الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النصف الآخر لبلدتنا

عبد الرحيم لعرب

2015 / 11 / 27
الادب والفن



منفوش الشعر عاري الذراعين المفتولين: لا أحد يتحرك! أنا ربان من الدرجة الأولى، أحتاج لسجارة لأفكر قليلا، اعطني...اعطني إياها وإلا كان لي حساب معك!
"سعيد ميريكان" ذو وجه قلمي، وأنف خروفي وشعر كأسلاك الحدود: سأصنعها لك أيها "الشْريفْ"، لا تقلق فإني أعمل منذ زمن بعيد على هذا المشروع. لم أخترعها بعد، لقد كان لهم السَّبْق في ذلك، ولكن سيكون لي السَّبْق في هذه البلدة التي لازالت تتخبط في عصور ما قبل النهضة. سألصقها بدراجتي النارية وأضع لها جناحين. ونحلق بعيدا إلى ما لانهاية، قد نموت معا إن فشلنا، أو نحيا معا إلى الأبد. قيل حقا ان الضربة التي لا تقتل تحيي.
"الشريف" في انزعاج شيطاني: هيا ...هيا... مُدّني بالسجائر أولا وقبل كل شيء و إلا وجدت صورتك على الحائط.
"سعيد ميريكان" يضحك ضحكة مدوية بلا تردد: طبعا، طبعا. ها..ها..ها.. خذ يا ربان طائرتي العجيبة، تحكم في دماغك حتى تكون قائدا ناجحا، لكن لا يهم .. الطيران وما أدراك ما الطيران!!
"عبد الرزاق" متوترا، متوثبا، بوجهه العبوس يقترب منهما: انظرا.. انظرا أيها الصديقين. سأعدو بسرعة خاطفة على الطريق، وقد أنزع ملابسي بلا خجل. ألطم كل وجه يغري بذلك. بسالتي لا حدود لها. لقد قمت بالخدمة العسكرية لردح من الزمن، أكلنا الخبز الحافي والعدس المُتَبَّل بالحشرات، كان لذيذا وصحيا. كنا أقوياء كالجواميس.. الجاموس.. الجاموس!! كنا لا نسمع إلا وقعه في أوراق الكولونيل حين كان يوقعها. – يقفز ويركض ويقهقه – ها.. ها..ها.. تبا..تبا.. إنها زوجتي .. زوجتي ستغضب إن لم أحضر في الوقت لأكلمها عن سفري المجهول نحو المدينة المليئة بالطعام.. الخمر.. والنساء على أشكالها تقع. عند عودتنا من الفيافي، كانت أصغر قرية تبدو لنا وكأنها مدينة عظيمة. أحفظ في ذاكرتي كل عناوينهن، أرددها دائما كالتعاويذ... ما اسمك أيتها المرأة الجميلة؟
تظهر بالقرب منه "عَيْشَة بَلْقاسْ" بقماشها المرقع، تركض وتضحك، تتحرك بسرعة هائلة، ثم تتوقف فجأة وتَشْتُم كل من حولها: أولاد الحرام.. تفو.. تفو.. لا تساوون عندي بصلة نثنة.. بخلاء.. بلهاء.. لاأريد غير سجارة أنفث دخانها على هذا الحشد من الحشرات الآدمية. يا لهم من جهلاء.. بلداء.. لا يضحكون..لا يقهقهون...!! نساؤهم مقيدات وراء أسوار وهمية، لن يصرن مثلي أبدا.. أنا حرة طليقة وجسورة.. أنام بين الأعمدة والحيطان، في لهب الحرارة وصقيع البرودة. لا أخاف لومة لائم.. هم يتقززون من أكل الزبالة وهي ليست إلا ما تبقى من طعامهم ها..ها..ها.. أريد سجارة أيها الأبله – تأخذه من أحد المارة- يا له من أبله حقير!! أشتمه ولا يبالي تبا له..ها.. ها.. ها..
ما أجملك.. ما أوسمك، يا "عبد الرزاق" !! إنك تشبهني في كل شيء، أليس كذلك؟ غير أن لك مأوى تسكن إليه، أما أنا فلا أتقيد به، ولك عائلة تركن إليها، أما أنا فأستغل هذا المجتمع البليد وفضاءه العام. وقدمت كومة شعري هذا مسكنا لأسراب الهوام. أنظر لتلك السيارة التي صنعتها بيدي هاتين تريد أن تسبقني أو تقتلني، سأنتصر عليها لا محالة، ألست من خلقها؟ ها..ها..ها.. حْلاليفْ حْلاليفْ...
"عدنان" بوجهه العجيني وجلبابه القبري: السلام عليكم يا
أصحابي الأعزاء، سأغني لكم مقطعا جميلا لم أسمع في حياتي مثله قط، يضحك الناس ويستأثر بأفئدتهم. انصتوا.. انصتوا.. – ثم يصمت ويهمهم- ألا توجد كسرة خبز جاف على تلك المائدة؟! ويستمر في الغناء..
ألا أجد عندك عملا يسد هذا الجوع القاتم يا "يحيى"، قبل أن تحتضنني جلاميد "جبال باني" الساخنة بلا نعش ولا صلوات ؟؟
"يحيى" مطأطئ الرأس، مقوس الظهر، مقطع النعل: نعم.. نعم.. نــ...ـعم.. لدي مشاريع كبرى، سأنافس كبار التجار، وأبيع السجائر والحلويات القديمة. لدي نظام اقتصادي جديد، جدير بالاقتضاء، ما بقي من السلعة آكله في الليل حتى لا يخطفه مني المارد الأزرق، سارق أحلامي. تبا لهذا المجتمع الراكد في مهنة واحدة . إنني أجرب كل المهن والحِرَف، اليوم تاجر تقسيط، وغدا فلاح مياوم، وبعد غد بَنّاء.. أجرتي خيالية، قد تناهز ثمن علبة السجائر السوداء. أف ثم أف.. هل لديك سجائر؟ أنا متعب من هذا السفر بين الحِرَف. سأذهب الآن لأجلب سلعتي التي نسيتها قرب مزبلة، عندما كنت أغيط، في بلدة مؤثثة بالمزابل. ليس اليوم جمعة حتى أذر البيع. اذهب يا "عدنان" لتظفر بقشور الخضر والفواكه من هذا السوق الأسبوعي الذي تخجل الخضر الدخول إليه، فما الفرق بينه وبين السلة؟ !واتْرُكْ لهؤلاء الحمقى لب الأشياء!!
ببذلته المرتبة ومشيته المهرولة يتحدث "سي محمد النجار" في سرعة تتناسب مع حركاته البهلوانية: السلام عليكم.. السلام عليكم.. السلام.. السلام.. هل الكل على مايرام؟ كيف أحوال الرعية؟ هل من حاجة نقضيها؟ لي متجر للنجارة، أبيع أبوابي المزخرفة لهؤلاء البلهاء فيلطخونها بصباغة رتيبة. السلام.. السلام – يدير وجهه يمينا وشمالا- سأذهب للصلاة في المسجد قرب قائد البلدة حتى يراني ويصافحني، فأنا محظوظ بلا شك حتى في الأعياد الوطنية أُقَبِّلُ يده وألامسها، ولا يحظى مثلي أحد بهذا الشرف. السلام.. السلام..
اقترب منه "سعيد الدول العظمى"، الميكانيكي القزم، قصده رافعا رأسه، معتدا بنفسه كديك قروي، لطمه وصرخ في وجهه مؤنبا: ماذا تفعل أيها المتملق؟ فكل هذه البلدة ملكي، ورتثها عن أجدادي السلاطين، وكل ما يدب فوقها لي. وبدأت مأساتي عندما نطقت وقلت هذا لي. توقف أيها النجار، أتجعل من هذا المكان المقدس الطاهر مكانا للتزلف والرياء؟! صار التقدم جنونا، وركوب السماء حمقا، والحديث عن الأسلاف والتمترس وراءهم فضيلة، والبحث عن الأحفاد رذيلة!! لماذا لا يتركونني وشأني، أثرثر إلى ما لا نهاية.. هل يخافون على حقائقهم المغطاة بأوراق التوت؟! لماذا يحرمونني من حقي قي الآذان بدعوى فقدان العقل والرجحان؟؟ اغرب عن وجهي وإلا طرحتك أرضا!!! ودست عليك بإحدى حافلاتي. اللعنة عليكم.. أنا الدول العظمى، فلا تستجلبوا غضبي عليكم وويلاتي..
وقف "حْكيمْ" حائلا بينهما، يضحك ضاغطاعلى مخارجه الصوتية، محدثا صريرا كأبواب "أم الحنش" العتيقة: دعه عنك إنه مغلوب على أمره. والطف به!، واعف عنه! تواضعا منك. لقد كان يحسب نفسه خير المخلوقات في أبهى صور الكون، وأعلى درجات العقل، لكنه خَرَّ صريعا وراء جحيم ترهاتهم. ألم أرسم يوما الأسماك فوق قمم الجبال؟! ألا تشبه هذه القمم المتتالية أمواج البحر؟!
في الجهة المقابلة كان "المختار" يضحك مكشرا عن أسنان صفراء، ولسان مدبوغ بالدخان، هاله منظر أصدقائه، تقدم نحوهم لما هدأ وطيس المعركة. تحدث معهم هامسا، مطمئنا، هادئا: أعرف جيدا أنه أحسن خلقي وخلقي، وفي صورة ماشاء رَكّبَني. لكن لا أملك مرآة للتحقق من مدى حسني أو بشاعتي، تَهَشَّمَتْ في أول منزل، لا بل في الجبل، نعم في تلك السفوح المحدودبة، هناك كنت أرعى غنمي في سعادة مطلقة. ولما جرفتني عجلة الزمن وَجَدْتُني أبحث عن نفسي في أشلاء الماضي، لم أجدني هناك ولا هنا.. نسيت كل شيء وكان لابد لي أن أنسى. باختصار سنزور شيخنا هذا المساء، لنعلن اجتماعا طارئا نتداول فيه بعض قضايانا المهمة أو المهملة لا ضير.
شيخ في أرذل العمر، نصف عار، متربع على عرشه في كهف بين نخيل فدان صغير. ذو شعر ككومة حطب، أشعث أغبر، عليه أثر سفر الجنون: "سْتّارافْ، سْتّارافْ، فْطاكْبّونْ، فْطاكْبّونْ..." أعزائي، عزيزاتي.. سلام علينا وعليكم.. سلام على "شَمْهَروشْ".. ياربي احفظنا من بأسه..
قاطعه "سعيد الدول العظمى": لندخل في الموضوع يا شيخنا، بلا ابتهالات، قبل أن تطاردنا عفاريت الظلام. لنبدأ النقاش، والكلمة ل"تاوايّا"، المرأة المثابرة، فلابد من ممثل عن المرأة في عالم الحمق ولو بالكوطا.
"تاوايا" سمراء، صاحبة قوام ممشوق، نحيل، تقف وتجلس، تلقي التحية: أنا وما أدراك من أنا، طُرِدْتُ من بيتي وبحثت عن مستقر. هربتُ من كوخي إلى الأبد.. طار عقلي.. دخنتُ عشي، هدمتُ خيمتي رغم الأوتاد.. أين المقر؟!...لست أدري!! المهم أنه موجود في مكان ما، محرومة منه إلى الأبد. سلبه مني رجل لا أعرفه جيدا، لا أتذكر منه سوى سوءته التي تشبه يقطينة مترهلة، ورجليه الحصانيتين، وصدره القنفذي.. شكرا معالي الشيخ و...
"عَيْشَة بَلْقاسْ": حكايتنا واحدة ومتشابهة، أنا مثلهن تماما، لكني أنقب في القمامات عن أسلاب وغنائم...
"عبد الرزاق" متشنجا: خريج المدرسة الحربية، واجهت أعدائي أو شُبِّه لي. أتذكر تك اللحظة جيدا. كنا ننسج الأساطير عنهم ونصدقها. بيدي الحديديتين هاتين.. تصديت لأسراب الدبابات وآلات الحرب الجهنمة. وكان العطش والجوع أشد بأسا من الحديد، تركوني هائما على وجهي في صحراء مقفرة بلا مزودة ولا قربة ماء.
"سي محمد النجار" يتلفت يمينا وشمالا، يتمتم: السلام.. السلام.. السلام.. المهم أني لا أتقن إلا تقبيل الأيادي، ولا أدري لماذا؟!!
"الشْريفْ" رافعا ذراعيه المفتولين، يزبد ويرعد: المجد للطيران.. أنا عباس بن الفرناس، هو سقط من علياء السماء إلى الأرض، أما أنا فجسدي هنا وأحلامي هناك. تكسرت أجنحتي، تفتت ريشي، ولم أبرح الجاذبية بعد!! الطيران...الطيران، ألم يكن هذا أيضا مجد صناعة العقل، وهل يحتاج الطيران كل هذي القرابين على مذبحه. قيل أن العقل هو الذي خلق أكثر الأشياء لا عقلية..
"سعيد ميريكان": والله لست أدري من أين أتيتُ، ولماذا أنا بينكم هنا؟!! حاولت أن أصنع لصديقي الشريف طائرة خاصة، لا غير.
"المختار": إنني جندي مطيع، لكن لا طاعة لمخلوق في معصية العقل. وهاأنذا الآن بلا عقل. ينادونني بالمجنون ويا ليتهم أضافوا ليلى.
"عدنان" يغني كعادته: إنها نغمتي ونقمتي، في فصل الشتاء طردت من مملكتهم، بعدما غنيت لهم في فصل الصيف. لا أريد غير البقاء موجودا... لكن هل أنا أفكر؟!!
ضحك "نوح" برأس مائل وعينين مركزتين في نقطة واحدة: حفظت عنوة وصايا أبي لقمان، لكنه حين مات، وجدتني أتجول ليل نهار بحثا عن مفاتيح كلماته السرية.
وقف الشيخ "سْتّارافْ" منتفضا، غاضبا، مُلَوّحا بقبضته: أيها الهُبْل... "الهُبّالْ" أنا لست شيخكم ولا مريدكم، أنا مثلكم أخطئ كما تخطئون، وأصيب كما تصيبون. سنرحل عن عالمهم هذا، الذي أصبح قتل الأطفال فيه شعيرة يومية وطقسا عاديا في مؤسسات العقلاء. ربما يا أصدقائي الحمقى، علينا أن نرحل قبل أن يداهمنا الصواب، فالجنون لا يزورنا إلا مساء.

عبد الرحيم لعرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??