنه وفاءً له كونه كان أحدَ آبائي الروحيين أيام شبابي..وألقيت عنه محاضرة أيضاً في جمع من الأصدقاء الأدباء والفنانين العراقيين في البالتوك.
طيب ، سأقدم لكم مثالاً آخَرَ من الحبيب الروحيّ تروتسكي الذي كان يتفقد جيشه الأحمر في جبهات القتال : "وفي أوج أعمال القتال ، أصدر قراراً علنياً يحظر مجلة هيأة الأركان العامة "فينوي ديلو: القضايا العسكرية" التي استخدمتْ في مقال نُشِرَ فيها حول بيلسودسكي تعابيرَ تهين الكرامة القومية للشعب البولوني.كما أنه خطب في حشود الجنود على الجبهة قائلاً إنه حتى العدو لا ينبغي ثلبه وتشنيعه. ومنعَ منعاً باتاً ممارسة أية أعمال انتقامية ضد الأسرى البولونيين "*
حتى العدو لا ينبغي ثلبه وتشنيعه ، يقول تروتسكي. ولمن ؟ لجنوده في الجيش الأحمر ، وأين؟ في الجبهة!
أيعرف من يغمزني بتروتسكي كلَّ هذا ؟
أيعرف أنه قال هذا وفعل هذا في وقت كان قتل فيه المقاتلون البولونيون كما يعرف قارئو تاريخ ثورة أكتوبر أسرى من الجيش الأحمر؟
أثمة من يفعل مثل هذا في عالمنا ؟
كم مليوناً أو ملياراً من الدولارات تخسر الدولة.."أية دولة" في إعلامها المعادي ضد العدو أو من أجل صنع عدو؟
ماذا قال القادة الأميريكان والإنجليز والفرنسيون عن الألمان؟
وماذا قال الألمان عنهم؟
ماذا يقول القادة السياسيون والعسكريون العرب عن الإسرائيليين ؟ يهود أنجاس. وماذا قال ذلك الضابط الإسرائيلي عن الفلسطينيين في بيروت عام 1982 ؟ إنهم حشرات ضارة.
وماذا قال الإعلام العراقي عن إيران في الحرب ؟ فرس مجوس.
وماذا قال الإعلام الإيراني عن أفراد الجيش العراقي : كفرة وملحدون.
لا معنى إذن لكي أُغمَزَ بتروتسكي فهو مثالٌ مضادّ لخطابِ مقاومةٍ طائفيٍّ وعشائريّ.
***
ويطيب لمختلف معي في المقاومة من العراقيين أن يقول -بعد أن أوردتُ مثالَ رواية فيركور "صمت البحر" في مقال سابق لأعزز حيرة أسئلتي إزاء المقاومة العراقية- : إنني أرضى بالمقاومة فرنسيةً وأرفضها عراقيةً.
طيب ، إليكم الآن مثالاً آخر.
كان أصدقائي في بغداد سمعوني في السبعينيات أتكلم عن فيلم القطار (1964) إخراج: جون فرانكهيمر، وتمثيل برت لانكستر. وكنت درسته في مادة تاريخ السينما كما حضرت عرضه أكثر من مرة.
والفيلم باختصار شديد :
جنرال ألماني من قيادة منطقة باريس ، كان يحب الفن التشكيليّ فيقرر بعد أن يتأكد من أنهم سيخسرون فرنسا أن ينقل محتويات المتحف الفني الوطني الفرنسي إلى ألمانيا.
مديرة المتحف امرأة فرنسية لا تستطيع إيقافه وليست لها دولة تستطيع إيقافه ، فتَجِدُّ في طلب رجال المقاومة السرية وبعد بحث مضنيّ تصل إلى قائد فيها هو العامل البسيط "برت لانكستر" الذي لا يفقه شيئاً في الفن التشكيلي فيقول لها : أتريدينني أن أخسر رجالي من أجل لوحات من خشب وقماش ؟ تقول له مديرة المتحف : لكنها شرف فرنسا. فيتأثر عاطفياً بجملة مديرة المتحف ويقرر إيقاف قطار الجنرال الألماني ناقل محتويات المتحف الباريسيّ إلى برلين.
تقوم المقاومة بالسيطرة على غرفة قيادة القطار حتى تقوده بدلاً من الألمان "يصبح برت لانكستر سائقَ القطار" وتقوم مجموعة أخرى بتغيير أسماء المحطات الفرنسية إلى أسماء ألمانية كل مرة قبل أن يصلها القطار ، فيظل القطار يدور داخل الأرض الفرنسية بينما الجنرال وجنوده يظنون أنه يسير إلى برلين بعد كل محطة.
في ما بعد يوقف المقاومون القطارَ إثرَ انتصارهم على الجنود الألمان فيه وسيطرتهم التامة عليه ويستعيدون محتويات الفن التشكيليّ الساقطة منها على الأرض خارج القطار المتوقف لوحاتُ مانييه وغوغان وسيزان وبيكاسو وغيرهم وحيث يقف الجنرال الألماني وسائق القطار وجهاً لوجه في مواجهة دراماتيكية.يقول الجنرال للسائق إنك لا تفهم هؤلاء.يسكت السائق بعد نظرات حيرة إلى اللوحات ويطلق النار على الجنرال.
ذِكْرُ هذا المثال وحده يمنعني من إسهابِ تعليقٍ عليه.
أحسب أن ثمة فرقاً بين مقاومة تخسر رجالاً من أجل استعادة لوحات مسروقة من متحفها الوطني وبين أخرى تفعل العكس تماماً..
***
لو أن خطابَ مقاومة تبنى موقفاً روحيّاً يشبه أحد الموقفين المذكورين..أثمة من جهر برفضه إياه بدون أن يُلام ؟
***


* من دويتشر في "النبي المسلح".

هولندا
30-10-2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الموزع الموسيقى أسامة الهندى: فخور بتعاونى مع الهضبة في 60 أ


.. الفنان محمد التاجى يتعرض لأزمة صحية ما القصة؟




.. موريتانيا.. جدل حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البلا


.. جدل في موريتانيا حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البل




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -عالماشي- في العرض الخاص بالفيل