الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافتنا المعاصرة ووظائفها المُعطَلة

السيد نصر الدين السيد

2015 / 11 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


"الثقافة" مفهوم معقد تتعدد تعريفاته بتعدد الخلفيات العلمية لمن يتعامل معه. ولتبسيط الأمور سننظر للثقافة كجبل جليدي له جزء ظاهر يراه الناظرون وجزء غير ظاهر تخفيه عن الأنظار طبقات المياه. ويتضمن الجزء الظاهر لمنظومة الثقافة كافة الشواهد المرئية لثقافة المجتمع سواء تبدت على هيئة "أنماط سلوكية" مثل العادات والعلاقات العائلية، أو على هيئة "منتجات ثقافية" أيا كان شكلها، أدبية أو فنية أو علمية أو تكنولوجية، بدءا من اللغة المستخدمة في الحياة اليومية وإنتهاءا بالدين ومرورا بالطرز المعمارية السائدة. أما الجزء غير الظاهر للثقافة فيتكون من طبقتين: طبقة "منظومة القيم" وطبقة "الرؤية الكلية" Worldview. وتتكون طبقة "منظومة القيم" من تلك المعايير والأحكام التي يتبناها المجتمع وتحدد لأفراده ما ينبغي أن يكون أو بعبارة أخرى السلوك القويم الذي يتوقعه المجتمع منهم. أما طبقة "الرؤية الكلية"، أعمق طبقات منظومة الثقافة، فتتكون من مجموعة متسقة من الفروض والمسَلمات التي تمثل مجتمعة "إطارا مفهوميا" Conceptual Framework يستخدمه أفراد المجتمع لفهم ما يدور في واقعهم من أحداث وظواهر ويستعينون به كـ "مرجعية" لتوجيه وتقييم أفعالهم.


وتلعب الثقافة، بمكوناتها الثلاثة، "الأنماط السلوكية والمنتجات الثقافية" و"منظومة القيم" و"الرؤية الكلية"، أدوارا متعددة ومتشابكة في حياة المجتمعات الإنسانية. وأول هذه الأدوار هو دور "الذاكرة الحافظة" لحصيلة ما مر به المجتمع من خبرات وتجارب عبر تاريخه. وهي الخبرات والتجارب التي يختزنها المجتمع فيما يتبناه من أنماط السلوكية وفى منتجاته الثقافية بشتى صورها وفى منظومة القيم المتبناة. وثاني هذه الادوار هو دور "الآلية الضابطة" لإيقاع حركة مجتمعها عبر منظومة قيمها التي تحدد لأفراده التصرفات المقبولة التي يتوقعها المجتمع منهم وعبر ما تقرره من أنماط السلوك المرغوبة منهم. وهي ايضا المحافظة على تماسكه بما تنشئه من تفسيرات ومعاني متفق عليها لما يستخدمه أفراد المجتمع من رموز وعلامات. وهي في النهاية تقوم بدور "الأداة الذهنية" التي يستخدمها المجتمع لفهم أحواله ولتفسير ما يدور حوله من أمور مستخدما في ذلك ما تتضمنه "رؤيتها الكلية" من فروض ومسلمات. لذا يمكن النظر للثقافة، ككل، بوصفها وسيلة المجتمع لتحديد مساره وردود افعاله في زمنه الآني ولتلمس طريقه في زمنه الآتي.

ويعاني دور ثقافتنا كـ "ذاكرة حافظة" من العديد من الأعراض المرضية. وأول هذه الأعراض هو عدم الاهتمام الكافي بالحفاظ على المنتجات الثقافية التي أنتجها المجتمع المصري عبر تاريخه الطويل سواء تمثلت هذه المنتجات في طريقة لتلاوة القرآن أو في أفلام سنيمائية أو في مأثورات شعبية أو في مباني أثرية. وينعكس هذا على تدنى وعى أفراد المجتمع المصري بأهمية هذه المنتجات فيصبح التفريط فيها وتشويهها أمرا معتادا لا يثير الاحتجاج. ولعله من غرائب الأمور في هذا السياق هو تدنى الوعي بأهمية التاريخ المنتشر بين أفراد أول أمة ظهرت في تاريخ الإنسان

أما العرض المرضى الثاني فيتعلق بغلبة تيار ثقافة التجزئة واﻹ-;-جتزاء، القطيعة واﻹ-;-نقطاع، على تيار ثقافة الوعي بالتراكم وبعناصر التواصل واﻹ-;-ستمرارية في تاريخنا الطويل. ويتجلى هذا أبرز ما يتجلى في كيفية تعامل المجتمع المصري ومؤسساته مع تاريخنا ككل، البعيد منه والقريب. نرى بعضا من مراحله وقد حجبت أو غيبت عن وعينا، ونرى بعضها الآخر وقد شوهت ملامحه في ضمائر الكثير من أبناء شعبنا. وهكذا فعلنا مع تاريخنا كأمة فتجاهلنا بعضا من حقبه، كالحقبة القبطية، ولم نعطى اﻹ-;-هتمام الكافي لحقب تكوين الأمة المصرية، كالحقب الفرعونية. ولم نكتفي بهذا بل فرضنا على طلابنا استظهار سير أمم أخرى بنت تاريخها على غزو الآخرين ونهب ثرواتهم تحت مسميات مضللة. أما على مستوى تاريخنا القريب فترى العديد منا وهو لا يذكر إلا مثالب العهود المختلفة التي مرت بها الأمة وكأنها كانت قبض ريح لم تضف رصيدا ايجابيا لها هكذا فعلنا مع محمد على والخديوي إسماعيل والخديوي سعيد، ومع سعد زغلول ومصطفى النحاس، ومع جمال عبد الناصر وأنور السادات. ونسينا في غمرة تمزيقنا لتاريخنا واجتزاء ما نراه متماشيا مع الهوى بمعزل عن سياقه الزماني وظروفه الحضارية ... ونسينا أن هذا لابد وأن ينعكس سلبا على أحوالنا أمة وأفرادا، وأن تتبدى أعراضه المرضية على كافة المستويات بدءا من سهولة التأثر بعادات وبقيم غريبة عن صلب تكوين المجتمع المصري وإنتهاءا باﻹ-;-ستهانة والتعامل الفظ مع آثارنا سواء كانت منشآت مقامة، أو كانت مقتنيات تضمها الجدران.

أما اول الأعراض المرضية لثقافتنا كـ "آلية ضابطة"، فتتجلى في "الأنماط السلوكية" السائدة بدءا من أسلوبنا غير المنتظم في الصعود والهبوط من مترو الأنفاق، ودرجة إتقاننا أداء أبسط الأعمال، ومدى احترامنا لعنصر الوقت والتزامنا بدقة المواعيد، وانتهاء بكيفية استغلالنا لما نملكه من موارد طبيعية كانت أو ذهنية. وثاني هذه الاعراض هو ما نشهده من تسيد "ثقافة القول" على "ثقافة العمل" وثقافة رد الفعل" على مقابل "ثقافة الفعل"، وثقافة الترقب" على "ثقافة المبادرة" و"ثقافة السلب" على "ثقافة المبادأة". والعرض الأخير هو ما نطلق عليه عرض "اﻹ-;-نفصام". انه التباعد الشديد بين ثقافة النخبة وثقافة العامة عن أبناء وطننا وهو تباعد يتأكد بغيبة لغة الحوار والتواصل المشتركة بين الثقافتين وأيضا بالطبيعة المتعالية التي تحكم علاقة ثقافة النخبة بثقافة العامة من جهة وبالطبيعة المتجاهلة التي تحكم علاقة ثقافة العامة تجاه ثقافة النخبة من جهة أخرى. ويتجلى هذا الانفصام أيضا في النظرة الفوقية والمتعالية التي تميز موقف "حفاظ" اللغة العربية تجاه لغتنا المصرية الحديثة وتجاه "ملاكها" من عموم المصريين. وهو الموقف الذي يأخذ أشكالا متعددة بدءا من إهمال دراسة صوتياتها وصرفها ونحوها ومرورا بتجنب استخدامها في المناسبات الرسمية وإنتهاءا بحرمان طلاب المرحلة قبل الجامعية من دراسة منتجاتها الأدبية. وهي المنتجات التي من أبرز أمثلتها إنتاج شعرائها الكبار بدءا من بيرم التونسي وابن عروس وإنتهاءا بعبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم ومرورا بصلاح جاهين وفؤاد قاعود. وهم بذلك يخلقون "عالمين لغويين" هما "عالم الفصحى" و"عالم العامية" ليتشتت بينهما فكر وضمير المصريين وتزداد الهوة بين "ثقافة النخبة" و"ثقافة العامة". ويؤدى هذا كله إلى انفصام بين عالم القول (اللغة) وعالم الفعل (الواقع) فنتحول إلى "ظواهر صوتية" تستغنى عن الأفعال بالأقوال.


وتسود ثقافتنا كـ "أداة ذهنية" توجهات عامة من أبرزها غلبة "ثقافة النقل" على "ثقافة العقل"، و"ثقافة اﻹ-;-تباع" على "ثقافة اﻹ-;-بداع". فنرى نصوص المفسرين والشراح، السابقين منهم واللاحقين، وهي تتحول إلى نصوص شبه مقدسة غير قابلة للنقاش وتتحول آراءهم إلى مسلمات. وبهذا ينظر إلى التفكير العقلاني وما يسفر عنه من نتائج على أنها بدع، وكل بدعة هي بالضرورة ضلالة وكل ضلالة في النار. وهكذا تعطل عقل أكثر أفراد المجتمع المصري عن العمل وحلت ثنائية "الفتوى/العمل" محل ثنائية "الفكر/العمل". فأصبح الإنسان المصري لا يقدم على أداء عمل ما إلا بعد "يستفتى" أهل التفسير من الثقاة وغيرهم ...! وغرق المجتمع المصري في طوفان من فتاوى حول مسائل من قبيل حكم خلع ملابس الأنثى أمام كلب ذكر؟ ... هل الموبايل أبو كاميرا وبلوتوث حرام أم حلال؟ ... هل الشات على الإنترنت خلوة شرعية؟ وازداد إنتاج الفتاوى زيادة غير مسبوقة ليصل إلى أكثر من ألف فتوى سنوياً لواحدة فقط من أجهزة إنتاجها وهي دار الإفتاء المصرية. وهكذا ازدهرت "صناعة الفتوى" وتضاءلت "صناعة التفكير".


وأخيرا وليس آخرا غلبة "ثقافة التبسيط المخل والنظرة التجزيئية للأمور" على "ثقافة النظرة الكلية (المنظومية)" Systems Approach. وتتغافل النظرة التجزيئية هذه عن "تعقد" الواقع المتمثلة في تعدد وتنوع وتشابك العناصر المكونة له، ويسفر تبنيها عن رؤى فقيرة وتفسيرات سطحية وأحادية النزعة لما يقع فيه من أحداث، وتؤدى في نهاية المطاف الى رفض قاطع لمفهوم التعددية، عملا وفكرا، ومن ثم إلى تضاؤل إمكانية التعايش المتكافئ والبناء مع الآخر فكرا كان أو أفرادا أو جماعات. وفى ظل تسيد هذه النظرة على عقول أفراد المجتمع المصري بشتى مستويات تعليمهم تزدهر وتشيع "نظرية المؤامرة البارانويدوية" Paranoid Conspiracy Theory (*) كمنهج لتفسير أسباب ما يقع في العالم من أحداث. ويقوم منهج التفسير القائم على مفهوم "نظرية المؤامرة" على مبدأ مفاده أن أي حدث رئيسي لابد وأن يكون وراءه كيان خفي، حكومة أو جماعة أو تنظيم، ذو نوايا خبيثة وحاقدة خطط له وعمل بطريقة سرية وماكرة على وقوعه. ولايأخذ هذا المنهج في اعتباره أي شواهد عملية بل ويتعمد تشويهها وتحريفها لتلائم ما يسعى إليه من تفسير. وهو بالطبع لا يلقى بالا لاستخدام أساليب التفكير العلمي والتحليل المنطقي في تحليل الشواهد. وتتبدى العناصر "البارانويدية" فيما تتبناه من أفكار من قبيل قوى خفية ظلامية ذات قدرات خارقة لها أجندات سرية تسعى لتحقيقها بأي ثمن وبأي أسلوب. ويعتقد أصحاب نظرية المؤامرة اعتقادا راسخا لا يتزعزع في صحة نظريتهم وبأنها فوق النقد وأن من لا يعتنقها هو غافل أو مخدوع على أحسن تقدير.

(*) البارا نويا Paranoia هي مرض نفسي يتسم من يعاني منه من شكوك غير مبررة وغير عقلانية تجاه كل من يتعامل معه ويسيطر عليه الاعتقاد بأنهم يسعون للإضرار به بشكل أو آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصامات الجامعات الأميركية وانعكاسها على الحملات الانتخابية


.. ترامب يكثف جهوده لتجاوز تحديات الانتخابات الرئاسية | #أميركا




.. دمار غزة بكاميرا موظفة في الا?ونروا


.. رئيس مجلس النواب الأمريكي يهدد بإسقاط التا?شيرة الا?مريكية ع




.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور