الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث بشارع حيفا

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2015 / 12 / 2
كتابات ساخرة


شارع حيفا ببغداد، من الشوارع المهمة التي تمتد موازية لنهر دجلة جهة الكرخ، ويقع عليه في الصالحية مبنى الأذاعة والتلفزيون وبُنيت وزارتي الحكم المحلي والعدل بالثمانينات ضمن مراحل تطوير الشارع من قبل شركة (هيونداي) الكورية الجنوبية وأمتد المشروع من ساحة جمال الى ساحة الطلائع حيث مرحلة المشروع الألماني ببناء شقق عالية التكلفة متكاملة المزايا...
ساهم بتصميم الشارع وتحديثه، نخبة من المعماريين والفنانين العراقيين، تتوسطه السفارة البريطانية التي تعتبر المُلك العائد لدولة أجنبية الوحيد ببغداد، وقد تطلب توسيع الشارع شراء بعض الأمتار من الحديقة الأمامية للسفارة من ىالأنكليز بعد تردد وعناد من قبلهم...
كنتُ أسكن ببداية الشارع بجوار وزارة الحكم المحلي، وهذه البناية تأثرت كثيراً بصواريخ أمريكية أطلقت عليها خلال حرب تحرير الكويت بشتاء عام 1991 فتصدعت جدرانها وتوصيلات الماء والغاز والتبريد، وأشعل القصف حريق في ملجأ العمارة الذي كان خالياً إلا من سيارات رئاسية تعود لأمراء الكويت، سيارات كانت فائقة الرفاهية تم نقلها وأخفائها بحرص شديد، سيارات مطعمة بالأحجار الكريمة ومطلاة بعض أجزائها بالذهب الخالص ومؤثثة بالحرير وخشب السنديان الثمين...
كان الصاروخ الأمريكي يعرف طريقه ليُصيب خزانات الوقود التي مُلأت لآخرها كأحتياط أستراتيجي قبل الحرب، فسال الوقود ومعه ألسنة النيرات المتعطشة بشراهة تلتهم الأخضر واليابس ولتأتي على تلك السيارات وتجعلها خلال ساعات مجرد حديد خردة...
كانت رسالة موجهة للقيادة بالعراق نقلها الأمريكان بكل أمانة مفادها أن تلك الأشياء المسروقة لا يحق لكم أستخدامها... وهو نفس ما قامت به احدى شركات السيارات الفارهة بالكويت بأن أحرقوا معارضهم عند بدء الغزوا العراقي للكويت ليجدها الجنود العراقيون مجرد ركام، ثم طالبت الشركة بتعويضات خيالية لقاء أسعارها. وبغض النظر عمّا آلت إليه تلك السيارات في الحالتين المذكورتين، فإن العراق تحمّل الذنب وأن الشعب العراقي دفع الثمن مما أضاف أعباء على كاهله المرهق أصلاً...

(1)
بقي مبنى وزارة الحكم المحلي عند بداية حملة الأعمار بعد وقف أطلاق النار على حاله، ربما بسبب الحريق وشدة التصدع والضرر الذي أتى على كل مرافق البناية، وقد تم الأتصال بشركة (هيونداي) لتعويض كثير من المرافق التي لا يمكن تأمينها من السوق، ولمدة عام أو أكثر بقيت البناية مهملة تجول بها الكلاب السائبة وتشتبك مع القطط التي كانت بدورها تلاحق الجرذان...
في عصرية أحد الأيام جاء فريق من الرجال يحمل أطارات سيارات قديمة ووضعها خلف المبنى المحطم وأشعل فيها النيران...
كان مشهد غريب، فما هي الغاية ـ تساءل الجميع ـ من ذلك؟ خصوصاً بعد أن أعلمونا بضرورة أخراج سياراتنا التي نركنها بكراج عمارتنا المجاور، وكان لهم ما (أمرونا) به، بعد ذلك جاءت شاحنة (بوكس) تحمل معدان وحافلة مملوءة بالرجال وأنتظروا حلول الظلام لينزلون من الحافلة ويتراكضون بكل الأتجاهات في لقطة مرعبة حقيقتةً... ثم أنزل (المخرج) كاميراته ليُسجل لقطة سينمائية لم تتجاوز الخمس دقائق لينسحب بعد ذلك مع فريق التصوير والشاحنة ومن ثم الحافلة بعد أن لملمت رجالها بعد أن تركوا خلفهم الإطارات بعدما عالجوها بالمياه ليرتفع دخانها الأسود يُزكم الأنوف وتغرورق له العيون بالدموع ونحن غير مصدقين ما حدث!

(2)
وزارة العدل التي تم أصلاحها لأنها لم تُصب بشكل مباشر، وضعوا بأمر من القيادة أمام مدخلها نصبين لشخصين متقابلين تفصلهما عدة أمتار وهما يرفعان يديهما جهة السماء وكأنه أبتهال أو دعوات الى الله أن يحفظ البلد وأن يعم (العدل) في ربوعه لما تمثله هذه البناية من هيبة للدولة ولبسط أركان السلام والوئام بين شعبها (السعيد)، وكان قد رفع هذان النصبان سيف برونزي يمثل القوة والصرامة التي يمثله القانون الذي ترعاه هذه الوزارة، بحيث كل من يريد دخول ديوان الوزارة، علية المرور من تحت السيف الذي أعتلى مدخلها بكل شموخ...
في صباح هادئ بعد ليلة مظلمة حاكها سواد الليل وغياب القمر وأنقطاع الكهرباء... وجدوا أن الرجلين (التمثالين) خاليي الوفاق لا يحملان بيدهما سيفاً ولا حتى سكين، فقد قام اللصوص برفع السيف وأخذه كي يصبونه ويبيعوه برونز خردة بالكيلوغرام!!

(3)
خلف العمارة التي أسكنها، كان كراج يحتضن سيارات البنايتين 143 و141، وكان يسكنها كما هو معلوم، أطباء ومهندسون ومدراء عامون، في صباح يوم الجمعة كان عليّ الذهاب للتسوق لأسبوع قادم بسبب مشاغلي منذ الثامنة صباحاً حتى الحادية عشر مساءاً في محلينا أنا واخي (صلاح) بين شارع النهر الذي أعبر له صباحاً بالبلم عند مسناية الكريمات، ثم نذهب بسيارة أخي بعد الظهر لشارع فلسطين حتى المساء ليصطحبني بطريق العودة عند نزولنا من جسر السنك لأترجل من السيارة وأمشي حتى شقتي...
كان أثر أصطدام سيارة أخرى لونها أزرق بسيارتي المركونة خلف العمارة واضحاً لكن لا أعلم متى حدث، وكان أثر (لمعجون فايبر) الذي يصلحون به أبدان السيارات واضحاً على مقدمتها أيضاً..
كانت سيارتي (الميتسوبيشى) في تلك الفترة بعمر عشر سنوات، حيث وزعتها القيادة بالعراق بداية حرب أيران لنواب الضباط بينما أخذ الضباط (التيوتا سوبر)، وكانت تلك السيارتان من أمتن وأقوى السيارات التي وصلت القطر، حيث كان بإمكان العراق بتلك الفترة أن يدفع لليابان بالعملة الصعبة وكاش مبالغ مشترياته قبل أن تفرغ خزينته ويلجأ للبرازيل حيث التسديد بالآجل من نفوطنا...
كان ممكن أن تكون السيارة الزرقاء من نوع البرازيلي، لكن لم أرَ بالكراج أية سيارة زرقاء متضررة، وعندما لم أحصل على نتيجة، استغفرت ربي أن الضرر بسيط بالأضوية والجانب الأمامي الأيسر فقط، وسجلتُ قضيتي (ضد مجهول)!
بعد أسبوع واحد، كنتُ أقف مع صديق نجار يعمل بالصالحية خلف عمارتنا بالضبط وكان يقوم بالأصلاحات اللازمة في شققنا لقاء أجر، من بين ما كان يدور من حديث معه قال بأن أبن الدكتور (فلان) الساكن العمارة المجاورة يتهور في الظهاري بسيارة أبيه البرازيلي بينما والده في قيلولة، وقد تكررت الحوادث التي قام بها بداخل مساحة الكراج الصغير، وبرغم تحذيره وتوبيخه لكن كان ذلك دون نتيجة حتى صدمها أخيراً ـ والكلام للنجار ـ بوجه سيارة مركونة بالكراج، فمنعته أمه بكل صرامة لكنها لم تستطع أنهاءه بشكل كلي...
كانت الدلائل كلها تشير اليه، فتحققت من أن سيارتهم ذات اللون الأزرق قد تم أصلاحها حديثاً وصُبغها من جديد، سألتُ عن شقتهم وباغتهم في ظهرية عند عودة الأب من عمله الصباحي، فنكر الأبن ولوّى برقبته، لكن الأب صفعة على خده وأمره بالأعتراف...
أقسم الولد بأنه لم يصدم سيارتي وأن التهمة ليست سوى وشاية، فأستجاب الأب له لكنني صممت أن أكشف الحقيقة مهما يكلفني ذلك من ثمن مبيناً لهم بأنني لست بصدد تعويضات بل كشف الحادثة وتحديد الفاعل...
وقفتْ الأم بكل صرامة بجانب ولدها مما دعانا لأن نصطدم وسط اتخاذ الأب موقف المتفرج، كانت الزوجة والتي يبدو أنها ذات منزلة حزبية أو وظيفية لست أعلم، سحبتُ الولد من ياقته لسيارتي واطلعته على مكان الضرر وأثر لون سيارته، بدفاع وأسناد مستميت من والديه نكر تسببه بالحادث مما توجب عليّ أن أسحب مفك الصامولات (الويل أسبانة) من سيارتي وسط دهشة الأم والأب وبعض الجيران دون تدخل منهم، وذهبت لسيارتهم أسحب أبنهم خلفي...
هناك كانوا قد أصلحوا مقدمة سيارتهم، فقلت بأن الأمر غاية بالسهولة، لأن أحتكاك التصادم قد ترك أثر لصبغ البرازيلي وللمعجون الذي تحته أيضاً، فسأقوم بحك صبغ سيارتكم فلو ظهر أنها مُصلحة وتحت الصبغ معجون قديم ستكونون المسئولون عن تصليح السيارتين، وبعكسة فسأصلح أنا سيارتكم من جيبي الخاص...
سكت الولد وهدأ أبوه بينما تلعثمت الأم وغمغمت وطلبتْ أن نعالج الأمر فيما بيننا بشكل أفضل وسيتكفل الدكتور بإصلاح (الميتسوبيشي) كما أريد لأن لديه صديق صباغ، يبدو أنه زبون دائم لكراجه بسبب أبنهم المتهور!

(4)
عند عودتنا من محلنا بشارع فلسطين في حوالي الحادية عشر مساءاً، يطيب لي أن أتمشى بشارع حيفا من أمام مبنى الأذاعة لشقتي لسببين، أن المشي مفيد وصحي والجو جميل بليالي بغداد، ولأنه يُمنع على السيارات المرور أمام مبنى الأذاعة لدواعي أمنية، وهو الطريق الوحيد على ما أتذكر الذي كان مرصوف بحواجز كونكريتية تُثير أستغرابنا بتلك الفترة.
سيارة اخي صلاح الذي يقلني لأمام مدخل فندق ميليا المنصور ثم يستدير ليكمل طريقه الى حي القادسية حيث يسكن هناك، كانت (ماليبو) بلون أحمر ماروني وقمارة جلد بيجي، وكنا في تلك الليلة نعود ومعنا حقيبة نحمل فيها مشترياتنا الذهبية والتصليحات والتواصي كي نتممها بورشتنا بشارع النهر عند الصباح، وكان لدينا فيها أيضاً مسدس، وكان أخي صلاح قد أشترى بطل (عرق) وكيس مكسرات وضعها بجانب الحقيبة على الكرسي الخلفي للسيارة ومعهما بطيخة...
وبينما توقف للحظة كي يسمح لي بترجلها، وإذا بأصوات ورجال حمايات تصيح (أبو الكابرس... أبو الكابرس)...
لم نفهم هل نحن المقصودين، فأرتبكنا ولم نعرف ما نفعل، لكن أخي فضّل الألتفاف والأبتعاد قليلاً قائلاً لربما من الممنوع أن نتوقف قريباً جداً من الجاجز، وهنا تعالت أصوات أكثر وظهر رجال مدججون بالسلاح يضربون بأكفهم على بدن السيارة...
ركب (محمد) معنا وقال (أطلع ...)، (وين) سأل صلاح، أجابه بلهجة تكريتية واضحة (أطلع بسرعة، ما تدري من هين يطلع الأستاذ من الإذاعة؟).
مشينا لنبتعد و(محمد) يحدق بوجوهنا، فبادر أخي بالسؤال عن وجهتنا، ليأتي الجواب بثقة... (الرضوانية).
على حد علمنا، فإن بالرضوانية يحجز (عدي) كل مناوئيه وكل من لا يرضَ عليهم، حجز سيارات وعقوبات جماعية لكل من يستاء أو يتذمر من أفعاله ولو بشكل بسيط حتى لاعبي كرة القدم، هناك تقوم حكومة كاملة يقودها هو شخصياً ومعسكر للأشغال الشاقة لكنه ليس للأعدامات بل للأحكام (الخفيفة) فقط!
سألنا (محمد) عن البطيخة والبطل، قال أخي بأننا صاغة وعائدون من محلنا ومعنا شرابنا ومزتنا وهذه البطيخة، وساله كي يتجنب فتح الجنطة أمامه وكشف الذهب... (أتحب أن ترى ما في الأكياس؟) قال... (ماكو داعي سنفتشكم ونكشف كل ما تخبئوه)..
توسلنا به وألتقطنا الحقيبة ـ المليئة بالذهب ـ وأخرجنا المسدس فقط وقلنا هذه رخصته موقعة من أستاذ (وطبان) شخصياً، سأل (منين تعرفون السيد وزير الداخلية؟)، قلنا له بأنه قد زار محلنا عند تجواله بشارع فلسطين وشرب الشاي ووعدنا بالرخصة بعد أن قدر مخاطر عملنا، فأجاب (ماشي سأرحمكم وأسامحكم هذه المرة لكن أريد هدية خاتم فضة للمحبة وأريده غداً صباحاً عند الحاجز وإلا أجيبكم تمشون على ركبكم!).
أخذ بطل (العرق) وكيس الحب والبطيخة وأوصلناه لبيته ووعدناه خيرا، وفي الليل أتصلنا بأحد العمال أن يذهب للبياع في الصباح ويشتري لنا خاتم فضة بحجر (مَحبة!) وأن يأتي به لبيت أخي بالقادسية. وهكذا ذهب له في الصباح ليستقبله زملاء (محمد) وبادروه بالقول... (ها أنت ابو الكابرس... جبت محبس محمد؟؟)، بينما همس آخر من بعيد... (إذا مَ أشتغل نرجعلكم!).
... بعدها كان (صلاح) قد غيّر طريقه ليستخدم جسر باب المعظم وصار يوصلني لشارع حيفا جهة العلاوي، وأقسم بمين أن لا يستخدم جسر السنك كي لا يصادف وأن يضايق (الأستاذ) يوماً أو يعكر مزاج حمايته!


عماد حياوي المبارك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل