الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ السري للعقرب / قصة طويلة

محمود يعقوب

2015 / 11 / 24
الادب والفن


التاريخ السرّي للعقرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


( الإنسان طيب قال روسو ، إذن فلنأكله )


قال :
" ليس من السهل أن تكون قاتلا ً . في الأعماق ، يلوح الأمر بالغ التعقيد . البعض يوهم نفسه بأنه بين عشية ٍ وضحاها ، ما أن ينتزع قلبه النابض من مكانه هناك ، ويستبدله بقطعة ٍ من حجر الصوان الأسود .. ما أن يُفرِغ كل ما في ثيابه من حاجياته الشخصية : منديله النظيف ، ومحفظة نقوده ، وسلسلة مفاتيحه ، ليعبأ بدلا ً منها موادَ ناسفة ً ، أنه أصبح قاتلا ً يخافه الداني والقاصي .. الأمور ليست هكذا ، أبدا ً ، إنها أصعب وأصعب من ذلك بكثير ..
يولد القاتل ميتا ً ، ثم يعيش قليلا ً لأجل أن يموت . إنه يعوم في بحر الظلمات ، يصارع لجج الموج المجنون كالقرصان الغادر ، مترنحا ً ، منهوك القوى ، ومعصوب العين . يندفع بوجه الريح ، وفوق رأسه ترفرف رايته المهلهلة السوداء .. الراية التي رُسِمت فوقها ، بقرف ٍ ونفور، جمجمة تبسّم الموت في تجاويفها ابتسامة ً منخورة ً .. ابتسامة ًمنذرة ومتحدية ، يند منها خيط رائحة ٍ نكراء ، متلاشية .. رائحة تجعل الرفيف وحشيا ً ..
كم من الأوقات تقاذفه بركان الموج ، وطواه بين جوانحه المعربدة ، وقـَبَرَه بعيدا ً حتى لامس الأعماق المميتة . لكنه سرعان ما يصعد من القعر مندفعا ً ، كاسرا ً ، مثل سمكة قرش خطرة . مكشّرا ً عن أنياب ٍ مخيفة ً تقطر ُ دما ً ، وقاضما ً كلَ شيء يصادفه . يخترق الموج نحو السواحل الوادعة ، الآمنة ، وزعانفه الدكناء تشق الماء كالسيف ، ثم لا يلبث أن يلوح بكامل جسده أمام الأنظار يتقلب ، خطرا ً ومخيفا .. ما أقبح الزعنفة المميتة أمام الساحل الوديع!.. تقع عيناك عليه وهو يغمس سبابته في دم الضحية ، ويرفعها عاليا ً أمام نور الشمس ، وعيناه تقدح انبهارا ً بها . دم ٌ كالبلور الأحمر ، أشهى من دماء الطيور والغزلان .. دم ٌ آدميٌ طيب المذاق . سرعان ما تزهر بهجة الألوان بين عينيه ، فيتلألأ اللون الأخضر التفاحي ، والأصفر الموزي ، وأزرق عين الطفل ، والفيروزي ، في طيـّات الأحمر الياقوتي المثير . تبدو لعينيه مسحة الدم مسحة ً قزحية ً ساطعة ً ، و سبابته المغموسة بالدم تنتصب مثل شمعة ٍ متألقة الأنوار تضيء له جنائن الحياة !. ثم يقرّب الأصبع من منخريه المرتعشين ويشم رائحته ، فيهتاج ثملا ً. يستنشق أنفاسا ً من رائحة ٍ زكية . إنه لا يشم رائحة الصدأ في الدم ِعلى الإطلاق ، إنما يشم شذا ً عطريا ً نديا ً، ينبسط به صدره ويرتخي ، وتسري تلك الرائحة إلى الأعماق البعيدة في كيانه . لتوقظ فيه نداء بداءة الوحشية الأولى .. وعلى الفور تتنبه أحاسيسه من غفوتها ، وتتفتح عيناه على وسعهما ، ويكشر عن أنيابه ، ويزمجر في غضب ٍ عاتي ، بينما يقدح الشرر في عينيه وهو يخطف كالشهب ، فيسارع ليغرز تلك السبابة المدماة في جوف فمه ، ويمتص هذا الرحيق بتلذذ غريب وعجيب . يمتصّه بالجوع المسعور ، بالنشوة العارمة ، والشهوة الذئبية المدمرة ، ثم يرفع رأسه نحو السماء ، وقد غالبته رغبة ٌ لا تُقاوَم في أن يُطلِق عواء ً عاليا ً ومديدا ً .. "


نظر بعيدا ً ، كمن يشرد ذهنه ، ثم تابع قوله : " إنه رجل ٌ مُكَلـّف بأن يقحم العصي بين برامق دولاب عجلة الحياة ويوقفها عن المسير . يقاوم الرحمة والسلام بسدود ٍ من الأشلاء .. الرحمة .. السلام ، تلك مجرد لمسات أنثوية تليق بصفات الحريم والأطفال فقط ، ولا تليق به ، هكذا يتهيأ له . ليس شجاعا ً بالفطرة ، لكن الكتب الحكيمة تقول أن الذئاب تولد جبانة ، غير أنها سرعان ما تبدأ تعلم الافتراس .. يتوهم البعض فيحسب أفعال القتل بأنها مجرد ردود أفعال ، ولكن في كل الأحوال ، وأيٌ كانت تلك الأفعال لا يمكن أن تبررها هذه الردود التي ستبقى غريبة جدا ً بالتأكيد ، بالنسبة لوئد حياة ٍ بريئة ٍ . إن الطبيعة الشريرة هي من تحدو بأصحابها إلى ارتكاب الفظائع بلا ريب .
ما أقصر حياة القتلة .. حياة لا تحسب بالسنين . تاريخها القصير يشبه تاريخ حشرة زاحفة ، حافل باللسع والخطر .. تاريخ تعني كتابته تسويد صفحات ٍ غزيرة ٍ وهدرها ، ويظل الحبر الأسود يتقاطر منها كالصديد .. "


ثم روى :
" فتح ( محمد العقرب ) عينيه في قرية ( المدّاحية ) عند الأطراف الجنوبية النائية من أودية مدينة ( كركوك ) ، ليجد نفسه يركض لاهثا ً خلف الماعز والأغنام مثل كلب حراسة .
في تلك الأودية البرية القاسية ، وتحت شواظ لهب الشمس ، وبين تقلب الأنواء ، نشأ وترعرع مثلما تنشأ وتترعرع ذوات القوائم الأربعة .
منذ الطفولة أُنتِزع من البيت ورُمي به إلى البرية ، ليفقد في العزلة دفء الحنان ورقة العاطفة والكثير من تلك الوشائج الجمة التي تجعل الإنسان أكثر إلفة ً من الحيوان ..
شبّ في خيمة واسعة من المشمع الرمادي الحائل اللون ، بين بضعة شبّان غلاظ الطباع ، عاشوا جميعا ً بعقليات ريفية محضة ، رؤوسهم تفيض بالخيالات والأوهام ، وبالكثير من أخبار النساء الجميلات .
لم يتمتع باللعب والمرح ، كل ما تعلمه وأتقنه هو تقليد أصوات الحيوانات بشكل ٍ يذهل حتى هذه الحيوانات نفسها . على تلك الأرض الفسيحة الجرداء لم تكن للحياة معان ٍ عميقة .. معان ٍ ثمينة يجدر بالمرء التمسك بها . كان يسرح طوال يومه ويؤوب مساءً بنظرات مبهمة تشبه نظرات الخراف . إن الأيام الطويلة إذ يصيبها الملل فإنها تسقط أرضا ً ، وهي تُرغي وتُزبد ، كما يسقط مريض الصرع ..
في سلوكه الوعر وملامحه القاسية تكمن آثار تلك الحياة المجدبة التي عاشها . كَبُرَ سريعا ً في البراري . ما أن أغمض عينيه وفتحهما حتى وجد نفسه شابا ً مستحقا ً امرأة ، وكان بإمكانه ، أيضا ً ، أن يغمضهما مرّة ً أخرى ويفتحهما ليجد نفسه في أحضان ملاك الموت . كان ( العقرب ) رجلاً غير ألوف ، وملامحه ليست جذابة . تبدّلت صورته تماما ً عما كان عليه في فتوته . فقد إحدى عينيه إثر ركلة مفاجئة من حمار ٍ حرون ، وانطفأت إلى الأبد ، انطمست الرؤيا فيها ، ودأب يغلقها على الدوام بصورة لا إرادية ، وأمسى لها لونا ً زجاجيا ً ، أخضر َ مضبّبا ً ، وبات مظهرها مخاطيا ً مقزّزا ً . لم تعد له سوى عين صغيرة مدورة ، واحدة ، غير أن لها نظرة جريئة نافذة تخترق الأعماق . كانت النظرة تخرج منها مثلما ينفلت الضوء الباهر من وقب ٍ ضيق ٍ .. يسوق المواشي أمامه ، ثم يتخلف عنها بضعة خطوات ، متلفتا ً ، ينظر إلى الآخرين نظرة غريبة ، غامضة ، وكأنه عائد من الموت ، يقولون أن نظرة الرعاة هكذا تكون ، طالما أهدروا نظراتهم ، وبدّدوها سدى ً طوال ساعات اليوم ، حتى سلخت منها الكثير من المعاني !.
عندما يجلس بين الرجال يجلس بطريقة هاربة ، غير مبال ٍ في التعرف إليهم ، ثمة برازخ فاصلة تشوش ذهنه الهائم . تزيحه إلى عالم ٍ لا يشبه عوالم الآخرين ، يترآى لجلسائه مثل كوب شاي غـُفِلَ عنه حتى برد تماما ً ، ولم يعد أحد ٌ يستسيغ شربه .
كان الإيمان في قلوبهم مترجرجا ً ، تنحسر موجته أحيانا ً ، وتعود طاغية ً مندفعة ً بحماس ٍ في أحيان ٍ أخرى ، إن انقلاب الفصول يحرث آثارا ً عميقة في أرواح الرعاة .
لطالما كانت تلك الأودية التي يعيشون فيها صناديق َ مقفلة الأسرار . كانت لديه القوة الكافية لغلق أعماقه والختم عليها ، فلم يبح بمكنوناته حتى لأقرب المقربين .
إن ثمة حيرة وضياع ظاهرتان في وجهه منذ الطفولة ، لم يستطع ذلك الإيمان المتذبذب من محوهما . تراصت التجاعيد على صفحة وجهه الصغير مبكرا ً . طوال النهارات كان يمكن رؤية شفتيه سوداوين ومتيبستين . سرعان ما اكتسب غرائز البر وطباع الحيوان ، فكان ينام كالقطط ويصحو كالكلاب .. قال له أحد أصدقاءه مازحا ً :
" لا أظن أن أحدا ً يستطيع يوما ً أن يراك مبتسما ً ، إن وجهك يشبه مخفرا ً من مخافر الشرطة .. "
إن من يرخي بصره متأملا ً في ذلك البر الخاوي ، المترامي الأطراف ، سيشعر بالجوع والعطش الموّار لفوره ، حيث تنكمش طراوة الحياة ، ولا شيء يوحي بالامتلاء ..
تلوح الخيمة للقادم من بعيد وهي تعلو منظر البر ، تحيط بها من الخلف والجانبين حظائر لإيواء المواشي ، بدائية ، بعضها مسقوف والبعض الآخر منها مكشوف ومتداعي .

لم تعد خيمة الرعاة خاملة ً، كما كانت تنتصب واقفة ً في صمتٍ وخَرَس ٍ ، في سالف الليالي ، إن رياحا ً أخرى باتت تهز المشمع الرمادي ، وتجعله يرتعش في الظلام الندي ارتعاشا ً لذيذا ً ، يبدأ من طرف الخيمة القصي حتى يصل عند بابها .. رياح ٌ تسوق سحب الرغبة الماطرة ، تعتصرها فوق الخيمة ، وتندي بها الجسد اليابس للوادي الفسيح . إن باب الخيمة الذي كانت تُرفـَع أذياله وتُلقى على الجانبين ، لتُترك الخيمة مفتوحة أمام تدفق نسائم البر المتضمخة بضوع العشب كل مساء ، عزّ على المرء أن يراه مشرعا ً ، فيما بعد ، ثمة روائح أخرى ، أخذت أجواء الخيمة تألفها وأمست تسيطر على كل أريج ، وأمام الخيمة مباشرة ً ، على بعد بضعة أمتار بات خزّان الماء المعدني ينضب سريعا ً !..

يرقد ( العقرب ) نصف نائم ٍ في العتمة . وحينما يستيقظ ليلا ً يستعيد صبوته فيأرق ..
عندما تبحث عن طبيعته فإنك تبحث في الظلام الدامس عن شيء دقيق غاية الدقة ، لا يمكنك أن تعثر عن معنى واحدا ً من المعاني السامية ، أو على الأقل عن شيء مما في الروح الإنسانية النبيلة .. إنك في النهاية ستجد نفسك أمام وجه ٍ شديد التصحر ، تسف فيه رمال الغدر هائجة ً .
عاش في جفاف العاطفة وضمورها بين قطعان الحيوانات ، في محيط كانت تُسحق فيه الرقة والشفقة بين الحوافر .
لم يعد يهاب شيئا ً في ذلك المكان الذي يجوب أطرافه طوال النهار ، كان جريئا ً غير هيـّاب . كثيرا ً ما شاهدوه وهو يتسلـّى بالحيـّات والعقارب الزاحفة هنا وهناك ، يمسكها ويرفعها مباشرة ً بكفه العارية ، ويروح يُمازح الآخرين بها ، وهو يثير رعبهم ، من دون أن يدخل في روعه منها شيء . لأجل ذلك كان يعرف باسم ( محمد العقرب ) . كانت العقارب أكثر الكائنات الدابة فوق الأرض تأثيرا ً على غرائزه . يندر أن يتشوق لزيارة الأهل في قرية ( المدّاحية ) ، وإن حدث ذلك فإنما يحدث في المواسم التي تُباع فيها جميع الماشية ، وتخلو الحظائر منها . في مثل تلك الأيام ، يقصد غالبية الرعاة عائلاتهم للتمتع برفقتهم .

طوال الأيام كان يفتح عينه السليمة على معاملات الغش والتدليس . كانت لهم أساليبهم الشيطانية التي لا تُحصى في طرائق نفخ الخراف وبيعها . ليس من السهولة على الإنسان جني الربح الوفير في وقت ٍ محدود ٍ من الزمن بدون اللجوء إلى الخديعة والغـَرَر .
عشرات الطرق تلك التي يُسلـّمونك فيها خروفا ً سمينا ً يملأ عربة النقل بحجمه الكبير ، ولكن ما أن تضع نصل السكين في رقبته حتى يزفر الهواء من أعماقه دفعة ً واحدة ً وكأنه بالون مثقوب . في النهاية سوف تتيقن من أنك ابتعت لعبة ً مجلـّلة بالصوف لا غير .

يتباهى الرعاة جميعا ً بدقة التصويب ، إنهم نادرا ً ما يخطأون أهدافهم ، لا تقع العين عليهم إلاّ وهم مسلحين ببنادقهم ليل نهار . وعلى الرغم من وجود عين واحدة فقط في وجه ( محمد العقرب ) .. وعلى الرغم من افتراضات الرعاة المناكدين له بأنه نصف بني آدم ، إلاّ أنهم كانوا يعجزون عن مجاراته في مهارة التصويب .. في السهوب تبدو السماء عالية حقا ً ، والآفاق شاسعة ً ومترامية بصورة ٍ مهيبة . . فيها يتجرد الإنسان من الجبن والخوف ، وغالبا ً ما يتحلى بالجرأة والإقدام . وأي كان نوع القيود التي توقف الناس عند حدودهم ، فإنها لا تقبض على معاصمهم وتمنعهم في هذه الأماكن النائية . فيها يبدو الإنسان وكأنه ثائرٌ ، متمردٌ في أغلب الأحيان .


في بواكير أحدى الصباحات ، أقبل ( لافي ) ، رب عملهم ، تاجر المواشي المشهور في تلك النواحي ، في مركبته الكبيرة المقعقعة ، والمصبوغة بالبوية الحمراء المتسخة ، المغطاة أرضيتها بروث الحيوانات دائما ً. جلس بين الرعاة زهاء ساعة من الزمن . كان يلوح أكثر انشراحا ً من أي صباح ٍ مضى . لا يتوانى من أن يعرب عن إعجابه بكل شخص ٍ من الرعاة ، وهو يردد في أسماعه مشيدا ً ومادحا ً :
" أحسنت .. أحسنت ، والله أنت كفؤ ٌ لعملك .. "
عبّرَ عن سعادته ورضاه بأن احتسى ثلاثة أقداح ٍ من الشاي ، وكان يروق له احتساء المزيد غيرها لولا عجالة أمره .
سرعان ما أمر بتحميل المركبة بعدد ٍ من رؤوس الماشية الكبيرة ، الجاهزة للبيع ، ثم التقط معه ( محمد العقرب ) وتوجها صوب مدينة ( كركوك ) . الأمر الأكثر إثارة في هذه السفرة القصيرة ، إن التاجر لم يحشر ( العقرب ) على ظهر المركبة ، مقرفصا ً بين الخراف ، كما دأب فعل ذلك ، بل أجلسه الآن إلى جواره في قمرة المركبة . وشرع يمازحه بلطف طوال الدرب .. طوال الدرب تعذّب ( العقرب ) جراء هذا الحنان الراعف ، إن الضحكات الديكية ، الزاعقة ، التي أطلقها ( لافي ) ، وهو يواصل الثرثرة ، أصابته كالجدري ، وكادت تطرحه أرضا ً . لأول مرّة ٍ في حياته راح يمطره بمثل هذه العناية السمحاء ، التي لا يغدقها سوى الشيطان . رفع نظره إلى السماء ، كانت ندف ٌ بيضاء من سحب ٍ منتشية ٍ تحلق تحت الشمس الساطعة كأنها سرب طيور ، وشعر بحنين ٍ إلى المطر . أحنى ( لافي ) رأسه ونظر إليها أيضا ً ، وقال :
" إنها جميلة ٌ بلا شك ، وتشبه قطيع أغنام ٍ بيضاء .. "
طوال الطريق ، ما برح تاجر المواشي يناديه ( أبو جاسم ) ، وهو الذي لم ينده عليه في وقت ٍ من الأوقات بغير ( العقرب ) . كان ( محمد ) يمد نظره كل حين ويحدق في وجهه مليا ً ، خائضا ً في حيرةٍ وذهول ٍ في ملامحه الرابضة تحت ظلال كوفيته السابغة ، وهو يبحث في حماس ٍعن معنى صريح لمثل هذه الرأفة التي انهمرت فجأة ً ..
" يسرني أن تناديني على الدوام بكنية ( أبو جاسم ) .. "
" أنت بمثابة ولدي ، وأكن لك حبا ً صادقا ً في قلبي .. "

شقت المركبة طريقا ً وعرا ً بين الرجال والأغنام ، في سوق الماشية ، متقدمة ً في حذر ٍ وبطء ٍ . التفتت عيون الجميع صوبها ، ورفعت الأغنام ، المعروضة في الشمس ، بدورها أعينها الحزينة وتطلـّعت بصمت . ثم ما لبثت أن توقفت العربة قرب مجموعة من تجار المواشي ، دأب ( لافي ) على التعامل معهم في أغلب الأوقات . ترجّل ( العقرب ) على الفور ، دون أن ينفض جسده ، مهتزّا ً ، كما تهز الخراف الصوف الذي يجلـّلها ، في كل مرّة ٍ ، إثر اجتياز ذلك الدرب الترابي الطويل . وسرعان ما تحلق حولهم نفر ٌ من الناس ، شرعوا يروزون الأغنام بعيونهم ، ومن ثم يوزنون ألياتها بأكفهم العريضة ، الماهرة .

بعد أن نجحا في بيع خرافهما ، قاده ( لافي ) إلى أحد المطاعم المعتبرة في المدينة . لم تكن شمس الخريف قاسية ، بالإمكان الجلوس في مواجهة السماء مباشرة ً ، واحتساء قنينة عصير ٍ قبل تناول الطعام . كان الضحى بلون العصير ومذاقه . ارتدت ( كركوك ) تنورة ً برتقالية قصيرة ، وزينت شعرها بالورق الأخضر اللاصف ، كأنها شجرة أعياد . بينما تهدّل ثدياها فوق مائدة الطعام التي كانا يجلسان خلفها ، كان الضحى مغريا ً في الحق ، وتفتحت شهيتهما إلى الطعام بلا حدود ..
قال ( لافي ) :
"ما أن ننتهي من الغداء سنذهب إلى الصلاة في مسجد غير بعيد .. "
" كما تشاء .. "
وعاد ( العقرب ) يحملق في وجه الرجل من جديد ، لم يكن واثقا ً من اقتراحه التالي ، ولم يكن باستطاعته تخيله راكعا ً في المسجد ، هذه أول مرّة ٍ يسمع فيها هذا التاجر المخادع يتحدث عن الصلاة ويسعى إليها في ورع !. تساءل في حيرة ٍ : " هل أن ( لافي ) نزل في إبريق الإيمان بصدق ؟ .. " إنه يخبر هؤلاء التجار خبرة ً وافية ، وهو يعلم كيف أنهم يصدّون عن المساجد ، متهيبين بعد كل عملية بيع ٍ وشراء ٍ ، بفعل ما أهدروه من أيمان ٍ غليظة ٍ نثروها جزافا ً في السوق ، غشّا ً ومداهنة ً ..

بعد أن فرغا من الصلاة ، هشّ نحوهما رجل ٌ تلوح على وجهه روح التدين الصارمة . تعانق مع ( لافي ) وجلسا جنبا ً إلى جنب ، دون أن تغيب عن وجهيهما البشاشة . وما لبث أن قال له ( لافي ) :
" دعني أقدم لك ( أبو جاسم ) .. "
وهزّ قبضة يده أمام مرأى الرجل ، كأنه يهز سيفا ً مسلولا ً ، وتابع قوله :
" إنه أحد رجالي الأبطال . " " أنعم به ، أنعم به .. " قال الرجل ذلك ، وهو يبسط كفه بحرارة ٍ ونشاط ٍ ، ليهز كف ( العقرب ) ، بألفة ٍ ووداد ٍ بالغين ، انشرحت لهما النفس وانبسطت ..
ولكن سرعان ما أضطرم لهب الوساوس في صدر ( العقرب ) ، وبان الارتباك جليا ً على مظهره . تنبه الرجلان إلى ذلك ، فسارع ( لافي ) ليخبره :
" هذه أول مرّة ٍ أرى فيها الحرج يداهمك .. "
أخذ المسجد يخلو من المصلـّين . وارتمى على أبسطته الحمراء هدوء ٌ بارد ، وفي فضاء قبته الشحيحة الأنوار ، راحت تختلج أطياف ٌ مرتبكة . حين يشرع رجل الدين بتلاوة كلامه السحري ، ذي النبرة العميقة ، باتئاد ، يلوح المسجد جليا ً متلطخا ً بروائح الماضي ، أشبه بالأماكن الأثرية الغارقة في القدم . انتبذ الرجال الثلاثة مكانا ً قصيا ، يتجاذبون أطراف حديث ٍ فضفاض استغرق زهاء ساعتين من الوقت ِ ، نحى منحا ً طائفيا ً ، وأوغل في أخبار السياسة وشجونها !..
في نهاية اللقاء سار ( العقرب ) مبتعدا ً عن المسجد سير النائم ، كان محقونا ً بحقنة تخدير جعلت أفكاره تلتبس عليه وتختلط ، لاذ بالصمت وسَهِمت أذهانه ، وكان الليل قد نزل بين شفتيه . أذهلته مقدرة رجل الدين الغامرة في السيطرة على الحديث والإمساك بتلابيب الكلام . كان كلامه أقرب إلى الفصحى ، مفعما ً بالأحاديث القدسية وآيات القرآن ، كأنه يتحدث من شاشة تلفاز . لم يتسن َ له أن استمع لمثل هذا السحر الهامس من قبل ، دبّ الخدر في أوصاله إلى درجة ٍ أعيته من أن ينجح في إقحام قدميه في نعله بسهولة ٍ حينما نهض وهمّ بالانصراف .
وفيما كان يودعهم ، قال لهم رجل الدين :
" تعالوا غدا ً إلى الصلاة ، سنكمل حديثنا إنشاء الله .. "
عندما عادا إلى المقهى ، رمى ( العقرب ) بجسده على الأريكة ، بطريقة ٍ أوحت لتاجر المواشي بكل يقين بأن مفعول المخدّر السحري قد سرى عميقا ً في جسده وروحه . في ذلك اليوم أمضى ( العقرب ) بقايا النهار شارد الذهن .. طوال طريق عودتهما إلى المخيم كان ( لافي ) يقود مركبته ، وهو يعيد على أسماع ( العقرب ) مقاطعا ً من حديث رجل المسجد .. يعيدها باستحسان ، وبنبرة ٍ تذوقية ٍ ، مرهفة ٍ ، في محاولة مكرّسة للسعي به إلى أمر ٍ بالغ الأهمية ، على ما يبدو . في اليوم الثاني أعاد ( لافي ) الكرّة مجددا ً ، عطف على المسجد فور الانتهاء من بيع بضعة رؤوس أخرى من الخراف . ووضع ( العقرب ) بين يدي رجل المسجد بأمانة ٍ ، ليحقنه المزيد من حقن التحفيز ، ذات المفعول العجيب . كانت طلعة رجل الدين متوترة بعض الشيء ، لذلك قدّر ( العقرب ) أن التوتر الذي يشوب قسمات وجهه ، وأسلوب تحدّثه ، وحركة يداه تخفي خلالها شيئا ً خطيرا ً ، فجلس يستمع إليه بطريقته الغير مبالية كما يجلس التلميذ الكسول . بالفعل ، قبل أن يختم الرجل حديثه طلب من ( العقرب ) صراحة ً أن ينضوي للعمل مع أخوته ( المجاهدين ) ، قائلا ً له :
" إن أخوانك ( المجاهدون) يتشرفون بانضمامك إليهم ، وهم بانتظارك .. " وقبل أن يهم ( العقرب ) بالرد على قوله ، انبرى ( لافي ) ليجيب رجل الدين على الفور نيابة ً عنه :
" إن ( محمد ) ولدي ، وهو رجل بطل ليس بوسعه أن يرفض طلبكم . "
ثم التفت بوجهه إلى ( العقرب ) ، التفاتة ً توحي في مواجهة الشيطان للشيطان ، ليسأله :
" أليس كذلك يا ( أبو جاسم ) ؟ .. " في تلك اللحظات بالتحديد كان رجل الدين يلوح وكأنه يجلس بين نغلين من بني البشر .
وقبل أن يؤوبا إلى المراعي ، طافا معا ً أسواق ( كركوك ) . ابتاع التاجر له أشياءً عديدة : كوفية بيضاء ، وسجائر فاخرة ، مسبحة .. وعاد به إلى الخيمة في حفاوة ٍ تثير الانتباه ..


لم تكد تمضي الأيام حتى عاد ( لافي ) ليصطحب ( العقرب ) في جولة عشوائية أخرى عبر شوارع ( كركوك ) . جابا فيها العديد من المناطق ، وكان ( لافي ) قد أسرّه قائلا ً :
" سنقابل شخصا ً مهما ً في أحدى المقاهي .. "
كان ( العقرب ) مسترسلا ً في خيالاته ، لم يعلـّق بأي كلام ٍ على ذلك .
" أعتقد أن هذا الشخص سيفيدك كثيرا ً في المستقبل .. "
" أعتقد أنه سيكلفك في واجب ٍ سهل ٍ للغاية .. "
" ربما سيطلب منك قتل ضابط ٍ .. "
انتزعت العبارة الأخيرة ( العقرب ) من حومة أفكاره . فغر فمه وتساءل مندهشا ً :
" أقتل ُ ضابطا ً ؟ .. " .
" نعم ضابطا ً ، هل تجد في ذلك صعوبة ً ؟ .. "
فترت النظرة في عين ( العقرب ) ، وظلـّت شفتاه مفترقتان ، وفمه منذهلا ً ..
" إذا لم تجد في وسعك المقدرة على تنفيذ هذه المهمة ، دعنا نعود إلى خيمتنا ونأتي بالراعي ( جاسم ) ليتولى أمر الضابط .. " كانت هذه العبارة مشحونة بقدر ٍ كاف ٍ من الخبث لجعل الغيرة تسري في جسد ( العقرب ) حتى الذَنَب ِ، لذلك انتصب صدره عاليا ً ورفع ذنبه ، وهو يرد بسخط :
" وهل أنا اعتذرت لك عن التنفيذ لتأتي بـ ( جاسم ) ؟ .. " ..
" كلا ، أنت رجل ، وأنا أخبرك جيدا ً ، ولكن قد تكون الآن غير مهيأ . "
" أنا مهيأ لمثل هذا العمل ولغيره . " ساقه التاجر إلى مقهى كان ينتظرهم فيه ثلاثة رجال ٍ ، لاحوا غرباء بالنسبة له ، ومظاهرهم الهزيلة لا توحي بالشراسة ، غير أنهم كانوا يتحدثون باستياء ٍ ، وبمرور الوقت لاحظ الرغبة الحثيثة تطفح في عيونهم لتدمير كل شيء !..
جلس ( العقرب ) بينهم في تهيب ، وكان صاغرا ً يستمع لأقوالهم مثل صبي مأجور . لم يستغرق لقاؤهم وقتا ً طويلا ً . وحالما انتهوا من احتساء أقداح الشاي ، اتفقوا جميعا ً على خطـّة ٍ متواضعة ، أمَلوا تنفيذها في يوم ٍ قادم ، فيما لو كانت الظروف مؤاتية ."


وواصل روايته :
" في صباح ٍ كدر ٍ ، كان الغبار يهيج متصاعدا ً مع ريح ٍ عصبية المزاج ، مضطربة ، تثير أخلاط روائح منفرة . توقفت عربة أنيقة ، بيضاء اللون ، عند باب الخيمة مباشرة ً ، ندهوا على ( العقرب ) ، وبعد دقائق حملوه معهم . ابتعدوا قليلا ً عن الخيمة ، وهناك ، خلف زرائب الماشية ، استعرضوا كيف يؤدون أدوارهم ، ويتمون مهمتهم بإتقان .
في مدينة ( كركوك ) ، جالت العربة بضعة شوارع قبل أن تنطلق صوب نقطة تفتيش ، من نقاط السيطرات الأمنية ، القائمة عند مفاصل المدينة . كانت العربة تقل ثلاثة أشخاص فقط ، قائد العملية يجلس مجاورا ً للسائق ، بينما كان ( العقرب ) يجلس في المقعد الخلفي ، يطل بوجهه المكفهر من النافذة المفتوحة ، وهو يقبض على مسدس كاتم للصوت ، يخفيه في حجره . كان مرتبكا ً بعض الشيء ، ولكن ما إن همّت العربة تجتاز السيطرة حتى شهر مسدسه وأمطر ضابطا ً، يقف في هدوء ٍ ودعة بين رجال التفتيش ، بخمس رصاصات طرحته أرضا ً على الفور . وانطلقت العربة كالشبح المجنون في دوّامة ٍ من المفاجأة والذهول . غاص جسد ( العقرب ) المرتجف في مقعده ، وقد تقاذفته سيول هواجس ٍ غريبة . لم يكن قادرا ً على تركيز أفكاره المضطربة ، كان فقط يشعر بآلام ٍ تسري في أعماقه لا يعرف كنهها . بعد دقائق معدودة وجد العربة تلج به إلى داخل بيت ٍ كبير المساحة في ضواحي المدينة ، وهناك احتجبوا طوال اليوم .
عند فجر اليوم التالي أُعيدَ إلى خيمته بواسطة عربة أخرى ، مغمورا ً بسيل اعتذارات ٍ من قبل من أتوا به ، وهم يؤكدون له بأنه يليق به العودة في موكب ٍ حافل ٍ لبطل ٍ مثله . وحال وصوله أخذ يشعر بالسكينة والآمان ، وغطّ في نوم ٍ متواصل أثار دهشة أصدقائه ..
لم يمض ِ على الأمر أكثر من يومين ، لتأخذ هواجسه الكدرة بالصفاء ثانية ً . نزل الحجر إلى القعر ، واستقر هناك ، وماتت دوّامات الموج ، وعادت سريرته كنبع الصخور . إن صورة الرعب الفوّار ، الذي اكتسح ملامح الضابط فجأة ً ، وهو يتلقى الطلقة القاتلة في جبينه العريض ، بدأت تنحسر عن مخيلته ، كما لم يعد أيضا ً أي صدى لصرخته المكتومة حينما تداعى منهارا ًإلى الخلف بطول جسده . شعرَ بأنه نفـّذ المهمة المناطة به على أتم وجه . على الرغم من المجازفة ، وثقلها الذي رزح على قلبه عدة أيام ٍ ، ها هو يحس بتحرّره وخفته من جديد . وثمة مبلغ ممتاز من المال ، دسّوه له فور عودته إلى المخيم ، جعل يقلـّبه من آن لآخر وهو يحس بالراحة لملمسه ، كان يعادل ضعف أجره الشهري . إن ذلك كثيرا ً عليه . كان بإمكانه أن يكتفي بتلك القبلات التي انهمرت على وجهه ، وبذلك الإطراء المحموم ، وبتلك الابتسامات المشرقة ، التي لوّنت الآفاق أمام أنظاره ! ..
بعد أيام ، وفيما هو يحاول أن يستعيد تفاصيل ما حدث في ذهنه ، لم يكن يجد فيها أية صعوبات ٍ تُذكر ، كانت تشبه إلى حد ٍ كبير اصطياد الغزلان في البرّية ..


في نهاية ذلك الأسبوع ، وقي يوم الجمعة تحديدا ً ، حملته العربة إلى ( كركوك ) ، لأداء صلاة الظهر في ذات المسجد السابق . وهناك التقى مجدّدا ً برجل الدين الذي هشّ نحوه مرحّبا ً بحفاوة ٍ ، وطبع قبلة امتنان ٍ على خده ، مطقها بصوت ٍ أجوف ، وحالما جلسا معا ً أخبره بأنه أراح ضمير السماء بفعلته الشجاعة !.. ما لبث أن التحق بهم الرجلان اللذان رافقاه في تنفيذ العملية ، التئم شملهم في المسجد بعد الصلاة مباشرة ً ، أخذوا يخطـّطون على الفور لعملية قتل ٍ واسعة أخرى . في هذه المرّة أرادوا استهداف عدد ٍ من كبار موظفي دوائر الدولة ، بغية إرباك عملها ، وبث الرعب بين صفوف الموظفين في المدينة ، كُلـّفَ ( العقرب ) بتنفيذها ، والذي بدوره رحّب بها ، وقد وجدها أيسر من المهمة السابقة .
بعد أن أصغى لحديثهم ، قال لهم :
" اعتبروا أن المهمة قد أنجزت تماما ً ، ولا تشغلوا بالكم في الحديث عنها . "
في الصباح الباكر من يوم السبت ، أُذيعَ خبر مقتل ثلاثة موظفين مدنيين ، برصاص الغدر ، أحدهم كان رجلا ً متقدما ً في السن ، أفنى حياته في خدمة المدينة !..
أثـْرَت المهمة الجديدة ، التي أنجزها بدم ٍ بارد روحه المعنوية المتوثبة ٍ . راحت جذوتها تتألق مع الأيام ، لتجذب أنظار مسؤوليه وإعجابهم بما أظهره من اندفاع غريزي ، وحماسي في القتل . لم تراوده نذر الشؤم على الإطلاق ، أخذ يعمل وكأنه عاملا ً في مجزرة دواجن .
شاهت ملامحه ، وأصبحت نظرة عينه وحشية ً كاسرة ، وطوال الوقت الذي أعقب العملية الثانية ظل متنبها ً ، يقظا ً ، لا يفارقه السلاح على الإطلاق .
بات قاتلا ً محترفا ً ، وليس هنالك من شك ٍ في ذلك ، حتى أنه أنجز سلسلة من أعمال القتل في وقت ٍ قصير ٍ ، من دون أن يرتجف له قلب ، أو يطرف له رمش . وجد في هذا العمل فرصة ً سانحة لإظهار مواهبه الشخصية ، والكسب الوفير للمال بعيدا ً عن متاعب الرعي المضنية وآلامه .. الرعي ؟.. إنه لم يعد واثقا ً في قدرته على تربية الأغنام ورعايتها . فها هو يجد ذاته وقد خـُلِقت لأجل الجهاد ، ولم يكن أحد ٌ من زملائه الرعاة على علم ٍ بما يجري ، وإن باتوا يكثرون الشك في رواحه وغدوه ، وغالبا ً ما كانوا يسددون نظراتهم الحسود خلف ظهره ، قائلين له :
" الله ربُك َ.. الله ربُك َ ..ما الذي تريده بعد ؟.. أنت تتسكع في شوارع المدينة كل يوم ، ونحن نرعى بدلا ً عنك .. " وكانت أعناقهم تلتوي وهم يراقبون تحركاته ، بينما يحاول أن يردعهم وهو يرشقهم بنظرات ٍ صارمة ، صموت ، فيها ضروب من الأنفة . وما أن يغيب عن أنظارهم حتى تتلمظ ألسنتهم بأغرب الأقاويل .. ولم يكد يمضي الوقت حتى أصبح يقود فريقا ً من الشبان مهمتهم الذبح . كانوا يخطفون المواطنين العُزّل ، وينطلقون بهم إلى أماكن بعيدة ً ، آمنة ، وهناك يتصدى ( العقرب ) لنحرهم على جناح السرعة . يتخلص منهم كما كان يتخلص من الحملان المريضة والماشية التي توشك أن تنفق . إن نصل سكينه مرهف ٌ وممتشق ٌ في كل الأوقات ، وهو تائق للإفاضة أبدا .. انصرف إلى عمله الجديد برغبة ٍ جامحة . كان سعيد الحظ وهو يتجاوز جميع الاختبارات بنجاح ٍ باهر ٍ . تفاقمت الدماء التي سفحها يوما ً بعد آخر ، وما فتيء يعد أرقام من أتى على حياتهم ، أولئك الذين تم تشخيصهم بأنهم أعداء الدين . وفي النهاية يلوح فخورا ً بقتله كل هؤلاء الكافرين .

كانت زيارات ( لافي ) إلى المراعي ، فيما مضى ، متقطعة وعجولة ، لكنها بدأت تتوالى يوميا ً وتطول لساعات ٍ، بشكل ٍ لافت ٍ يثير الظنون . اعتادوا أن يترك بين أيديهم كل شيء وفقا ً لاجتهادهم ، ويكتفي فقط بإصدار الأوامر عليهم ، ثم ما يلبث أن ينصرف . كان يثق بعملهم وتعاملهم السليم مع مواشيه ، كما يأمل ، ثقة طاغية .
تبدّلت علاقته مع ( العقرب ) تبدّلا ً مدهشا ً ، توثـّقت سريعا ً إلى حد الريبة واستثارة الشكوك . وكان الرعاة حائرين بأمرهما . لم تكن علاقتهما متكافئة أساسا ً ، ( العقرب ) الذي تشرّبت أدمة بشرته برائحة الماعز ، الذي لم يضع في قدميه نعلا ً طوال حياته ، ما عدا هذه الأيام التي راح يقصد فيها المدينة ، لا يمكن أن يكون نظيرا ً لتاجر المواشي . بالتأكيد إن النعل وحده لا يستطيع أن يصنع منه رجلا ً معتبرا ً ، يمضي أوقاتا ً فائضة في المدينة ، ويمشي كتفا ً إلى كتف مع تاجر ٍ ، كما هو الآن .. إن عذاب انبهارهم ظل ينبع من تلك الطريقة المريبة التي يجلسان فيها معا ً ، ومن حرارة التحية والتخاطب ، ولهفة السؤال ، إن أسلوب التهامس بينهما كان وحده يذبح بلا سلاح . ترى هل انقلبت أعراف المراعي فجأة ً ؟ .. أم أصبح ( العقرب ) تاجرا ً للمواشي هو الآخر؟ .. إن ما كان يمزق أعصابهم أيما تمزيق هي هذه الكنية الجديدة التي تشدق بها التاجر وراح يطلقها على ( العقرب ) ، متى ما جلس قاعدا ً ، أو انتصب واقفا ً كان ينادي تعال يا ( أبو جاسم ) ! .. " أين كان من ( أبو جاسم ) في الماضي ؟ .. أم تراه فـُطِمَ عليه اليوم ؟.. " هكذا راحوا يتساءلون .. في أحايين عدة ، حينما يختليان معا ً ، كان ( لافي ) يحسب له رزمة ً من الأوراق النقدية ، ويضعها بين يديه . وها هو ( العقرب ) يرسل إلى عائلته في قرية ( المدّاحية ) بعضا ً منها ، كأنه يفز من غفوة ٍ ويتذكر على نحو ٍ ما أن له أهلا ً هناك !.. إن ذلك السر لم يبق َ مدفونا ً في الأعماق ، ومطويا ً تحت تراب البرية ، فها هو وابل أمطار الدم يكشف ذلك السر ، سريعا ً ، للعيان .


أُصيب ( العقرب ) بطلق ناري ، من قبل شرطة المدينة ، وربما توصـّلوا إلى إدراك ملامحه ، وبات شخصا ً مشتبها ً به . لذلك تلقفته تلك الجماعات ، وأرسلته إلى مكان آخر ليعالج ، وليكون في مأمن ٍ من تعقب الشرطة . هناك في ذلك المكان المجهول ، أمضى أياما ً غير قليلة . في غضون تلك الأيام حضر ( لافي ) إلى المرعى ، بوجه ٍ أكثر صرامة ٍ وتصميم . استدعى الراعي ( جاسم ) ، الأكبر سنـّا ً ، ليرافقه إلى المدينة ، مقتفيا ً نفس الخطوات الأولية التي استدرج بها ( العقرب ) من قبل . وفي مسجد المدينة ألقى به إلى أحضان رجل الدين ذاك ليتولى حقنه سريعا ً. لم تكد تمضي بضعة أيام ٍ حتى أضحى ( جاسم ) قاتلا ًحقيقيا ً ، يلبس نعلا ً صيني الصنع أنيقا ً ومليئا ً بالزخارف ، وكأن سحرا ً عجيبا ً بات يحرك قدميه ، ويدس حربته في حزامه . يقتل بحرفية ٍ متقنة ، يذبح ويسلخ الجلد الآدمي وسيجارته مغروسة ً في فمه . تطوّع لأداء هذا العمل في سبيل الله ، ولأجله وحده رشَّ هذا السبيل وأنقعه بدفق ٍ من الدم العبيط .

جرى الأمر بسلاسة ومن دون أية محاذير بالنسبة لرعاة ( لافي ) ، في غضون شهر واحد بات جميعهم ، وعددهم أربعة ، يحملون لقب مجاهد ، مما أتاح لهم أن يشكلوا قطيعا ً بريا ً ضاريا ً.. قطيعا ًأخذ يأتي بأقسى أعمال الجزارة والتخريب ، وفازوا بسمعة طيبة بين فصائل القتلة .


في المناطق الريفية يسهل تدفق الذخائر والأسلحة ، يمكن تبادلها وشراءها بيسر وبلا خوف من رقابة أحد . وكان ( مسعد ) وهو راعي في مقتبل العمر ، ضمن لذلك القطيع توريد الذخائر والأسلحة من أماكن مختلفة ، وعبر دروب سرّية ، ترابية ، مجهولة للآخرين . لم يكد يمضي كثيرا ً على هذه الأحداث المثيرة ، حتى تحول هؤلاء الرعاة عن رعي أغنامهم وماعزهم وأنشئوا يرعون العبوات الناسفة بدلا ً منها . وعوضا ً عن حمل الخراف السمينة الجاهزة للبيع ، إلى سوق الماشية في مدينة ( كركوك ) ، حملوا صباح يوم ٍ مكفهر ٍ حزين ٍ ، من أيام أول الشتاء ، الكثير من المتفجرات المدمرة ، ووضعوها جانبا ً في ذلك السوق الذي ضمّ الكثير من معارفهم ، وفجروها عند الضحى ، ليقتلوا الإنسان والحيوان معا ً ، وليلحقوا بالسوق الدمار الرهيب ! . بعد ساعات ، عند موعد الغداء ، جلسوا سعداء ً في أحد المطاعم والبشاشة تغطي وجوههم . يمسّدون شواربهم الريفية المتباهية ، برجولة ٍ ، وبريق نشوة الانتصار يومض في عيونهم . في الوقت الذي كان فيه الغم يرين على أجواء المدينة ، كان بإمكان أي إنسان أن يتفرس في تجاعيد وجوههم ، وخطوطها المرطـّبة بعرق الخوف في تلك الأثناء ليعرف أنهم قتلة .




سرعان ما وفـّروا اللحى التي ملأت عوارضهم . وانشغلت أذهانهم بالأفكار المتطرفة بشكل لا يصدق ، لاحوا بمجموعهم مثل فرقة ضالـّة ، اقترفت الكثير من الآثام ، ولِغوا في دماء العالمين كالحيوانات المكلوبة ، لكنهم لجئوا إلى التعاليم الدينية المتشددة لتبرئة ساحاتهم أو تبرير أفعالهم على الأقل . وتحت مظلة هذه الأفكار تحولوا إلى رجال مستميتين ، يقتلون ثم يصلـّون ويركنون .
ربما يخطأ الإنسان يوما ً ، ثم يحس بفداحة خطئه فيندم ، ولكن أمثال هؤلاء لا يترك الإحساس بالخطأ في ذواتهم سوى الإصرار على التمسك به ، والمضي عليه حتى النهاية . ليست هنالك رغبة في المكاشفة والمراجعة ، وإنما الرغبة كانت تتفتق لأهراق الدماء ومشاهدة الخراب .. وضعوا أنفسهم في مواجهة رجال الأمن ، وأصبحوا هدفا ً لهم ، وكان في داخل كل واحد منهم صهريج من الحقد والغضب عليهم ، وحينما يجتمعون معا ً يبدون مثل حيوانات ساخطة ..

أمست ليالي المراعي مسكونة بالأشباح ، في ظلمة الليل يخطف طيف رجل مجهول من هنا أو هناك ، ولربما ومض ضوء ٌ خاطف مرّة أو مرّتين في أحد الأركان كإشارة أبرِم َ الاتفاق عليها مسبقا ً. كم من المرّات حضر ضيوف غامضين ، وداست عرباتهم المسرعة على العشب آلاف المرّات وحرثت ترابها . حتى النجوم باتت كالحة ومتربة ، أشاحت بوجوهها وهي تومض بوهن غير عابئة ٍ بالتوهج . لم يعد الخوف والتأهب يتيح الفرصة لتنسم أريج العشب الليلي ، الذي كان يُفعِم هواء المراعي آنفا . كان الظلام الأسحم ، المخيم ، أشبه بالسحر الأسود . بان جليا ً أن هؤلاء الرعاة انتهكوا حرمة البرية ، وأساءوا إساءة بالغة لحيواناتهم المسكينة ، التي تركوا أمرها لشاب صغير ، سيبته الأيام باكرا ً ، وصيرته فتى غير مبال ٍ ، وهو لا يستطيع بالتأكيد أن يفي بمتطلبات قطيع كبير ، متنوع من الماشية ."


قال : "عاد ( العقرب ) بعد شفائه ليتولى إمرتهم ، ويجتاح بهم المدينة كالوباء . عاد في أوج الانتشاء ، وكان في عنفوان نشاطه ، يخرج كل يوم ٍ ليغزو ، يذبح ويغتال واحدا ً أو أثنين ، إن ذلك كثير ، ولهذا يتوجه إلى الله بالحمد والثناء . يجلس بوجه مكروب ، محاطا ً بأشباح المذبوحين وروائح دماؤهم تهاجم أنفه . لم يكن يجامل سوى الذبّاحين ، ولم يجالس غيرهم . الطموح يدفع به ليصبح مجاهدا ً من الصنف الأول ، بل أراد أن يظهر أمام الملأ أنه معلم ومدرسة ذبح لا يفوقه أحد .
كان مبدعا ً ، استوحى طرقا ً جديدة في القتل والتعذيب . يستمع جيدا ً لأحاديث من يتصل بهم من رجال الدين ، فشغف إلى حد كبير بوصفهم الطرق الإلهية في الانتقام من أهل النار ، وسرعان ما أعلن عن رغبته في تجريب ذلك على ضحاياه .
ذاعت شهرته وأطبق صيت هذا الرجل الذي يحاول أن يستوحي من السماء ما يعذب الإنسان على الأرض . يظل ذهنه طافح بعشرات الأفكار الإجرامية التي يمكن أن تخطر في بال كائن متوحش . إن لعقة واحدة بطرف لسانه ، من دم الضحية ، كفيلة بتفجير كل الأفكار الحبيسة في رأسه ، فيروح يجري باحثا ً عن ضحية أخرى ! ..
إنها ليست أفكار سطحية عابرة تلك التي يتعامل بها الكثير من القتلة ، كلا ، إنها أفكار صميمية ، عميقة الأثر ، غالبا ً ما تبث الذعر وتروع من يسمع بها . إن أية خطوة دموية ينجحون في أدائها تسوقهم سوقا ً سريعا ً على دروب الإرهاب والمضي نحو الخطوات اللاحقة الأكثر تأثيرا ً وتعقيدا ً.
دأب يخرج إلى الشوارع متخفيا ً ، يستطلع أهدافه ، ويتفحص بنظرات ٍ نهمة ٍ ، وحماسة لا تفتر ولا تنطفئ ، ويختار من الأهداف ما يشفي غليله .
حذره المتواصل رسم انطباعا ً شاردا ً ، وترقـّبا ً حاشدا ً على قسماته ، وثمة قلق غامض يؤطر نظرة عينه .
يلوذ صامتا ً ، يندر أن بتبادل الأحاديث مع أحد ٍ ، يضع تلفونه الجوّال على أذنه ويستمع إلى محدثين مجهولين ، فاغر الفم ، شبه نائم ، يسترسل في الإصغاء لا تند عنه همسة ً واحدة ، وغالبا ً ما ينهي حديثه بكلمات مقتضبة ، حينما يقول :
" الأمر سهل للغاية ، أطمئنوا سأنفذه غدا ً . "
كان كئيبا ً في الواقع ، فالإنسان يكون أكثر كآبة واضطراب من يوم ٍ إلى آخر ٍ بسبب استيلاء الشيطان على قلبه . لا تستطيع أفكاره الدينية الواهية ، المتطرفة تحريره من هذه الكآبة ، لأنه يدرك في أعماق روحه جيدا ً بأن الأعمال الدموية والخراب الذي يخلفونه أعمال ليست طيبة.. أعمال لا يحبها الله الطيب .
عندما تعافى من إصابته ، أطلّ عليهم ذات ليلة وشرار الغضب الأحمر يتوهج في ملامحه ، كان يريد الانتقام والثار جراء إصابته ، وكأنه رجل مُعتَدى عليه !. وقف بينهم يكيل الوعيد والتهديد للحكومة ، ويضرب الأرض بقدمه غيضا ً ، كما يفعل الحصان الغاضب عندما يضرب الأرض بحافره . ولأجل أن يُسَكِن آلامه ، ويروض غضبه ، خرج لفوره قاصدا ً المدينة ، وأطاح برقبة حارس مدرسة ٍ ابتدائية ، رآه مصادفة ً يجلس عند باب المدرسة ، وقت الغروب ، قبل أن يعود إلى خيمته .


بعد أن شـُفي ، حمل لهم الكثير من الأموال . أخذ ينثرها عليهم كما ينثر التراب ، ومنذ تلك اللحظة كفوا جميعا ً عن مناداته بلقب العقرب ، بل أن الفتى ( مسعد ) استحوذ على كفه اليمين ، متهالكا ً ، وطبع عليها قبلة عرفان وامتنان ، وفي الواقع كان ( العقرب ) لا يبدي أية مودة صادقة نابعة من القلب مع أحد ٍ منهم إلاّ مع الفتى ( مسعد ) هذا وحده .

أهملوا الحيوانات إهمالا ً جائرا ً ، حتى هزلت ، وعندما كانوا يمرون بمحاذاتها ، تأخذ بالتطلع إليهم بخيبة مريرة تثير العاطفة .
من نافلة القول أن ندّعي أنهم كنزوا وأثروا ، لا ليس بمثل هذا المستوى ، ولكن يمكن أن نقول بأن جيوبهم امتلأت بالنقود ، وباتوا يلعبون بها ، ورفلوا برغد العيش . اجتاحتهم السعادة بلا مقدمات ، بعد أن حُرِموا منها طوال حياتهم . وظلـّت هذه الحيوانات مجرد غطاء إيهامي مخادع لأبعاد الشكوك عنهم . في الواقع إن هذه البقعة النائية من المراعي تحولت إلى معسكر لمجموعة إرهابية عاثت فسادا ً في الأرض ودمّرت الإنسان ..
أصبحوا أكثر من عشرة ٍ ، واستبدلوا الخيمة القديمة بثلاث خيم جديدة ، كبيرة الحجم .
في هذا المخيم صارت تعقد العديد من اللقاءات والاجتماعات المشبوهة ، وكان لبعض رجال الدين وتعاليمهم النصيب الأوفر . تغير ( العقرب ) من راع ٍ قليل الشأن إلى شخص مرموق ، وبات المسؤول الأول عن هذه المجموعة . وضعوا تحت تصرفه سيارة ً وسائقا ًبقوم على خدمته ليل نهار ، وهو يتنقل من مكان إلى آخر ، مرتادا ً أماكن َخاصة ، يلتقي فيها أناسا ً على جانب ٍ كبير من الأهمية ، شخصيات خطرة ، و( مجاهدين ) كبار ، مؤطرين بهالات ٍ قدسية . ولم تمض ِ على تلك الحالة بضعة شهور ٍ حتى منحوه لقب ( أبو عبيدة ) ، وصار أكثر ضخامة ً في رداء هذا اللقب . ولكن على الرغم من قداسة الاسم الحركي الجديد بالنسبة لزملائه إلاّ أنهم دأبوا يذكرونه فيما بينهم بلقبه الأول ، ذلك لأنهم اعتقدوا بصدق أن لقبا ً مثل لقب ( أبو عبيدة ) لا يتلاءم مع راع ٍ أعور ، أمضى حياته حافيا ً ، يتدثر بفرو الخراف ، سائباً في الوديان طول الوقت ، ممسكا ً بعصاه العجراء ، وموحيا ً لكل من يلتقي به عرضا ً بأنه يشبه متسولا ً جوّال .
أضحى مثل أفعى خرجت من جلدها القديم ، ليبدو أكثر حيوية ً ونشاطا ً ، لا كفؤ له . وملامحه دكنت بشكل ٍ ظهرت فيها شفتاه سوداوان تماما ً . وعاد مثل حيوان رابض يتأهب ، يتلفت إلى كل الجهات وحتى إلى الخلف ، أن رقبته التلعاء تتيح له النظر سريعا ً إلى كل الجهات وكأنها رقبة طير من طيور الماء الحذرة . "



" توقعت أن خصب مرتعهم الجديد قد غير حياتهم تغييرا ً بينا ً ، فالأموال والملابس الفاخرة ، ذات الأسعار العالية ، والأدوات الثمينة ، التي أخذوا يقتنوها أضفت عليهم مظاهر حضرية . فكانت روائح التبوغ الأجنبية تتسرب من فتحات الخيم ، بينما لا تكف تلفوناتهم المحمولة عن الرنين في أغلب الأوقات . والأكثر من ذلك باتت لهم أفكار أكثر وضوحا ً يتبادلونها بشأن قضيتهم ، ونوع الحياة التي ( يجاهدون ) في سبيلها .. أفكار غريبة على أسماعنا ، يلتقطونها بعناية من كتب الأمويين والعباسيين ، وحتى من مخطوطات الترك العثمانيين الصفراء .
راقبت هذا التحول في ذهول ، أكاد أكذّب عيني ، وأنا أرى ( محمد العقرب ) ، الرجل البدائي ، يزدان أصبعه بخاتم لا مثيل له ، جالسا ً يتحدث عبر تلفونه مع أناس من مراجعه في شؤون السياسة ، ويظهر نفسه وكأنه يمسك برقبة الحياة في مدينة ( كركوك ) . ولكن بالرغم من كل هذا فإن تقاطيع وجهه لا تستطيع الإفلات من ملامح الفقر المدقع الذي عانى جراءه أوقات َ حرجة ، وخلـّفت فوقه آثارها العضال التي لا تنمحي .
لم يكن لهم هدف نهائي في ( جهادهم ) هذا ، غالبا ً ما كان دخان بنادقهم يسوقهم وراء وهم ٍ وسراب ، وهم مفتونون بسحر تلك الغمامة وخيالاتها . نجحوا في بسط نفوذهم على بعض النواحي البعيدة ، فماذا فعلوا ؟.. إنهم عاثوا فسادا ً وخرابا ً فيها قبل أن يولوا الأدبار منها . يفهمون النضال فهما ً ضحلا ً ، مخجلا ً يندى له الجبين ، ومهما قالوا عنه ، ومهما فعلوا ، فإن القتل يبقى الشيء الأكثر أهمية بالنسبة لهم ، ويبقى هدفهم الأخير .
يكثرون من الاستطلاع ، يذهبون إلى المدينة ، ويجلسون جانبا ً ، يراقبون القادم والذاهب ، وحينما تنبهوا إلى كثرة النساء السافرات ، تكدّرت انطباعاتهم ، وبادر ( العقرب ) ، الذي أعرب عن استيائه بصورة مفاجئة إزاء رؤيتهن ، لإخبار زملائه :
" يبدو أن هذا الزمن لا تقر فيه النساء في بيوتهن ، والله سوف أعيدهن إلى جحورهن هذه الليلة . "
عندما خيم المساء شاع خبر اختطاف فتاتين من شوارع ( كركوك ) . كان المساء يرتجف من البرد القارص . وكان بخار الحزن يتصاعد من نوافذ البيوت . اضطرب ( العقرب ) وأصحابه وهم يسوقون الفتاتين معهم ، وظل المساء يمشي وجلا ً وخلفه قبعة شرطي .
لم يكن ( العقرب ) على بينة من أمره بشأن ما يفعله بهاتين الفتاتين . لكن أي شيء يمكن أن يطرق باله غير فكرة اغتصابهن ؟. على الرغم من أنهم انتقدوا وسخروا من زينتهن ، وغضبوا من تبرجهن ، وعطرهن الفوّاح ، إلاّ أنهم قادوهن معهم إلى مخادعهم ، أدخلوهن إلى الخيام وراحوا يلعقون الذرور الأبيض من فوق خدودهن ، ويمتصون أصباغ الحمرة من شفاههن ، ويستنشقون شذاهن كالمخبولين . في تلك البرية الموحشة استباحوا شرفهن حتى طلوع الفجر بلا هوادة ، وفي الختام قتلوهن ، ثم دفنوهن في حظيرة المواشي ، تحت طبقات من الروث الطري .
لقد فعلوا كل هذا وفرغوا منه قبل أن يستعدوا لصلاة الفجر !.
اعتادوا أن يكونوا مطمئنين إلى أمْنِهم لا يشكـّون في ملاحقتهم ، لذلك خلدوا إلى النوم شبه هامدين . ولكن في الصباح الباكر فاجأتهم قوة ضاربة من شرطة المدينة ، أحاطت بمخيمهم ، وفتحت صوبهم النيران الحامية . أمطرتهم بوابل من الحمم ، التي أتت على قتلهم في الحال ، وأحرقت خيامهم ، وجعلت منها أثرا ً بعد عين . فيما تناثرت وتمزقت ماشيتهم إربا ً إربا . وفي لمح البصر اختفى ( العقرب ) و( مسعد ) . "


وأوضح :
" إن اختفاء ( العقرب ) ونجاته من الطوق الناري المحكم كان أعجوبة ً ، ملَصَ من الشرطة هو و ( مسعد ) بطريقة محيرة . يبدو أنهما خطّطا مسبقا ً لوسيلة ٍ احترازية ٍ في الفرار مثل عفريتين لا يعلم بأمرها أحد ..
كانت هنالك أكثر من عشر جثث مرمّدة ، ولم تكن جثتاهما بينها . وما برحت الشرطة تتعقب أخبارهما في كل مكان .

جعلت الهواتف المحمولة مسألة الاختفاء ثم الظهور ثانية ً أمرا ً ممكنا ً ويسيرا ً . لم يكن هروبهما ، في الحقيقة ، محيـّرا ً ولا ملغـّزا ً ، فما أن تمكنا من اختراق الطوق المحاصر لهم ، عبر منفذ ٍ سرّي يخبرانه وحدهما جيدا ً ، سارع ( العقرب ) إلى طلب النجدة وهو يخاطب قيادته . وفي الحال أمّنوا له عربة حديثة تمكنت من التقاطه و ( مسعد ) وأسرعت بهما كالبرق بعيدا ً عن ذلك المكان .
أقلتهما على الفور إلى صحاري ( الأنبار) ليكونا في حماها . في يوم ٍ عاصف ٍ شقـّت أجنحتهما الريح محلـّقة ً صوب تلك الصحاري . وفي ظلام الليل الدامس لجئوا إلى قرية ٍ على مشارف المدينة ، ليجدا نفسيهما بين أيادي أناس بذلوا جهدهم في تأمين سلامتهما ، وتأمين ملاذا ً آمنا ً لهما في بيت ٍ متواضع مطلي بالطين .
تفاءل ، وابتهج لسلامته ، وأغرقه الانتشاء جراء استقبالهم الحافل به ، لم يبد ُ عليه التأثر مما مرّ به من أحداث ٍ خطرة في ذلك الصباح الباكر ، وكأنما نسيها تماما ً . لم يكن في وجهه ما ينبئ بأنه يود أن يتذكر شيئا ً ما . إن رفاقه الذين أحرقتهم الشرطة بنيرانها لم يعد لهم أثر في ذاكرته وكأنهم ماتوا منذ سنين بعيدة !.
أفاق عند بواكير الصباح على أصوات الثغاء والنباح . نهض وتقدم من نافذة الحجرة الصغيرة وأطل برأسه على هواء البر الندي ، البارد ، كانت المواشي تتدفق إلى المراعي . غمره أريج العشب ، وأبهجه المنظر كثيرا ً ، وطفحت في صدره روائح الخراف . نظر إلى ( مسعد ) الذي كان يغط في نومه ، ثم اندس بتلذذ إلى جواره يلتمس الدفء .
عند الظهيرة قابله أمير ٌمن أمراء الإرهاب المعروفين في تلك الأصقاع ، عشائري الهيئة واللغط ، كان طويلا ً إلى حد يكفي لجعله أميرا ً ، وكانوا يطلقون عليه لقب ( أبو المعتصم ) .
تبادلا أحاديث َ شتى ، وقبل أن يفترقا أخبره قائلا ً :
" سألحق في خدمتك سبعة رجال من الأسود الضارية ، يعملون في إمرتك بشكل مؤقت ضمن قواطع عمليات ( الأنبار ) ، تستطيع أن تثق بهم ، ويمكن أن تشكلون فريقا ً ممتازا ً كما أظن .
" شكرا ً لضيافتكم ، وتقديركم العالي لنا . "
وخلال شهر ٍ من الزمن استغرقه في العمل داخل حدود المدينة وخارجها أصبح يغالبه إحساس ٌ فياض بأنه يعمل في جنائن الفردوس .
" ذلك ما أحس به أيضا ً . "
قال ( مسعد ) بدلال وغنج .
هنا صادف لأول مرّة ( المجاهدين ) الذين يرتدون الملابس البدوية القصيرة ، التي يخيطونها على طريقة البدو الأفغان ، مغالون ، متبحرون في القتل ، يطلقون شعرهم ، ويغطـّون وجوههم بأعشاش من اللحى الكثة ، الدَغِلة . ويخلعون على كل عمل ٍ ، مهما كان تافها ً ، أسم الغزوة ـ وما أكثر تلك الغزوات ـ ولكل غزوة أسما ً يتصاعد منه دخان بخور التاريخ مدوما ً في سمائهم بابتهاج ٍ وفخار .
في هذا المكان استعاد أيام بدر وحنين . كان يحلم لو أن البارود لم يخترعه أحد ، لو أن الإنسان لم يعرف البنادق ، لأصبح في وسعه الآن أن ينزلق محلـّقا ً بين صليل السيوف وصهيل الخيل .
يبدو أن ( الجهاد ) لا يتوقف في يوم ٍ من الأيامً ، عليك أن تواصل القتل طالما أن هناك ( كافر ) ، حيٌ يرزق ، ما زال يعيش على كوكب الأرض .
في ( الأنبار ) أصبح بمقدوره هو و ( مسعد ) الذهاب بعيدا ً بلا تحفظ ٍ .. التوغل في أسواق المدينة ، و التجوال بحرية ٍ طالما لا يعلم بشأنهم أحد ٌ . كان يجلس في المقهى ونظراته تزوغ إلى عرض الطريق .. نظرات تهمي كراهية ً ، ولا تستقر أبدا ً..
" أنظر يا ( مسعد ) إلى أعداد الناس ، إنهم بقدر النمل ، كم نقتل منهم كل يوم ٍ ، ولكنهم يزدادون ولا يتناقصون .. ما أعجب ذلك ! . "
" لا تتعجل الأمور ، إن الجهاد لم يزل في بدايته ."
يسرح مهموما ً بأفكاره ، وهو يتحفز تحفز الذئب . إن الدماء التي تجري في عروق الناس
مغرية ً .. إنها أشبه بالأمطار المخزونة تحت جلد السحاب ، يظل يتلهف إليها تلهف الظمآن .

أثناء تواريه في هذه المدينة التقى بالعشرات من المقاتلين العرب ، الذين زحفوا إلى البلاد عبر آلاف الأميال ، بعد أن فقدوا مهادهم إلى الأبد . إنتحاريون مدججين " ببسالة الأجداد " ، كانت تأسره طريقتهم في الاستخفاف بالموت . في كل يوم يفجر واحد ٌ منهم نفسه . كانوا أكثر اندفاعا ً في القتل ، وأشد تطرفا ً في حصد أرواح الناس . وربما أعجبته نظرتهم الدونية إلى أبناء البلد .. نظرتهم المتغابية ، القاصرة وهم يُشَبّهون الناس بقطعان الخراف البليدة ، البلهاء ، التي تتجمع ببرود ٍ لتنظر إلى واحد ٍ منها وهو يذبح ويسلخ دون تأثر ٍ واضح ٍ يرين عليها ، ويوقفها عن مواصلة الرعي . كانوا جميعا ً يتساوون في هذه النظرة من دون أن يتنبهوا إلى إرادة الحياة التي تملأ جوانح هؤلاء الناس .
ينتخبون أكثر الأهداف هشاشة ً ، يحاولون جاهدين قتل وإبادة أكبر عدد ٍ من الأبرياء ، وكأن الله أناط بسواعدهم هذا العمل الجليل .. وكأن لهم ربا ً آخر غير رب الناس الرحيم ، ربما هو هولاكو السماء ، وهم رعيته التتار .


عمل ( العقرب ) مع رجال كثر ، كل يوم يلتقي بوجوه جديدة ، وكل يوم يودع تلك الوجوه . الكثير .. الكثير ممن رافقهم دُفِنوا على الفور ولمّا يتعارف معهم بعد . بإيعاز من قادته صار يتولى الأعمال الإرهابية المباغتة على طول مجرى نهر الفرات الأعلى . عرفوه أميرا ً شجاعا ً غير هيّاب ، أطاح برؤوس أعداد ٍ لا تحصى من الناس ، كانت الدماء تثمله ، وكان يجد في ذلك عملا ً مذهلا ً..
سما عاليا ً في أفق الأنبار ، وبانت مظاهر العز عليه . فيما لاح صديقه الذي لا يفارقه ( مسعد ) أكثر وسامة ً على الرغم من لفح الشموس ووخز الرياح . كان أميرا ً من الأمراء الذين يعول عليهم كثيرا ً ، رجل مهمات ومجازر ، لا يبالي وهو يخوض في الغمار . وأمسى من البديهي أن تمتد غزواته حتى العاصمة ( بغداد ) .

ذات صباح ٍ ربيعي دافئ اتصل به الرجل الطويل ( أبو المعتصم ) وأبلغه بعقد اجتماع لأمراء قاطع العمليات الذي يعمل ضمنه ، في ناحية قصية آمنة . في هذا الاجتماع طُلِبَ منهم التهيؤ للسفر ، والتسلل إلى سوريا . قالوا أن الله منّ عليهم ، وفتح لهم فتحا ً مبينا ، واتسع نطاق جهادهم ذاك ليشمل العراق وبلاد الشام . ودعما ً للمقاتلين الذين يخططون لشن هجمات واسعة النطاق وفرض السيطرة على مجموعة من البلدات السورية ، عجّلوا بإرسال الرجال والسلاح إلى هناك ، في سباق ٍ محموم مع فصائل مسلحة أخرى لا حصر لها .
أطربهم هذا الخبر ، فكبّروا وهلـّلوا ، وقالوا :
" إن سوريا هي أرض الرباط والجهاد والأمجاد " .
غير أن مفاتن ذلك البلد ، في الواقع ، كانت هي التي تحرّك المطامع وتثير الرغبات .
وسرعان ما دخلوها كالفاتحين ، ليجدوا فيها أفياء ً أفاء بها الله عليهم .
في هذه البلاد انبهر ( العقرب ) أيما انبهار وهو يرى أقوام العالم كلها هناك ، من مشرق الأرض ومغربها ، من كل حدب ٍ وصوب جاءوا إليها !. البدو والحضر ، الكنعانيون والفينيقيون ، الروم واليونان ، البربر ، القرطاجيون ، الأحباش والنوبيون ، الخراسانيون ، الأندلسيون ، الحميريون ..... يا إلهي من يصدق أن الشراكسة يقاتلون هناك أيضا ً . وبالرغم من غرابة هذا الخليط العجيب من الناس إلاّ أنهم اقتسموا البلاد قسمة ً عادلة ، لكل سيف ٍ ألف رقبة .
على ربى بلاد الشام ، أو في غياطها ، ومنازهها ، كان الربيع جنة الله الساحرة . لم يصدق عينه وهو يتأمل في كل هذا الجمال الربّاني ، بعد أن أفنى شبابه بين المواشي وأوساخها ، في أرض مجدبة لا تنبت غير عشب ٍ قصير العمر . في هذه الأجواء الجميلة ، بين الرياض والرياحين ، أحس بالراحة والرغد . أزداد وزنه بشكل ملحوظ ، كما تحركت رغباته الدفينة .
لم يفترق عن ( مسعد ) يوما ً واحدا ، بقيا متلازمين ، يذهبان ويؤوبان معا ً . جعل سرّه على تخوم قلبه . وفي الليل يرقدان إلى جوار بعضهما . لطالما لدغته عقرب الرغبة ، في نداوة الليل ونعاسه . ما أن يفز في الغلس ، ويشم روائح جسد الليل العاري ، تفز أحاسيسه من نومها أيضا ، مرتعشة ً ورامية ً عنها الأغطية والأستار .
تمتد كفه لتعبث بشعر ( مسعد ) قبل أن تنزل لتلامس جيده الأملس ، الذي يقشعر سريعا ً مثل جيد فتاة ٍ يافعة . في الغلس ما أن يتسرب إلى راحة الكف طعم الدفء الطري حتى يهزها الطرب فتنحدر مغنية ً على الربى والسفوح . في هذا الليل كانت اللمحات الخاطفة وحدها كافية لتملأ السماء بشذرات الألوان المتراقصة .. في الليل ، كما في كل ليل ، تنطلق من جوف الظلمة الزرقاء الباردة ، صرخة ألم ٍ مكتومة ٍ .. صرخة ٌ تجرجر ذيلها الشبق الطويل ، وتخلب الأسماع .


في الشام تعلـّم ( العقرب ) فنونا ً جديدة في القتال ، تفجّرت عيون الإبداع في أعماقه ، وبرفقة أولئك الأشدّاء ، المتسابقين على الافتراس ، اكتسب مهارات وحشية فريدة .
كانت الكثير من الأعمال العنيفة مجرد استعراضات إعلامية لا غير . كان يسمعهم يرددون قائلين :
" إن نصف العمل في الحروب لوسائل الدعاية والإعلام " .
ذات مرّة ٍ كان جالسا ً بين مجموعة ٍ من المقاتلين الشيشان ، وحالما أزف موعد العشاء أولموا نارا ً حامية ً . ثم أتوا بشاب ٍ أسير وذبحوه ، اجتثوا أحشاءه ، وراحوا يشوونها في تلك النيران المتأججة . وتأهبوا لأكلها ، فيما كان مصور تلفزيوني قد انخرط في تصوير هذا العمل الغريب بكل دقائقه .
تصاعد دخان النار أشهبا ً ، يشيع رائحة شواء حادّة .. رائحة ليست لذيذة ، غمرت الأرجاء ، واختلفت عما ألفه ( العقرب ) من روائح شي اللحوم عادة ً . اختلجت في دواخله علامات الرجولة ، فتناول غصنا ً رفيعا ً من أغصان الأشجار ونخس فيها عددا ً من قطع اللحم البشري ، ودسها في النار .تعمـّد أن يبقيها تحترق وقتا ً أطول في الجمر . لم يكن مهيأ ً لأكل لحم ٍ بشري ٍ في الواقع ، ولكنه كأمير ٍ لابد له من المشاركة وأن يظهر مقدرته على فعل ذلك .
ودونما أن يترك أية فرصة للتعرف على نكهة هذا اللحم ، ازدرده سريعا ً ، وكأنه يأكل على طريقة الذئاب . إن الأهم في كل هذا أنه شارك في الوليمة ، وتم توثيق الأمر . قبل أن يهب واقفا ً ، وهو يغادرهم ، رأى أحدهم يحمل رأس الضحية ويدسه بين الجمر المشتعل ويقول لأصحابه :
" إن أنفه كبير ٌ وشهي ٌ ، سألتهمه بمفردي " .
وعلى الرغم من كون الحادثة لا تعدو أن تكون مقطعا ً شبه تمثيلي ولعبة ً من اللعب القذرة ، إلاّ أنها أورثت في نفسه الشريرة أثرا ً عميقا ً راح يحرك جموحه القاتل .
" لا تكن رحيما ً ، أينبغي أن أوصيك بذلك كل حين " .
كان ينصح ( مسعد ) الذي تفجّرت طاقاته الخبيئة هو الآخر أيضا ً ، فانبرى يبطح كل من يصادفه أرضا ً وينحره . أعجبوا بأفعاله الجريئة ، النزقة ، أعلنوا أنه القاتل الواعد ، وعلـّقوا عليه بعضا ً من آمالهم الجسام . تبين لهم أن مؤهلاته تختلف عن كل من سبقوه . ولم تكد تمضي الأيام حتى عقدوا له لواء الإمارة ، وأطلقوا عليه لقب ( أبو جهاد ) .. لعله وجد في هذا الجهاد ما يملأ به خواء روحه ، فكان مغامرا ً يبحث عن الخطر في كل مكان .
الواقع أنهم جميعا ً قساة القلوب . فهذا رجل من أهل الجزيرة ، يتصلون به عبر الهاتف ، ليزفوا إليه بشارة ولادة زوجته غلام جميل ، غير أنه لم تلح على وجهه الغبطة ، ولا طرف جفناه ، ولا ارتسمت على وجهه علامة من علامات الاستبشار . كان يبدو أن العالم بكل حيواته لا يعنيه بشيء . ومع ذلك أسرع وأختار له أسما ًمن أسماء القتلة في التاريخ . أسم قائد عَبـَرَ صفحات ٍ من التاريخ مطلولة ً بالدم ، جاء إلى الحياة ، ثم مضى إلى حتفه وهو شاهرا ً سيفه ، والدماء تقطر على أقدامه .
هؤلاء جيل من المجاهدين الحائرين ، الذين عَلَقوا في ورطة الدمج بين الله والدم ، حتى باتوا كأنهم غيوم سوداء تائهة "..



وشَهِدَ يقول :
" وجد ( العقرب ) نفسه في حرج ٍ ودوّامة ٍ من الضيق فجأة ً . لم يستطع البوح بهما لأحد ، وظل يقاسي جراءها أياما ً موحشة ، جرداء ، أشدُ مرارة ٍ من الحنظل . ذلك لأن أوامر َ صدرت من قيادته تطلب منه العودة للعمل في العراق ، بينما بقي ( مسعد ) أميرا ً يقاتل هناك . إن سلخه عن ( مسعد ) بمثل هذه الطريقة أمر ٌ لا يختلف عن قتله ، ولكن أنّى له الرفض أو الاحتجاج . تقبّل الأوامر صاغرا ً ، أشبه بمن ابتلع الموسى . إن ذكرى بكاء ( مسعد ) وهو يودعه ستظل ماثلة إلى الأبد .. ستظل كالختم الأزرق على صفحة مخيلته . كانت دموعه تنزل عشرة ً عشرة ، وصوته مبحوح ، كصوت الطفل الباكي ، وهو يرتجف وينشج ، أمسك بيده بحرارة وقال له :
" إن جسدي سيظل يرتعش كلما افتقدتك " ..
اكفهرت ألوانه ، وعماه حزن الفراق حينما وطأت أقدامه أرض العراق . توجه مباشرة ً إلى جبال حمرين ، في شرق البلاد ، ليتولى قيادة معسكرا ً سريا ً في شعاب الجبال ، لتدريب المقاتلين ، وتفخيخ العجلات ، ودعم الخلايا المقاتلة على طول مجرى نهر دجلة .
كان هذا الملجأ الوعر قد هيأ لهم إمكانية تنفيذ العديد من عمليات القتل والخطف والتفجير .
وفي أيام قدومه الأولى ، ظهر فجأة ً في قرية ( المدّاحية ) ، وبعض القرى المجاورة لها ، ليقود معه شلـّة ً من الشبان المتطوعين الجدد .
عاد ( العقرب ) من الشام بسمعة ٍ لائقة ، وروح ٍ صلبة ، وسريرة ٍ متوحشة . أصبحت هيئته تفرض على المقاتلين الطاعة والانقياد الأعمى له . كان أشعثا ً ، زائغ النظرات ، وسخا ً لا يميل إلى النظافة . مظهره يوحي ببرودة القاتل ، تلك البرودة الجبلية التي تجعل من صاحبها سرا ً موغلا ً ، ورهيبا ً له هيبة ً عميقة في النفوس . غالبا ً ما يطل من مخبئه ثائرا ً ، غاضبا ، مثل ذئب ٍ أُفرِدَ عن أنثاه .
إن العمليات الإرهابية التي نجح في تنفيذها كانت أكثر رعبا ً ودموية من غيرها . وكانت آخر تلك العمليات التي أفاضت الألق على صورته ، وزادت رجال الإرهاب انبهارا ً به ، عندما نجح بخطف ضابط شرطة وعائلته بأكملها . وبعد تصفيتهم جسديا ً ، راح يشوي أحشاء الضابط على طريقة الشيشان في الشام ويأكلها ، في فصل ٍ دعائي جديد ، أمام أنظار أتباعه . ثم عمد إلى بقر بطن طفلته وشق صدرها ، وحشوهما بالمتفجرات ، ووضع جثتها المفخـّخة على جانب طريق رئيس ، لتنفجر وتقتل عددا ً آخر َ من رجال الشرطة .
امتدت فعاليات مجموعته إلى تخوم العاصمة ( بغداد ) ، وبعد أيام ٍ أخرى ترك بصماته في عموم العاصمة .
في جنوب ( بغداد ) أصبح ( العقرب ) يبرز فجأة ً على رأس ثلـّة من عتاة الطريق ، ليقطع الطريق الذي يربط بين العاصمة ومحافظات الجنوب . كان يختار مواضع َمدروسة ، كما لو أن الشيطان أوصى بها ، يسهل له توجيه الضربات فيها ثم التواري عن العيون سريعا ً . كانت أغلب تلك المواضع قريبة من ناحية ( المدائن ) . إن البساتين والبعض من القرى الزراعية كانت حواضن آمنة لهم . كان ( العقرب ) يحبذ أن يفرض سيطرته على هذا الطريق في ساعات الأصيل تحديدا ً ، حيث لا وجود لدوريات الشرطة في هذا الوقت ، ومن العسير على أحد ٍ تأمين الاتصال مع أجهزة الدولة .
طوال فصل الشتاء ظل هذا الطريق السالك يمثل برّا ً وفير الصيد . تظهر فيه هذه المجموعة على حين غرة ، وهي تشن غاراتها التنكيلية . تصنع حاجز ا ً في عرض الطريق يجبر المركبات على التوقف ، يغلقون الطريق بكتل ٍ من الطين الجاف ، بينما يقفون جانبا ً ، متربصين ، متأهبين ، ويشهرون أسلحتهم . وعلى مقربة ٍ منهم يقف ( العقرب ) مثلما يقف ضابط المرور ، متعاليا ً ، باردا ً ، يدس يديه في جيوب بنطلونه العسكري ، ونظرته مسدّدة كالموت . حالما يقتنصون عربة ، يلجئون إلى إخلاء جميع المسافرين منها وذبحهم بلا رأفة ٍ ولا تمييز . وفي بعض الأحيان يطلقون سراح شخصا ً واحدا ً لا أكثر ، بعد أن يلحقوا به إصابة فادحة . بغية أن يذهب ويروي تفاصيل ما حدث ، ويشيع الذعر والخوف ، ويشل الحركة على الطريق .
كان بإمكانه قتل الكثير من المسافرين ، غير أنه يكتفي بعدد ٍ محدود ٍ لكل يوم ، تحاشيا ً لإشعال غضبة ً عارمة بين الناس ، أو ردة فعل حكومية عنيفة ، تطيح بهم وبنشاطهم الإرهابي .
هؤلاء الأبرياء من أكثر الأهداف تيسّرا ً ، إن القبض عليهم من قبل هذه الزمر ، أكثر يسراً من الإمساك بالحيوانات الأليفة والطيور الدارجة .

في شهر شباط ، اعتدل الجو وصار لطيفا ً . توقف ( العقرب ) عن أنشطته ، ليمنح نفسه ورفاقه قسطا ً من الراحة ، وليخدع رجال الأمن ، الذين أمست دورياتهم تجوب المنطقة بحثا ً عنه .
توقف ( العقرب ) عن عملياته بعد أن ذبح عائلة بأكملها ، إلى الشمال ، بعيدا ًعن (المدائن ) بغية التمويه عن ميدان العمليات . لأيام عديدة ابتعد ، ونجح في إيهام الجميع بأن الطريق عاد آمنا ً ، لا تعكر صفوه الدماء .. ثانية ً تدفق السير في حيوية ٍ ، وكان أصحاب المركبات يتبادلون الأخبار الحذرة أثناء تنقلهم عبر الطريق .

في آذار ، هبّت ريح عاتية ، تخللها مطر ٌ غزير ٌ ، استمر متواصلا ً يوما ً بطوله . في أعقابه خرجت مجموعة الذبح على غفلة ٍ ، عند الأصيل . نصبت لها حاجزا ً طينيا ً في عرض الطريق ، قريبا ً من ناحية ( المدائن ) . كان الصمت جاثما ً على طول الطريق .
بينما واصلت الغيوم تلبدها ، وهبطت برودة المساء باكرا ً ، كأنها برودة الموت ، وكانت أطراف ملابسهم تخفق في غمار الريح وتلطم أجسادهم . بدا ( محمد العقرب ) بكل تفاصيل وجهه المخيف إرهابيا ً حقيقيا ً . كانوا يقفون على جانبي الطريق ، وهم يرهفون السمع إلى الأصداء البعيدة . باتوا يميزون بين أنواع المركبات القادمة من الأفق بمجرد سماع دوي محركاتها التي يزأر صوتها من بعيد ، ويظل يعلو رويدا ً كلما اقتربت .
ليست سوى بضعة دقائق مرّت على وجودهم حتى توقفت عند حاجزهم عربة صغيرة تقل أربعة مسافرين ، وفي لمحة ٍ خاطفة انقضوا عليها وأحاطوها ببنادقهم من كل الجهات . بينما أطل أحدهم بوجهه عبر نافذة العربة ، سأل المسافرين سيلا ً من الأسئلة التافهة ً ، لم يترك الرعب أية فرصة للإجابة عنها بوضوح . كان المسافرون حيارى ، مطرقين . فتحوا لهم الأبواب وأمروهم بالترجل من العربة فورا ً . قاموا بتفتيشهم وتجريدهم من كل شيء يحملونه معهم ، ثم قيدوا أياديهم خلف ظهورهم ، وقادوهم بعيدا ً عن الطريق ، إلى داخل أجمات من الشجيرات ، في أرض ٍ طينية ، لم تزل مشبّعة بماء المطر . هناك أركعوهم في الأوحال وأخذوا يكيلون لهم السباب والكلمات المتجرئة ، المقذعة .. كانوا جميعا ً في أجمة الشجيرات ، وعلى الرغم من أن هذه الشجيرات لا تعلو كثيرا ً فوق رؤوسهم ، إلاّ أنها بدت أكثر عتمة ٍ ورطوبة ٍ عما جاورها ، وكافية ً لسترهم من الأنظار ، كانت أنفاسها الثقيلة أشبه بأنفاس المقابر .
خاطب ( العقرب ) الرجل الأكبر سنـّا ً بين المسافرين ، وكان رجلا ً وقورا ً ، يرتدي الملابس العربية ، قائلا ً له :
" نحن نكرهكم ، لا نريد أن نعيش معكم ، لا في دار الدنيا ولا في دار الآخرة ، ولهذا سنملأ بكم جهنم " . تكلم هكذا بعد أن أزاح آخر قطرة حياء ٍ عن جبينه . تكلم بطريقة ٍ كما لو أنه حاقد ، متغطرس . نظر الرجل في ذهول ٍ ، وفكـّر في سريرته لماذا لا يذهب هذا القاتل ويبحث عن أرض ٍ يعيش فيها وفق أمزجته ورغباته ، إنه بالتأكيد سيكون مرتاحا ً وهو يستقر بعيدا ً عن الناس ..
لم يرتسم الرعب على وجه الرجل ، مثلما كان ثائرا ً على وجوه المسافرين الآخرين . يبد ُ أنه تشمّم رائحة الموت الذي أحاط بهم ، فوقف ينتظره بوقاره الذي لم يتزعزع . لم يرغب في إثارتهم ، وردّ على أقوال ( العقرب ) المتطرفة ، في غاية الهدوء ، وهو يقول :
" هل تعني أنك تريد أن تملأ جهنم بالفقراء والمساكين ؟ " . غير أن ( العقرب ) سحب الرجل بعنف من لحيته الصغيرة الناتئة ، وأمره قائلا ً :
" تأدب ْ وابتلع ْ لسانك " . نظر الرجل إليه نظرة ً يائسة ، لا أمل للحياة فيها ، والتزم الصمت .
فتح أحد أفراد المجموعة جعبته ، وأخرج منها بضعة صفائح معدنية ، كانت تلمع كالفضة . وضعها على الأرض ، كانت تزيد على الخمس قطع ٍ . على صفحاتها عَلـِقَت بعض الحبيبات الدهنية الصفراء ، المتجمدة . كانت هذه القطع في الأصل علبة معدنية من علب الزيوت النباتية ، وتم قصّها إلى عدة أجزاء ، تميزت حوافها القاطعة بحدّتها المرعبة . بالطبع كانوا يحتفظون بحرابهم في أحزمتهم أينما يذهبون . من السهولة بمكان على أي منهم أن يستل حربته ويذبح هؤلاء المساكين من دون أي إشكال في الأمر ، لكن ( العقرب ) لم يكن راغبا ً في ذلك . أراد أن يذبح ، أمام حشد ٍ من العيون المتعطشة ، بطريقة ٍ شيطانية مروعة ، كفيلة ببث الخوف والجبن في قلوب جميع من سيسمعون بأنبائها قريبا ً .. أراد أن يظهر كشيطان يطوف حول الطرقات ، وليس هنالك من يكبحه .. أن يظهر كعقرب حقيقي متسربل بسمعة ٍ خطرة .. سمعة السم الزعاف ، الذي يملآ خرزات ذنبه . لقد شحذت تجارب الشام مهاراته الإجرامية بشكل يفوق الوصف ، وها هو يستعرضها ، في زهو ٍ واختيال ، على خشبة المسرح الدموي الجوّال .
تقدم ( العقرب ) وتناول قطعة ًمن تلك القطع المعدنية ، وراح يجرب كيف يمكن أن يمسك بها بحرية ٍ لتعمل في يده بشكل مريح . ثم أشار إلى شاب ٍ صغير من المسافرين ، وقال لأتباعه :
" لنبدأ بهذه النعجة الصغيرة أولا ً " ..

ارتعدت أوصال الشاب ، وتبلـّلت عيناه بدموع الخوف الرهيب ، بعدما أستشعر ما يبيته له ( العقرب ) من عمل ٍ بشع لا يصدق .
في الحال أمسك به اثنان من أتباعه ، وطرحوه على ظهره ، وثبتوا جسده إلى الأرض بأحذيتهم الملوثة بالطين ، وكان جسد الشاب يرتعش كالمساء . أخذ يتوسل بهم في صوت ٍ متأوه ٍ ، ضائع ، مؤثر ، كما لو كان صوت يمامة ٍ تنوح . لم يُفهَم منه شيئا ً ، سوى أنه تَوسّم فيهم النخوة العربية عبثا ً .أزاحوا قبة ثوبه عن رقبته الرقيقة ، جثا ( العقرب ) فوق رأسه مهتاجا ً ومستثارا . شفتاه انفرجتا عن ابتسامة صامتة ، مدمّرة . حاجباه منحرفان نحو الأعلى مثل خنجرين جُرِدا للذبح . قال له أحدهم في غطرسة ٍ وتبجح : " اذبحه من لوزته " .. إنهم لا يعرفون غير الذبح من اللوزة ، إن العنق بطوله لا يغريهم مثلما تغريهم اللوزة .. وغرس دونما تردد صفيحته المعدنية في عنق الشاب ، الذي ومضت عيناه الدامعتان مثلما يومض الماء في النهر فور سقوط الضوء فوقه . أخذ يذبحه ، بينما كبّر أتباعه معا ً بصوت ٍ شق الصمت المشدوه في الأجمة .. إنبجست دماء الشاب فوّارة . وفي لحظات ٍ نهض ( العقرب ) وهو يحمل الرأس المجتث من شعره ، ورماه جانبا ً في الطين .
اهتزت الجثة بعنف ، وتقلـّبت حول نفسها باضطراب وخفة ، كأنها طير ٌ ذبيح . خبطت الأطراف في الوحل خبطا ً شديدا ً ثائرا ً ، دفع بالمسلحين أن يتراجعوا عنها ، في ذعر ، بعد أن رشقتهم قطرات من الدم ، وذرّات من الطين المتطاير . وما لبثت أن تشنجت الأطراف ، وراحت القدمان تحفران في الطين ، وتدفعان الجسد إلى الأمام .. إلى الأمام حثيثا ً ، كأنها تبحث عن الرأس المفصول عنها ، بينما التوت الأذرع مثلما تلتوي الأعواد متكسرة ً . كان الدم يفح بصوت ٍ مخيف . رفضت الجثة أن تموت ، كافحت وتشبثت بالحياة تشبثا ً مجنونا ً . سال دم ٌ عبيط قان ٍ ولطّخ الجسد والأرض ، واختلط مع الطين ، تدفق فوق الأرض غزيرا ً ، وارتفع منه بخار شفيف ، رفعته الريح نحو السماء سريعا ً . تسلـّلت رائحة الدم فورا ً وأطبقت على نفحات الأرياف التي كانت تحيط بهم . وقبل أن تهمد الجثة تماما ً ، انتفضت من جديد ٍ بشكل ٍ مرعب ، كما ينتفض الجسد الحي ، وفي انتفاضتها أمست قريبة من شاب آخر من المسافرين . غير أن الوهن بدأ يدب فيها ، وراح الذراعان والساقان يأتيان بحركات ٍ ضعيفة ٍ لينة ، تشبه حركات الرضيع الذي تحرّر من أقمطته للتو . فانكمشت ملامح المسافر القريب منها فورا ً ، وهبط بوجهه نحو الأرض ، وراح ينشج في الوحل . بينما كان الرأس الذبيح مرميا ً جانبا ً في الطين ووجهه نحو السماء ، وكان يبدو جميلا ً ، مرتب الشعر ، ناعم الخدين ، غير أن النظرات الدامعة فيه ، ذبلت وأمست تشبه نظرة الخراف الذبيحة .
كانت السماء دفتر حزن سميك وافر الأوراق .. دفتر من السحاب الأشهب والسحاب الرمادي ، وأمست الريح تهفهف مسرعة ً وهي تقلـّب أوراقه .
جثا المسافرون الثلاثة الآخرون وقد جحظت عيونهم ، وجفـّت الدماء في عروقهم ، ودارت بهم الدنيا . كان السحاب يحجب حنان السماء ، والريح تنوح بين الأشجار ، ولم تبدر عن الربيع أيما بارقة لتزيح دثار الشتاء القاتم الثقيل .
مسح ( العقرب ) الدماء عن كفيه ، وتناول صفيحة ً أخرى ، وأشار إلى معاونيه أن يثبتوا له الرجل الكبير السن على الأرض . على الفور أمسكوا به ، وأطاحوا عن رأسه كوفيته وعقاله ، كاشفين عن شعره الأشيب ، وراح الرجل يستغيث بربه بأفجع العبارات وأصدقها ، بصوت ٍ مشبع بالأسى ..

وكان من المؤلم سماع ذلك التفجع ، وما أن غرز( العقرب ) الصفيحة في عنقه ، وتفجّرت الدماء منها حتى لعلع الرصاص فوق الأجمة ، قادما ً من صوب الطريق .
تفاجأ الإرهابيون تماماً بهجوم الشرطة الذي لم يكن في الحسبان ،اعترتهم حالة من الذهول والارتباك . ولم يكن بمقدورهم التفكير في أي حل ، وقد طار صوابهم ، وحلّ بهم الذعر ، فلم يجدوا أمامهم من سبيل ٍ سوى الفرار . حملوا بنادقهم ، وانطلقوا سريعا ً بعجلتهم المركونة جانبا ً . هربوا عبر الأرض الطينية اللزجة نحو إحدى القرى ، التي تقع في مرمى الأبصار . ما عاد أمامهم من خيار ٍ بديل آخر . . هربوا وتركوا صفيحتهم مغروزة ً في عنق الرجل والدم يفيض منه على الأرض جداول َ..
تقدمت عربات الشرطة في إثرهم وزخـّات رصاصهم تنهمر . كانت العربات تخوض في الطين بطيئة ً ، وهي تتوعث في سيرها . نجحت إحدى عربات الشرطة في ملاحقتهم ، ورشقهم بسيل من نيران رشّاشتها المحمولة ، وألحقت بعربتهم الدمار ، فلم يجد الإرهابيون سوى الترجل منها بغية النجاة بجلودهم . هرولوا ، بالكاد ، في الأرض المزحلقة في شتى الاتجاهات ، لكن نيران الشرطة حصدت بعضهم .
استمرت مطاردة فلولهم فترة ً قصيرة تم فيها القضاء عليهم واحدا ً واحدا . لم ينج ُ منهم سوى أميرهم ( العقرب ) ، الذي اتخذ من درب ٍ ضيق ٍ ، لا تمشي عبره السيارات ، ممرّا ً لهروبه ، باتجاه تلك القرية القريبة ، مما حدا بضابط الشرطة إلى الترجل عن مركبته والانطلاق ركضا ً خلفه يتبعه رجلان من الشرطة . وتمكن الشرطيان من رشقه وإصابته في حوضه ، غير أنه مضى يحجل مسرعا ً على الطريق .. لكنه ما أن قطع مسافة قصيرة أخرى حتى أخذ يترنح ، مستنزفا ً ، وهو يسقط في الطين ثم ينهض ، ليعود يسقط ثانية ً . وسرعان ما لحقوا به وأحاطوه .
كان ( العقرب ) ـ بعد أن أخذ الإعياء منه مأخذه ـ قد تخلص من أحماله الثقيلة ، راميا ً عنه جعبته ، وحتى سترته الثقيلة .
وبعد ملاحقة ٍ قصيرة ٍ أخرى سقط ( العقرب ) خائر القوى . تقدم منه الضابط على حذر ، غير أنه بقي مرميا ً في الطين ، وقد استسلم تماما ً ، يكاد يغشى عليه ، يلهث لهاثا ً مسعورا ً ، و يسحب أنفاسا ً عميقة من الهواء لا تكاد تكفي تنفسه . كان عاجزا ً تماما ً ويهتز كالقصبة .
جرّدوه من سلاحه وحملوا جسده إلى مرتفع من الأرض الترابية ، على جانب ٍ من ساقية ضيقة . وهناك انحنى الضابط فوقه ، أمسك بتلابيب قميصه ورفعه نحوه عن الأرض قليلا ً ، وهو يدني وجهَه من وجهِه ، ويتفرس في عينه التالفة . وسأله :
" أنت ( محمد العقرب ) أليس كذلك ؟ . "
أرتجّ ( العقرب ) لسماعه السؤال . طرفت عيناه بحدة ، وكأنه استعاد وعيه للتو . تبدّد ما علق في جفنه من أوهام ، فقد انسدل ذلك الجفن ذابلا ً ، كأنه غلافا ً قاتما ً أطبق على دفتر الأمنيات اليائسة . ثم لاذ بالصمت . كان السؤال طلقة ً أصابت نحره وأردته قتيلا . من الصعب جدا ً على قاتل ٍ مثله أن يسمع غريبا ً يناديه باسمه . هوى به السؤال إلى وادي الهلاك ، ولم يعد بإمكانه أن يلفظ حرفا ً واحدا ً .. كان ذلك السؤال مُعذّبا ً جدا ً ، وارتسمت لمحات العذاب على جبينه العريض .
" أجبني هل أنت ( العقرب ) ؟ .. " لاح للعيان مثل رجل غريب ، تعيس ، أصم ، ولكنه يستطيع الكلام ، وعليه أن يتكلم في نهاية المطاف . يبدو أن هذا الاسم شؤما ً حتى بالنسبة له . انكمش على نفسه ، جعله السؤال يشعر بأن جسده أمسى صغيرا ً للغاية . تمنى بحرقة ٍ لو أن الأرض تنشق وتواريه في بطنها حالا ً . لم يكن في الحسبان أن يسقط هكذا ، غريبا ً ، وبين أيدي غرباء ، ممدّدا ً في الوحول ، تحت سماء ٍ مثقلة بالغيوم . احمرت عينه ، وتلوثت شفتيه السوداوين بالزبد . كان يشبه جنديا ً استسلم في نهاية معركة خاسرة .. " أوَ تدري ، أنني لا أنوي على الإطلاق أن ألفظ أسمك الدنس ، لأنه سوف يفسد هواء العالم كلما ذُكِرَ ؟ .. " في تلك اللحظة فقط ، وبعد زمن ٍ طويل ٍ ، لمحت في أعماقه ، مثل البرق ، رغبة ً جارفة ، في أن يكون الآن في مراعيه بين قطعان المواشي ، بعيدا ً عن الناس ، ويعيش في سلام . في مآل الأمر غالبه الحنين ، وغمرته رغبة حميمية في البكاء . ووجد الضابط نفسه أنه بحاجة ٍ إلى جهد ٍ جهيد ليتمكن من انتزاع الجواب من بين شفتيه .كان الضابط منهكا ً من التعب ، والعرق الغزير يغمره ، وعيناه تتصبب غضبا . يبدو أن لديه المزيد مما يمكن أن يقوله ، غير أن فسحة الوقت كانت ضيقة .
انحنى عليه مجددا ً وقال له :
" أنا لا أتشرف بقتلك ، أنت لا تستحق حتى من يدنس يديه بدمك ، ولكن ليس من حقي أن أدعك تعيش .. "
وهنا وضع الضابط حذاءه العسكري الثقيل فوق رأس ( العقرب ) وراح يفركه بكل ما في الغضب والحقد من قوة ٍ . كان ينزف عرقا ً ، ويرفع أنفه عاليا ً ليستاف هواء الحقول الرخي ، ويواصل الضغط وهو يطبق ويشد على أسنانه غيضا ً . ما أن وقعت عيناه على اللوح المعدني المغروز في حنجرة الرجل ، الكبير السن ، والنظرة المصعوقة ، المجنونة ما برحت عينيه .. ظل ّواقفا ً فوق رأس ( العقرب ) يغالبه الإحساس بأن ذلك اللوح كان مغروزا ً في رقبته هو ، وشرع يكافح من أجل انتزاعه بكل ما أوتي من قوة ٍ ، فأطلق العنان لنفسه وهو يضغط ويرفس بقدمه بغضب ٍ وإصرار ٍ حتى الصميم . قاوم (العقرب ) بقوة ، تلوى جسده يمنة ً ويسرة ، وتمكن من أن يرمي بالضابط بعيدا ًعنه ، بعد أن غرز أظافره في ساقه وشرطها ، إلاّ أن الشرطيان سارعا وأمسكا بأطرافه الأربعة ، ومنعوه من الإتيان بأي حركة ٍ ، وعاد الضابط يطحن رأسه من جديد . قاوم ( العقرب ) لوقت ٍ أطول ، لكن عزيمة الضابط لم تفتر ، وهمته لم تضعف . واظب على سحقه بينما كان العرق يتفصد منه كالمطر . كان الحذاء يغل أنف ( العقرب ) وفمه . في غضون دقائق بان أنفه مدكوكا ً ، وانهرست شفتاه السوداوين فوق وجهه ولم تعودا شفتان ، وكان يختنق ويصدر شخيرا ً واهنا ً ، بينما اشتد قبح عينه المعطوبة . هبّت نسمة من هواء الغسق ، وملأ الضابط رئتيه مجددا ً من نفحها البارد . أخذوا يسمعون انبعاث الأنين المكتوم والحشرجات المتقطعة من تحت الحذاء . في المساء ، لاح الضابط الممتلئ القوام ، بوجهه المدور الأسمر وشاربيه الطويلين وملابسه المرقطة الداكنة الزرقة ، مثل كتلة من الصخر الأصم .. كتلة ثقيلة من الصخر جثمت فوق رأس ( العقرب ) ومرّغت وجوده في الوحل . وحينما رفع قدمه عن رأسه أخيرا ً ، كان ( العقرب ) جثة ً هامدة .
يا للمفارقة العجيبة ، لقد سُحِقَ حتى الموت كما تُسحَق العقارب عادة ً ! ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع