الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هنا قبر أبي (قصة قصيرة)

رستم أوسي

2015 / 11 / 25
الادب والفن


أزّت المكابح و ارتطم وجه فارس بظهر ابن خالته البدين الذي يجلس أمامه ضمن صف البشر المفترشين أرضية الباص ، المتوجه شرقاً دون تردد. ((حمار في الطريق!)) صاح صوت من الأمام مجهزاً على دهشة القابعين في المؤخرة. محظوظة هي الحمير! ، حوّل فارس نظره عن السدّ البشري أمامه إلى الأراضي المنبسطة التي عادت لتنزلق من جديد على نوافذ الحافلة ، ذلك يكفيها لتنجو. لكن أين حظ المجتهد؟ إلى من يعنيه الأمر ؛ غمغم كمَن يهلِس ضاحكاً. أقسم أنني تدبّرت الأمور من كل وجوهها. فكرت في كل كبيرة و صغيرة. لكن!. كان عُبوسه يتجاوز النافذة العريضة و يقلق راحة المواشي و الشمس و استقرار دول الجوار. لم أشأ أن نبقى في بصمنة بسبب كثرة المهاجرين و مشاكلهم هناك. غادرنا رفقةَ مجموعة من السوريين باتجاه النهر شرقاً. استقرّينا في منطقة تبعد عن حيّ بصمنة سبع دقائق ، حيث انحدرت باحة عشبية مائلة تفصل بين الطريق الفرعي أعلاها و رواسب النهر الاصطناعي الناضب في الأسفل ، غير عارفين بالمصيبة التي تنتظرنا.
لطالما حسبتُ النقود في مأمن ؛ منذ تلك اللحظة في حلب قبل أكثر من سنة ، حينما دسّت أختي رزمة الدولارات في جوف عباءتها قبيل أن تسافر مع زوجها إلى ملاطيا ، و حتى منتصف ليلة البارحة ؛ خرجتُ من حلب لا أحمل معي غير أجرة الطريق ، تحسّباً للكتائب و عصابات السرقة. مررت بملاطيا قبل مجيئي إلى إزمير كي أحضر النقود. و مع وصول ابن خالتي كان معنا إجمالاً مايعادل ثلاثة ملايين ليرة سورية. لم يسبق و أن حملت مبلغاً كهذا. كان يفترَض أن يكون موعدنا مع المهرب اليوم صباحاً ، من أجل إيداع النقود عند طرف ثالث على أن تبدأ رحلتنا إلى اليونان غداً باليخت من مرمريز.
وصلنا إلى الباحة العشبية الشؤم قبل حلول المساء بقليل. تعرّفنا على واحد من الناس الكثر هناك و مضى يقص علينا المألوف و الغريب من الحكايا ؛ لم تكن سالفة الشرطة ، و نقلهم للسوريين العابرين قسراً إلى مخيمات ضخمة في مدن غير ساحلية لينتظروا إجراءات منح التصريح بالإقامة (الكامليك) ، بالخبر الجديد بالنسبة لنا. لكن قصة العصابة ، التي زحفت على هذا المكان قبل يومين و نهبت الناس ، هي ما استوقفنا أثناء الحديث. تبسّمتُ بدايةً (( لاتخف خال ، آخدين احتياطنا.))
تململ الرجل الأربعيني في جلسته و هو يتنهّد ، قبل أن يهمس في أذني ((أعرف أنكم تخبؤون المال في جيوب سراويلكم الداخلية)) ، ثم جهر بصوته ((و الحرامية يعرفون ذلك جيداً أيضاً. قبل وصولنا إلى هنا بيوم كانوا قد خدروا النائمين في هذه الباحة و نبشوا كل ما يمكن نبشه.)).
تسامرنا حتى منتصف الليل ، ثم غادر الخال و عائلته بعد أن وهبنا ما كان يفترشه أولاده من قطع كرتون ، شرط أن نعيدها إليهم في حال لم يبحر القارب المطاطي بهم في تلك الليلة.
لا أصدق أنني ضيّعت كل هذا المال. مال عليه أحدهم من اليسار و دفعه إلى مواجهة الكتف الخشن على يمينه على وقع انعطاف الباص. يلعن أبو هالحالة. ((هشّ)) جهر و هو يرمق سقف الباص. بعد كل هالعذاب وين رايح؟! لَعَمى! تعب 5 سنين. شوّح بيده في الهواء.
لم يكن فارس قد أتمّ عامه الأوّل في الجامعة حين توفي والده ، بعد مصارعة مع المرض. استحقت عائلته معاشاً تقاعدياً ضئيلاً ، كونه موظف دولة ، و إعانة وفاة تدفع لمرة واحدة من قبَل جمعية المعهد الزراعي. و لمّا تأخرت الإعانة تبيّن أنها قد لا تأتي أبداً ، بسبب تقصير الوالد في دفع رسوم عضوية الجمعية خلال حياته. صرف فارس التفكير عن الموضوع لمدّة ، إذ اتضح له أنّ الرسوم مع غرامات التأخّر عن الدفع تصل إلى 170 ألف ليرة ، في حين لا تتجاوز الإعانة التي سيحصل عليها 200 ألف ، إلى أن صدر مرسوم عفو جزئي عن تلك الغرامات يخفض قيمتها إلى النصف. هكذا ، و بفضل تعاون أحد الموظفين في الجمعية ، يدفع فارس مئة و يحصل على مئتين.
بثقة العارف بدّل بالدولار العملة السورية التي كانت موشكة على الانهيار ، مبقياً على المبلغ إلّا نتفاً ؛ أنفقه في شراء أثاث مستعمل كان عماده خمسة أسرّة قسّمت البيت العربي في حيّ باب الحديد إلى خمس غرف مستقلة ، البيت الذي لم يفكر والده يوماً في استثماره لغير احتواء أمسياته الصوفية مع أصدقائه المنشدين و الذي نصفه ممحيّ اليوم بفعل ذات النحس الملازم ، فيما تستمر نجاة النصف الثاني بفضل مزاجية الحشوات المتفجرة الرخيصة التي تلقى على المكان. و مع إلصاقه إعلاناً على أحد الأعمدة الضخمة في كلية الهندسة المعمارية خطا فارس أول خطوة نحو جمع رأس المال ، الذي ضاع البارحة ، عن طريق تأجير الغرف للطلاب ، مضيفاً دخلاً إضافياً إلى راتب والدته المعلِّمة و معاش والده التقاعدي.
شعر بقلبه يخفق في حلقه من الظمأ في الباص. كان صباحاً مفعماً بالصخب و الأدرينالين و الحركة. أجفل نومَهم ذاك الهتاف الهلِع الذي ساد المكان ، و برغم اعتقاد الجميع أن الشرطة تقتحم الباحة كان فارس و مفيد يتسمّران في مكانهما ، بعكس بقية الناس الذين تفرقوا شذر مذر مسارعين إلى الهرب. لم يقدرا على ترك المكان.
لم ينفكّا في الليلة الماضية يفكران في كيفية حراسة المال الذي يحملانه و الذي صار عبءً. قالا نتسامر حتى الصباح. ((لكن لا ، قد نتيه في البحر ليومين متتاليين أو أكثر و قد تتوجب علينا السباحة. يجب أن ننام.)) قال مفيد. اتفقا على التناوب على الحراسة.
حالما خفتَ غطيط مفيد ، رفع فارس بصره إلى السماء و فؤاده يتلمّس طبطبة دافئة تقوّض العدم ، انبعثت من أحاديث العائلات الصغيرة المتناثرة على العشب الرخْص. نسيم عابق برائحة القهوة لفح وجهه و مخيلته. رأى الأرض تفرَش بالسجاد و الشجرة خلفه تؤول حيطاً و من بين الناس تقبل أمه مع الصبح ثم تأتي أخته بالقهوة. و هناك في ظل شجرة قريبة أخرى ، شخصت رخامة قبر أبيه. كان المنظر مريحاً ، لدرجة نال معها الكرى سريعاً من الضوء الخافت في عينيه ، ليَصرّ جسمه على الطراحة الورقية متمدداً كسبع خامل.
لم تكن قد مضت ساعة واحدة على غفوة مفيد عندما أيقظه فارس ، المناوب زعماً ، و يده تحفر في التراب : ((قوم ، لاقيتا. قوم ساعدني.)). حفرا في الأرض حفرتين ، ((كي لا نضع كل البيض في سلة واحدة)) ارتأى فارس. نصّفا النقود و جعلا كل نصف في كيس نايلون ثم وضعاهما في الحفرتين و طمرا ، ليناما بعدها فوق الحفرتين المستورتين بالكرتون. و حين وقفا في الصباح التالي شبه وحيدين في الباحة العشبية ، مدركين أن الزائر الثقيل الذي أبعد الناس ليس بشرطة و إنّما هو الناطور جاء ليسقي العشب ، هرعا إلى الحفر خوفاً على النقود من البلل ؛ لم تكن الحفرتان عميقتين و لم يربَط الكيسان. صادفا الكيس الأول. دسّه فارس في جيب بنطاله على عجل فيما أكمل ابن خالته البحث عن الكيس الثاني. لم يجدا شيئاً!. يصير الحفر أكثر عشوائية. يبدأ مفيد بنزع العشب قبضة فقبضة ، و في هذه الأثناء يعلو صوت فارس ، و العروق تنفر في رقبته ، مموِّهاً و متوّهاً مَن يمكن أن يحضر ((الله يسامحك! حدا بيشلح المحبس هون؟ يا مفيد. حدا بضيع خاتمو هون؟)). كل شيء حصل بعدها في رمشة عين. كالقدر ثقلاً حطّ عناصرٌ بقربهم ، قبل أن تأتي السيارة التي تحمل آخرين. سألوهما عن التصريح ((كامليك فار ما؟)). وقفا كالصمّ وسطهم دونما إجابة. شعر فارس بالدم يصعد إلى رأسه و لا يعود نزولاً. اصطحبوهما إلى السيارة. صعد مفيد إلى القفص في الخلف و تكوّر في وضعية جنينية مألوفة. التفت فارس إذ ردفه الأمر مجدداً. أمسك به أحدهم. أراد أن يقول شيئاً لكنهم أطبقوا فكّيه بطريقة ما يشدّونه باتجاه المركبة. ظلت عيناه المتألقتان معلقتين على العشب المعفر بالطين. لا شيء سواه موجود الآن.
تلبّست الريبة بالعناصر. استوى الصراخ مع الكلام و العدواني مع اللطيف. كلهم ينبرون بأشياء غير مفهومة. لكنهم يشيرون إلى التجاويف في الأرض. لعلّهم يسألون عمّا أخبئ هناك.. انعقد لساني حينها. لم أكن لأخبرهم قط أن النقود مدفونة في هذا المكان. لكن لو أنني نطقت آنذاك ، لو أنني لم أخشى عنف سخريتهم لأخبرتهم ، أنّه في مكان ما هناك يقع قبر أبي و أنني للتوّ فقط اكتشفت أنني لم أعد أجده.

.. إزمير 2015.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر