الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحت جسر الهولندي قصة طويلة

محمود يعقوب

2015 / 12 / 6
الادب والفن




حتى تُنهي عبورك جسر الهولندي ، وأنت تشق طريقك مبتعدا ًعن مدينة ( الناصرية ) صوب الشمال ، يتحتم عليك أن تلتفت يسارا ً ، وترمي بنظرة ٍ متمعنة ٍ ، مستغرقة ، مع امتداد مجرى النهر وأديم الأرض المجدبة ، المحاذية لضفتيه . وبالتأكيد من دون هذه النظرة سيلوح الأمر وكأنك لم تعبر جسر الهولندي على الإطلاق .
إذا صادف عبورك هذا أوقات الأصيل ، فما من ريب أن نظرتك تلك ستفيض بوحشة غامرة تتسرب ، مثل جيش ٍ من النمل الزاحف ، لتحتل كيانك فجأة ً . على طول مجرى النهر القادم من الأفق الغربي تتراكم طبقات من تراب بني داكن .. تراب مسحون خال ٍ من أي أثر ٍ للحياة . ما أن ترمي بنظرتك نحوه حتى يغالبك الإحساس بأنه عالم بلا تضاريس ، بحر ضاف من الرمال ، يرسم منظرا ً واحدا ً لا يتغير ، يبدأ من الجسر حتى الأفق ، يوحي إليك بأن النهر هذا تسلـّل من الصحراء ، مثل بدوي ، حمل الشمس على هامته ، وفي ثيابه تصفق الريح ..
ومهما أطلت النظر إلى ذلك البر الأجرد ستعجز عن اكتشاف أي شيء يروي أحاسيسك .
كأن الصمت فيه ينزل من السماء ويحبس الأنفاس .. صمت مؤلم ومهيب ، يجثم فوق صدر الأرض ولا يتزحزح ، حتى لتخال أنه سرّا ً من الأسرار . ما أن تهبط الجسر ، وتمسي في مواجهة الأفق الغربي ، تشعر على الفور وكأنك تقف في معبد ٍ هائل ٍ ، مكشوف ٍ ، أمام آلهة ٍ مبجلة .. صمت يحرك فيك الرغبة لأن تطلق في وجهه صرخة ً مدوية ، لتعرف أخيال ٌ هو أم حقيقة ٌ .
الشمس وحيدة ، تائهة في الأفق ، سابحة ً في هالة ٍ من ذهب ، تسيل فوق النهر و تلون المياه الجارية بلون حني خفيف ، تحت وهجها يلصف النهر مثل مرآة مصقولة ً. في نهاية المطاف تبدو اللوحة الشقراء ، الصامتة ، غاية في الكآبة ، وتسكب أحاسيس هروب مدرارة في العيون . إنها لوحة لا تدوم طويلا ً ، فسرعان ما يندفع الظلام من قلب الأفق ليحكم المكان برمته ..
إن جسر الهولندي بحد ذاته تراه العين كئيبا ًمن بعيد ، في هذا الوقت بالتحديد ، يبدو وكأنه نعش ممدّد فوق النهر ، يعبر من فوقه الزمن متوجسا ً ، حذرا !.. عندما تمسي بعيدا ً عن الجسر ، فإن ما يتبقى من انطباع عالق ٍ في أعماقك عن ذلك المشهد هو الإحساس بأنه مفعم بالانتظار الطويل الذي لا يتململ .. انتظار بالغ النقاء يمكنه أن يسحر أقل الناس افتقارا ً للحساسية .. انتظار مفزع لا يُحتَمل .

تحت الجسر ، عند الغسق ، يجلس الرجل الغريب وحيدا ً ، مقرفصا ً على الضفة الشمالية للنهر . ممسكا ً بطرف خيط سنـّارته ، التي تغوص في الماء ، وإلى جانبه يتراقص ظلـّه القاتم على صفحة النهر . يبدو مثل شبح ٍ مهجور ٍ ، تسلـّل في غموض ٍ إلى هذا المكان من المجهول ..
لم يكن الرجل ليشعر بالوحدة والعزلة وحسب ، بل كان ، في هذا المكان المتفرد ، تجسيدا ً لكليهما معا ً . ومن يصوب نظره إليه ، من فوق الجسر ، يشعر باجتياح ألم الوحدة ، وبرودة العزلة لكيانه اجتياحا ً يقشعر له بدنه ..
يرتدي الرجل ثوبا ً أزرقَ فضفاضا ً ، وسترة داكنة تبدو غامضة الألوان عن بعد ٍ ، لا يمكن تمييزها على وجه التقريب عن لون ثوبه الغامق . فيما تلتف حول رأسه كوفية كحلاء . وما أن يشيع الظلام حتى تحيل تلك الكوفية ثوب الفضاء الرحب كحليا ً هو الآخر أيضا .. الهواء كحليا ً ، والنهر كحليا ً ، وحتى الأفكار السانحة ، التي تتدفق مع دفق المياه ، تمسي كحلية ً تتقلب في ذلك اليباب مثلما تتقلـّب الحيوانات البرية ..
يجلس الرجل ، وعيناه منكّستان في أعماق المياه ، مستغرقا ً في خيالاته ، وضائعا ً في غمار تأملاته . لا أحد ٌ يقتحم عليه خلوته ، ولا أنيس ٌ يحوم قربه ، نائيا ً وكأنه جزء ٌ من هذا المنظر الغروبي الموحش.. كان النهر والمساء يجريان ، وكان الرجل راكدا ً حتى الأعماق . أحيانا ًيخترق سمعه صوت ٌ جارح ٌ ، شديد الحرارة ، من أصوات الأبواق . يرفع أنظاره عاليا ً يرنو بدقة ٍ إلى الطريق ، ولكنه سرعان ما يعود بها إلى النهر . ذلك الطريق يلوح نائيا ً لا يقود أحدا ً إلى عالمه .
إن هذا الرجل المعتزل ، الذي يجهله من يعبرون الجسر طوال اليوم ، لم يكن في حقيقة الأمر سوى امرأة ! ..



إن الناس بمجموعهم ينظرون إليه ولا يجدون فيه سوى رجلا ً .. رجلا ً بمعنى ما من معاني الرجولة ، وإن كان البعض يبخسونه ، ويحطـّون من قدره ، فيدّعون أنه رجل مخنث ، ناعم كالحريم ، لا تنبت له لحية ولا يطرّ له شارب ، ضمرت فيه لمحات الفحولة وباتت قسماته وأديم جسده أقرب إلى الأنوثة الفاضحة..

بالنسبة لي ولصديقي ( مالك ) ، لم نكن لندعوه باسمه ( مجيد ) ، كما تعارف الجميع عليه . بل كنا نؤنث هذا الاسم ونطلق عليه اسم ( إمْجَيْدَة ) . في الحقيقة لم نطلق عليه اسم ( مجيدة ) مؤنث ( مجيد ) ، كما هو معلوم ، كلا إن مدينتنا الجنوبية الصغيرة لا تعرف أنثى يمكن أن تُسمى بمثل هذا الاسم ، ولم نسمع في حياتنا على الإطلاق بمن تجرّأت أن تكون ( مجيدة ) ..
في الواقع كنا نؤنثها باسم ( إمْجَيْدَة ) ، بالهمزة المكسورة كسرا ً بالغا ً ، والميم الساكنة ، والجيم المفتوحة نحو السماء ، التي تمنح الاسم ، بسخاء ٍ ، لونا ً أزرق َ، والياء الساكنة ، والدال المفتوحة كالنحر المكشوف ، وتاء التأنيث المدورة .. التاء التي تحير العقول وتخلب الألباب .. تاء تحيطك بنيران اللوعة والهيام .. التاء المقفلة التي لا يتهيأ لأحد ٍ أن يقتحمها إلا بعد دمار . هل يدرك أحدٌ ، أيضا ً ، أي حنان ٍ جارف يكمن في الهمزة المكسورة ؟.. لم نعمد إلى هذا الاسم الجديد ازدراء ً ولا استخفافا ً ، ولم نتلفظه بحس فكاهي ، بل أترعنا حروفه بالدلال والغنج الأنثوي ونحن نطلقه من قوقعة الافتتان المثير . حاول ْ أن تهمس هذا الاسم همسا ً خفيضا ً، فعلى الأثر سوف تحس بأن شيئا ً خفيا ً فيه يثير مكامن غرائزك!..

لم يتسن َ لي أن أدرك كيف حلـّت في الحي الذي نسكنه ، ومتى جاءت إليه ، ولا حتى من أين أتت . على حين غفلة ٍ بدأنا نعتاد على رؤية وجهها كل يوم ، وهي تؤوب من العمل ، بملابس عمّال البناء ، المعفّرة بالغبار ، والمرقطة ببقايا الإسمنت والملاط الأبيض .
يوما ً تلو آخر رحنا نألف وجهها الملفت للأنظار ، ذلك الوجه الذي تظلـّله كوفيته ، ولا ينكشف منه إلا الشيء القليل .
تلوح أذنيها الصغيرتين ، المرهفتين ، مثل ورقتين مُشعّتين من أوراق الورد ، لونهما زهري ذائب ، يتقطـّر على جانبي جيدها ويسيل تحت القميص ، وشحمتيهما الفقيرتين تتشهيان عنقودين صغيرين من الذهب الإبريز ، يرقصان تحتهما في ظلال الخدين .
فمها دقيق ٌ ومزموم ٌ على الدوام ، ولكن الشفة السفلى مرتوية ، نضرة ، تنادي على النحل من بعيد . في بعض الأحيان ترطبها بلسانها وتجعلها تلمع مثل العقيق اليماني الأحمر . إن مسحة الرضاب الرقيقة تلك كافية لجعل كل شيء من حولها يترنح مخمورا ..
أما ذقنها المدبب النحيل ، فقد كان يشبه ذقون الفتيات الصغيرات اللواتي يجلسن عادة ً مستحيات ، في أحضان بعضهن البعض ، وهنّ يتهامسن بتلك الذقون الشمعية همسا ً خفيا ً ، لا تسمع منه شيئا ً ، وإن يمكن رؤية لونه الوردي وهو يومض مع كل إيماءة ذقن ..

من قبل ، كنت قد لمحت ( مجيد ) بضعة مرّات ٍ ، هنا أو هناك ، من دون أن أتنبه له . أو يجذب اهتمامي في شيء . ولكنني زرت صديقي ( مالك ) ذات يوم لأجده عاكفا ً على ترميم بيته ، ومشغولا ً مع مجموعة كبيرة من عمّال البناء ..
قادني من يدي ، وأوقفني أمام أحد العمّال مباشرة ً ، وقال لي :
" هاك أنظرْ ، هل ثمة فتاة ٍ في كل أنحاء المدينة تمتلك مثل هذا الوجه ؟ .. "
حينما التفت إلى الرجل الذي أشار نحوه ( مالك ) ، لم يتيسر لي رؤية وجهه جليا ً ، في بادئ الأمر . كان الرجل يعمل وهو منحنيا ً على كوم ٍ من خليط الأسمنت ، ورأيت حاجبيه الأنثويين فقط ..
كان حاجباه خيطين من خيوط الحرير الأسود . عندما وقعت أنظاري عليهما لم أعد أشعر بما كان يتحدث به صديقي . سرحت أفكاري بعيدا ً ، فقد سبق لي أن رأيت مثلهما من قبل ، نعم .. سبق لي أن رأيت رموزا ً وعلامات ٍ سحرية ، في كتاب ٍ مدهش ٍعن السحر الأنثوي القديم ، تشبه تمام الشبه هذين الحاجبين ، فأيقنت لفوري أن في هذا الوجه مس ٌ من ذلك السحر العجيب ..
رفع الرجل رأسه ، وتسنى لي رؤيته من الجانب الآخر ، وكان خدّه منديلا ً من قماش الملائكة ، يمكنه أن يمسح التعب عن وجه الإنسان إلى الأبد ..
" شكرا ً .. "
سمعته يقولها لأحدهم في همس ٍ عذب ٍ ، كانت ندية وكأنها مغموسة بذلك الرضاب العذب .
حدّقت في وجهه ، وساورني إحساس ٌ بأنه إنسان كسير الفؤاد ، يذلّه الشعور الدائم بالإخفاق .
في غمرة الأشغال كان يسمح لنفسه في التحليق بأفكاره ، بعض الأحيان ، ولكنه يظل شبيها ً برب العمل في صمته ، وهمته الدءوبة .
أراه وأسمعه يتحدث إلى عامل ٍ ثان ٍ ، يبتسم له ، ابتسامة تشق طريقا ً وعرا ً ، بائسا ً ، وتطفو فوق شفتيه كالشمس البازغة من بين غيوم ..
أمعنت النظر إليه و حرت جوابا ً .
حاولت جاهدا ً أن أستجمع ذاكرتي ، أن أضغط عليها لأعرف أين يمكنني صادفت هذا الوجه من قبل ، ثم قلت أخيرا ً :
" بلا شك سبق لي أن رأيته ، ولكن أين ، لست أدري . "
"سبق لك أن رأيته ولم تتنبه إلى هذه الفتنة ؟ . "
" في الحقيقة لم أنتبه . "
تقدم منه ( مالك ) . شرع يلاطفه . بعد دقائق رأيتهما يتضاحكان . هذا ما حفـّزني أيضا ً لمشاركتهما حديثهما العابر . تقدمت منه من دون تردد ، لم أحتمل رؤية ذلك البؤس الذي يجلل الجمال الأخـّاذ . ابتسمت ونظرت في وجهه ، وكان ذلك أول لقاء بيننا . انجذبت إلى الارتباك الحيي ، الرقيق الذي يختلج في محياه . كانت عيناه دافئتين وناعمتين مثل قطعتي قطيفة ، عسليتي اللون ، فـرشتهما امرأة في محجريه بمهارة ٍ وأناقة ٍ فائقة .
تجاذبنا أطراف الحديث ، ولاح لي الرجل لطيفا ً ، تحدّث في غاية البساطة ، بروح ٍ صافية ٍ ، وقلب نقي لا يعكره الصدأ . كان يهتم بشكل واضح في الأشخاص الذين يحسنون معاملته ، ولكنه يتحاشى ، بصراحة ٍ ، الحديث عن نفسه ، وعن كل ما يمت إليه بصلة . لا يُصَرِح على الإطلاق من أين جاء ، ومتى جاء ، ولربما ليست لديه عائلة على وجه التحديد ، مثلما خامر ذهني .
في أحد أيام العمل ، أطبق عليه العمّال ، ومزقوا صبره بأسئلتهم اللحوحة . كانوا يريدون أن يعرفوا ، بأي ثمن ، من أي ناحية ٍ أتى ، كما لو أن جهلهم بذلك عمل في أحشائهم ما تعمله الكوليرا . وحين ضاق بهم ، أجابهم بجفاف :
" جئت من باهيزة . "
ضحكوا جميعهم مما اعتقدوا بأنه سخرية . فعلى الرغم من أن ( باهيزة ) هي واحدة من بطاح مدينة ( الناصرية ) في حقيقتها ، إلا أننا اعتدنا أن نذكرها على سبيل الدعابة والسخرية ، وكأننا نذكر مكانا ً قائما ً في الخيال ..

أخبرني ( مالك ) بقوله :
" إنه يسكن لوحده في ركن ٍ منفصل من بيت ( هدية ) الخيّاطة . "
وكنا على بينة من أن بيت ( هدية ) ، بيت واسع ، متواضع ، أشبه بالبيوت الريفية ، ويقع عند أطراف المدينة ، قريبا ً من مستنقع ٍ هائل ٍ تركد فيه المياه بلونها الأخضر المُذهّب ، وتقصد البيت الكثير من النساء على مر الأيام لخياطة عباءاتهن ..
في هذا البيت تعيش ( هدية ) وزوجها الكفيف وحيدين .
مدّت هذه العائلة الهرمة أياديها البيضاء بسماحة ٍ ، وعفوية ٍ للرجل الغريب ، وآوته معها ، منذ بعض الوقت ، كأنه ابنها . وبات جزءاً لا يتجزأ منها..
سرعان ما اقتطعت المرأة ركنا ً من أرض البيت لإيوائه . وعمد هو إلى فصل هذا الركن بأن عمل حاجزا ً طينيا ً يعلو بضعة أقدام فوق الأرض ، وغرز فيه ، على طول امتداده ، العديد من أعمدة خشب أشجار الحور ، التي أسند بها مجموعة من الحصران الخشنة ، والتي لجأ إلى طليها بالطين الناعم من كلا الجهتين ، لتصبح جدارا ً رقيقا ً فاصلا ً بين ركني البيت ، وكانت مثل هذه الجدران الرهيفة تشيد في الأماكن الريفية عادة ً ، لا لأغراض الفصل بقدر ما كانت لأغراض الاحتشام ، وكان منظرها يترك إحساسا ً رائقا ً في النفس . وفي ركنه الخاص ، نجح ( مجيد ) في بناء غرفة طينية ، رحبة ، ومريحة . وأخيرا ً شقّ جدار البيت الخارجي ، ووضع له بابا ً عجيبا ً مغطى بالكثير من الصفائح المعدنية المطروقة . وقريبا ً من هذا الباب كانت تنام ثلاثة كلاب كسولة نوما ً أبديا ً ، كأنها قد فارقت الحياة وانقضى أمرها ..

لم يكن ( مجيد ) بحاجة إلى الطبخ ، إنه مثل كل عمّال البناء الآخرين ، يفطر ويتناول غداءه في مواقع العمل ، أما العشاء فغالبا ً ما كان يحمله معه من السوق ، عندما يؤوب إلى البيت ، عند أوقات الغروب ..

زارت شقيقة ( مالك ) برفقة زوجته ، عصر يوم ٍ من الأيام التالية ، بيت ( هدية ) ، لأجل خياطة عباءاتهن ، وعادتا لتخبرانه بكل ما رأتاه هناك .
كانت دار ( هدية ) لم تزل تبدو واسعة ، على الرغم من أنها اقتطعت ركنا ً منها لسكن ( مجيد ) . وحوش الدار لم يزل ترابيا ً ، ولكنه نظيف ٌ ومرشوش ٌ، وقد غمرته الآثار الناعمة لنقاط الماء . بدت الأرض رقشاء ومنظرها طريف ، وأطبقت على أنحائه رائحة المستنقع الثقيلة بكل سماجتها .
كانت ( هدية ) تجلس قرب باب غرفة ٍ مفتوح على وسعه ، بغية أن تستأثر بالنور المندلق ، وهي منحنية ٌ فوق عباءة ٍ تخيط بها .
في الجهة المقابلة إلى الباب ، يجلس زوجها غامرا ً جسده ببطانية قديمة ، كان يهذر طوال الوقت ، وهو ينود برأسه . متحدثا ً كعادته عن أمور ٍ شتى في وقت ٍ واحد . كلما أحسّ بأنه تعب فعلا ً من الحديث كان يهتف متسائلا ً:
" ها .. ( هدية ) هل تسمعين ؟ . "
كانت المرأة مشغولة ً بالخياطة ، أو التحدث إلى زبوناتها ، ولا يتيسر لها متسعا ً لكي تسمع من كلامه شيئا ً ، في واقع الأمر ، غير أنها عند هذا السؤال بالتحديد ، تلتفت ناحيته سريعا ً وهي تصرخ منزعجة ً:
" إي .. نعم .. أسمعك . "
وما تلبث أن تعود لمشاغلها ..



في أوج نوبة العمل اليومية ، التي تصادف أوقات الصباح عادة ً ، كنت ألاحظه يتسابق مع جميع العمّال في انجاز مهام البناء ، يبذل مجهودا ً فائقا ً ، بينما ربّ العمل لا يكف عن مناداته كلما احتاج إلى شيء. من آن ٍ لآخر كان يصيح به :
" مجيد .. "
" نعم أستاذي .. "
بصوت ٍ ناعم ٍ ، مُنَغّم ، يجيبه ( مجيد ) ، فيسارع بعض العمّال ليموءون بصوت ٍ مُقَلـّد ٍ واحد ، وهم يمطون العبارة بترنيمة ٍ مموسقة :
" نعم أستاذي . " ولا غرو ، فإن سماع مثل ذلك الصوت في مواقع العمل الصاخبة كفيل بأن يحفز شهية أكثر الأحاسيس الدفينة .
كان صوته يتدفق من حنجرة طير صغير .. حنجرة تحل فيها خيوط الحرير محل الحبال الصوتية .. حنجرة تشبه نغمتها نغمة الخرير الناعم المتدفق من حنجرة الماء .
في غضون أيام ٍ قليلة ، أثارت انتباهي وانتباه صديقي ( مالك ) تلك الدعابات الفجّة ، السمجة ، والإيماضات المستترة أحيانا ً ، والمكشوفة في أحيان ٍ أخرى ، التي كانت تبدر من بعض العمّال ، بغية استفزاز مشاعر( مجيد ) ، وإضحاك الآخرين منه . طالما جعلوا منه وليمة لنفوسهم المريضة ، الجائعة . ما أثقل مزاحهم وما أكثره !.. إنهم يكسرون الملل والضجر بمطارق المزاح والسخرية .. المطارق الثقيلة التي تهوي على أكثر الناس وداعة ً واستحياء .
كان عرضة لتعليقات مهينة ، ساخرة ، تتعالى أصداؤها هنا وهناك . تظل العيون تطارده ، والبعض من أولئك العمّال ينساب كالأفعى نحوه ، بخبث وفظاظة ، ويتعمد الاقتراب منه بالتباس ، ويصب في أسماعه كلمات ٍ مخدّشة ٍ لحيائه ِ . نلمحهم يعاكسونه ، ويتغزلون به كأنه فتاة . وفي الحق كان ( مجيد ) باهر الجمال ، ويطغي بجماله على أي فتاة ٍ أخرى ، ويمثل ظهوره المشع بين العمّال لمحة شيقة لا تتلاءم على الإطلاق وتلك الأجواء القاسية ، الفظة ، الخشنة ، التي تسود مواقع العمل ..
طالما ضاق ذرعا ً بفجاجتهم ، ولكنه يعود ليتعلق بأهداب الصبر . وكان إسرافهم في العبث يترك الأسى يثقل كاهله ، ومع أن ابتسامة تسامح كانت تند عنه من وقت ٍ لآخر َ ، غير أن جبينه المتجهم ينم عن نار ٍ لاهبة تستعر في أعماقه .
في بعض الأحيان يكون الرجل غافلا ً عن نفسه ، وساهيا ً عن ترتيب ملابسه ، فينكشف شيئا ً من صدره ، أو جزءا ً آخر َ من جسده ، يروح العمّال يتغامزون فيما بينهم ، فيشيرون بأصابعهم نحوه وهم يتشدقون :
" زبد ..زبد .. "
حينما كنت أقف حياله كان يتراءى لي امرأة مسربلة بالظلم من شعر رأسها حتى قدميها ، فأحس بالبؤس يغمرني ، وأنسى كل شؤون النساء .
منذ ذلك اليوم درجنا أنا و( مالك ) نراقبه ونتابع أخباره ، وأصبح جزءا ً من همومنا ، وشغل حيزا ً من تفكيرنا ، وقد جذبنا الحزن والجمال إليه بشدّة .

لا ترف على وجهها دائما ً تلك الابتسامة الحزينة التي ألمحها أثناء العمل ، فإزاء الإلحاح المسيء لها ، تضطر إلى استخدام العنف أحيانا ً ، فقد شاهدتها بأم عيني كيف دافعت عن نفسها وكأنها نمرة شرسة أصابها مسٌ من الجنون حالما لامس شاب متهور جسدها . في لحظات ٍ خاطفة بزغت بأظافرها جلدة رقبته وساعديه ، لتترك أشرطة الدم فوقها نازفة ، وسط ذهول الجميع ، ورعب الشاب ، الذي قفز بعيدا ً عنها ، محتميا ً ببراميل المياه ، وقد اختلطت ألوانه من هول الصدمة .



استغرق ترميم المنزل زهاء شهرين من الزمن ، كنت خلالهما مواظبا ً على الاهتمام بشخص ( إمْجَيْدَة ) ومتابعا ً لأمرها ، وكان صديقي أكثر انجرارا ً وحماسا ً في ذلك . كنا نفكّر في حالتها ، دون أن يفضي بنا التفكير إلى نتيجة .
طوال مراقبتي لها ، سحرتني تلك النظرة المُشعّة ، الآسرة في عينيها ، إن فؤادي يظل يرتجف من نظرتها ، وفي كل مرّة كانت تشتعل النار في صدري .. النظرة التي كانت تماثل سل سيف ٍ من غمده في سرعة ٍ خاطفة ، ومفزعة !.
نظرة ٌ خطرة ، إي والله ..
كانت نظرتها نظرة ً أنثوية ٍ محض ، ولا يمكن أن تكون ذكورية . إن نظرة المرأة تختلف حسيا ً عن نظرة الرجل ، مثلما تختلف الأطراف العليا عن الأطراف السفلى .. نظرة محتشمة وخَفِرة .. نظرة عذراء ، صافية كالماء الزلال ، تشبه ضوء الفجر الصادق في براءتها وسحرها . تلك النظرة ما أن تنسكب فوقي حتى تنير وجهي فجأة ً ، وأصحو كمن يفز من نومه !.
أما وجهها فيبدو أشقرا ً مُحمَرّا ً ، ولكن وجنتيها كانتا خوختين . ولا عجب أن يتنبه العمّال إلى هذا الجمال الصارخ ، الذي يستثير المشاعر والأحاسيس الدفينة . إن الأنظار تنزلق صوبها في عفوية ٍ وتلقائية ..
في داخلنا انجراف إلى كل ما هو جميل وفاتن ، ويوازي ذلك انجراف أكثر حماس إلى كل ما هو سري ، فكيف إذا اجتمع الجمال والسري معا ً في جسد ٍ واحد ٍ؟.. إن ذلك مهلك حقا .

برهن صديقي عن جدية مفرطة في العناية بها ، والإشفاق عليها . تناقش معي بإسهاب حول ما يمكننا فعله ، وكأننا رجال إنقاذ ، وفي النهاية قال :
" أولا ً يجب أن ننجح في تجاوز العقبة الكأداء ، وكل شيء سيهون فيما بعد " .
وكنت أفهم أنه يطلب بتجاوز العقبة الكأداء كسب ود وصداقة ( مجيد ) ، وذلك ما كنت أشك في سهولة ارتقاء أسواره المنيعة وتخطيها . كان ( مجيد ) نفورا ً ، يتهرب من الرجال قدر ما يستطيع ، وعندما تساءلت أمام ( مالك ) عن غرابة سلوكه هذا ، أجابني على الفور هامسا ً ، وهو يضحك :
"أنت لا تفهم النساء . "
" أجل ، أنت محق . "
لم نبخل بوصية من وصايانا إلى زملائه لأجل الرفق به ، وترقيق طباعهم ، وأساليب تعاملهم معه ، كم من مرّة ٍ توقفوا صاغرين لسماع مواعظنا ، وكنا على يقين ٍ من أنها تضحكهم في السر . وكان هو يسمعنا ويرانا نفعل ذلك ، كما يلمس العطف الذي أوسعناه له ، فلا يتردد عن شكرنا بأساه البالغ النابع من قلبه الممحون .
كنا ، في أغلب الأحيان ، نهب إلى مساعدته . ننجح بسهولة ٍ ، في فض الإشكالات الناجمة عن سوء المزاح ، بحكم كونهم يعملون في دار صديقي ، طوال تلك الأيام ، التي بدا فيها ( مجيد ) وحيدا ً تماما ً بين فئة ٍ متآلفة فيما بينها ، وكنا نتخايل دائما ً كيف سيكون الحال ما أن ينتقلون للعمل في موقع ٍ جديد ٍ آخر بعد أيام ..
كنت انظر إليه وهو مطرق ، ليس بوسعي تخيل ما يدور في رأسه . قليلون هم من يشفقون عليه ، وحتى بالنسبة له ، فهو يرهق نفسه ولا يشفق عليها بالعمل الشاق طوال النهار . كان مثل الوردة التي ترهقها الرياح والأنواء ، ما أن تذبل حتى تعود في صباح اليوم التالي مشرقة ً تتلألأ مثل كوكب ٍ ، والعطر المسكي يتضوع منها .

حالما يأزف موعد استراحة الغداء ، يتحلـّق العمّال حول براميل الماء ، يغتسلون ، والبعض يتوضأ لأداء صلاته . بينما يقف مجيد جانبا ً ينتظر بصبر ، من دون أن يتململ ، مثلما تنتظر النساء عادة ً بصبر حتى يحين دورهن .
يكشف عن ذراعيه ، مشمّرا ً عنهما أردان القميص ، ليظهرا ناعمين كالعاج الأملس . وحين يرفع ذراعه اليمنى ويبدأ يغسلها بكفه الأيسر ، تبين ذراعه تلك كالمغزل ، وهي تنتهي بكوع ٍ مدبب ٍ لا يتشكل إلا في أطراف الحسان المغريات ..
ما أن يريد أن يمسح شعره بكفه المبلـّلة بالماء ، يرمى بكوفيته خلف عنقه ، فينحسر رأسه كاشفا ً عن شعر ٍ فاحم ، سبل ، مفروق إلى الجانبين مثل سعفة نخيل .
وبعد أن يجتمعوا حول مائدة الطعام ، المبسوطة على الأرض ، يبدأ ( مجيد ) ، مثلما تفعل ربّات البيوت ، في ترتيب الصحون ، وتوزيع أرغفة الخبز ، وهم ينتظرونه يفعل ذلك برضا ، وكأنه المرأة الوحيدة التي تجلس بينهم ، والتي يحق لها ترتيب المائدة ..
كنت قد دأبت على مساعدة ( مالك ) طول أيام العمل المتواصلة . وعند انتهاء عمل كل يوم ، نرتمي على المقاعد خائري القوى . لم نكن متعبين ، ومنهكين جراء العمل ذاته ، ولا جراء ذلك الشواش والضياع بين أجساد العمّال المتدافعة ، المتزاحمة ، وطلباتهم المتلاحقة التي ليس لها حدود ، كلا بالتأكيد . إننا في إثر كل يوم ٍ من أيام العمل المضني نسقط جانبا ً واهنين ، ومحطمين من سحر ( مجيد ) الذي لا يقاوم !..

حثثنا الخطى صوبه في تلك الأيام ، ونحن نتشوق أن نحوز على وده ، ونكسب قربه . غير أنني اكتشفت محاولات تهربه . كان ينكمش ، ويلوذ بالصمت ، وكأنه يصد تقدمنا . لبث حذرا ً ومتأهبا ً . حالما ينتهي من العمل ، ويقبض أجره ، ينسل وحيدا ً ، ومشاعر الاغتراب تتناثر بين حذاءيه المطاطيين . خطاه متئدة ، تسير بوقع ٍ حذر ، واستعداد ٍعلى الدوام ، كأنه يمشي بين أدغال ٍ غامضة .
قلت له ذات مرّة ٍ :
" ما اسم والدك ؟ . "
" ما الفائدة من اسمه ، إنه رجل ميت .. "
قال ذلك من بين ابتسامة ٍ جريحة ٍ ، صامتة . ما أوجع أسئلة الناس عندما لا يكون لك أهل . كان يرزم نفسه رزما ً موثقا ً ، لا يتيح فرصة ً لغيره أن يفك شداده . وعندما أراد ( مالك ) أن يستفسر منه عن عائلته . أوقفه ( مجيد ) عند حدّه ، عندما ردّه بالقول :
" أرجوك لا تلحْ علي بمثل هذه الأسئلة . "
لقد دفن كل شيء ٍ تحت التراب ، ولم يعد من المفيد أن تنبشه ، فما فائدة أن تحفر ، وتعثر على ميت ٍ لا حياة فيه ؟ .. يبدو أن الشيء الوحيد الذي ورثه من أبويه هو هذا الاسم المبتور ، وتلك اللمحة الشركسية الحادة ، في دائرة عينيه ، عندما يخزر أحدا ً ..
ما أن وجدته يكظم غيظه ، ويعود إلى الانشغال في عمله ، لا يكاد يتحرّر من بؤسه ، حتى رقّ قلبي ، وهرعت أجلب له قدحا ً من الماء البارد . تناوله على الفور وصبّه في جوفه الملتهب . وأدهشني مرأى أنامله . كانت أنامل ممتلئة ، ومثنية بشكل مثير . ولم تكن براجم أصابعه ناتئة ولا داكنة ، كما هو الحال في أصابعنا ، بل كانت جزءا ً مكمّلا ً لذلك الجمال . وحينما تناول الكأس من يدي ، امتدت تلك الأنامل باستقامة واضحة . إن هذا الشيء لا يحدث عند الرجال ولا يتشابه معهم . وفكـّرت في تلك اللحظة ، بأن أصبعا ً واحدا ً من هذه الأصابع لهو أثمن من كل الخواتم التي يتحلى بها الرجال .
إن ذلك الامتلاء والانثناء مروعا ً ، أحسست بتلك الأنامل تمسك بقلبي وتدغدغه . وقلت لنفسي هيهات ، هيهات أن تكون هذه الأنامل أنامل رجل . عشرة أنامل هي عشرة براعم أبصال ٍ لم تتفتح بعد ، تنتظر شفاه رجل ٍ يرويها من رِيقه ِ الساخن، ويجعلها تورق زاهية ً .. لو كان الأمر بيدي لواصلت لعقهما حتى الثمل .
إن التي أمام عينيّ ليست سوى امرأة .. امرأة من الجن .. امرأة بزي رجل . فتاة من السحر ، ترتدي بنطلونا ً أسود َ فضفاض ، يغطيه قميص ٌ سابغ ٌ ، حليبي اللون . إن الحلمتين الناتئتين بصلابة ٍ عند الصدر توشكان أن تثقبا ذلك القميص من الأعلى ، وهما تنمّان عن ثديين صغيرين ، صلبين ، خـُلِقا من المُر الصقيل ..
بعد أن شربت الماء ، مشت من أمامي متنقلة ً بين العمّال ، تسحب قدميها بخفة ، وتنقلهما برشاقة الظباء ، من دون أن تثير في حركتها تلك الضجة التي يحدثها الرجال ..
بالرغم من كل ما ذكرت ، وما سأذكره ، أدركت أنها امرأة حالما اقتربت منها لأول مرّة ٍ وشممت عبقها .. أدركت أنها امرأة بحاسة الشم لا غير . ما أن دنوت حتى غمرتني رائحة أنثى ، تغلغلت في أعماقي بعيدا ً ، كانت عرفا ً أنثويا ً شذيا ً ومتوغلا ً .. الرائحة التي يضوع نشرها أينما حلـّت ، والتي توقظ كل المشاعر الذكورية النائمة ..
كنت ألحظها حين تقترب من أحد العمّال ، الشبّان ، حيث تبدو شديدة الاضطراب ، مرتبكة ، وحذرة ، كأنها تعبر جسرا ً متداعيا ً ، يتمايل تحت أقدامها .

يستعصي الفهم لم َ خلقها الله وسياط العذاب تلهب ظهرها ؟.. كانت بالنسبة لنا كالسجينة الهاربة .. سجينة ً داخل نفسها وجسدها ، بكل ما في معنى السجن من قيود ٍ وآلام مبرحة . وكانت تشعر بوطأة هذا السجن كلما تقدم بها العمر .. السجن الذي لا مفك منه ولا خلاص .
امرأة لا تعرف من تكون .. امرأة مَمْروسة بالسحر الناري ، متّهمة ، تخضع للاستجواب على طول الوقت ، وهي تقف حيال المستجوبين ، المستنطقين ، متمنية ً أن تبتلعها الأرض ، وتنقذها من هذا الوجود المرعب ..

واظبت مع ( مالك ) على التقرب منها بحذر ، ونحن نذود عنها من أية محاولة للعبث في مشاعرها . وكانت هي تعبّر عن امتنانها بنظراتها الصامتة ، الخجولة . إن هذا التقرّب الحثيث جعل شيئا ً منها يتغلغل رويدا ً إلى سويداء قلبي . كانت نظراتها كافرة ، وليس بوسعي أن اصمد إزاءها ، حالما تقع عيناها على عيني أهتز ُّ مندحرا ً ، وأبحث عن شيء ألوذ به .. أي شيء ، حتى لو كان بضعة كلمات تافهة تلهيني ، وتستر ضعفي ، وتمنع انهياري . وبت أدرك بأن الموت يترصدني في نظرات عينيها .
وفي يوم ٍ تجرّأت ، وسدّدت إليها نظرة ً فاضحة لا تقوى على كتمان شيء ، فإذا بها تجفل ، وترتد إلى الوراء مرعوبة ً . ومن يومها لم تعد راغبة ً في التحدث إلي ّ، ولا الوقوف أمامي والتطلع بي . قلت يا إلهي ماذا فعلت بنفسي ؟ .. وأي رغبة ٍ مجنونة ٍ تعثـّرت بها قدماي ، وصدمتها في نظرتي تلك ؟..


اختارت أخت ( مالك ) إناءا ً معدنيا ً لا بأس به ، وملأته باللبن الخاثر . وحملته عصر ذلك اليوم وذهبت به ، برفقة زوجته ، إلى الخياطة ( هدية ). ذهبتا للتثبت من مقاس العباءات قبل الانتهاء تماما ً من خياطتها ، هكذا كانت أعراف الخياطة . وعندما عادتا من عندها بدا الذهول واضحا ً عليهما .
جلستا بين يدي ( هدية ) ، وعيونهن استدارت نحو ( مجيد ) الذي كان يجلس وراء المرأة مباشرة ً، على حصير ٍ لوحده ، وقد أمسك بين يديه بعباءة نسائية وانشغل في خياطتها أيضا ً . في دهشة ٍ وانتباه ٍ أخذتا تشاهدانه كيف يخيطها بمثل تلك الدقة المتناهية ، قطبة ً قطبة ، يخيط بمهارة الخيـّاطة المتدربة ، الخبيرة ، خِياطة ناعمة ، محكمة ، لا تخرج إلاّ من بين أنامل امرأة فُطِرَت على أدق الأعمال !..
كان يغرز إبرة الخياطة من جهة ٍ ويسلها من جهة ٍ أخرى في غاية الخفة والإتقان . كانت لطريقته في الإمساك بإبرة الخياطة بطرفي سبابته والإبهام تأثيرها المذهل على المرأتين . وسرعان ما أتم عمله ونهض منصرفا ً ، في الوقت الذي لم تزل فيه ( هدية ) تواصل خياطتها وهي تلتمس طريقها ببطء . ثم رفعت ( هدية ) رأسها وشرعت تدعو له بالخير ، وتشكره لمعونته ..
سألتها أخت ( مالك ) عن مدى قرابة هذا الرجل بها ، فأجابتها بشيء من الغموض :
" ليس قريبا ً لنا بالضبط ، ولكنه من معارفنا الأقربين .. معارف كالقرابة تماما ً ."
" هل يسكن لوحده في هذا الركن من البيت ؟ . " " نعم هو وحيد . "
" لم َ لا يتزوج ؟ . "
" إنه رجل عليل ، لا يقوى على الزواج . "
لجمت الحيرة لسان أخت ( مالك ) ، وأسكتتها برهة من الزمن . ودفعت تلك الإجابة في سريرتها موجة ً من الشكوك . وقالت لنفسها كيف يمكن لهذا الرجل أن يكون عليلا ً ، وهو يعمل بهمة ٍ ونشاط ٍ في كل حين ، بينما وجهه الأحمر يكاد يتفجر دما ً !. بدا لها الجواب مراوغا ً لا يمكنه أن يقنعها بشيء ، إن النساء طالما يسترن الحقائق بأقنعة المرض .
وما لبثت أن سألت مرّة ً أخرى :
" أين عائلته الآن ، وماذا يعملون ؟ . "
رفعت ( هدية ) عينيها وقد ارتسمت على ثغرها ابتسامة باهتة وساخرة ، لتقول :
" إنهم ينامون تحت التراب جميعا ً ، ولا يعملون شيئا ً . "
حالما عادت إلى بيتها أسرعت تخبر أخيها مالك عن ذهولها وهي تقول بإصرار : " لا يستطيع أحد ٌ بعد اليوم أن يقنعني بأن هذه المرأة رجل ٌ . "

ومنذ ذلك اليوم أصبحت أخت ( مالك ) تشارك معنا ونحن نطلق عليه اسم ( إمْجَيْدَة ) ، وقالت : " ما من أحد يلتقي به دون أن يتمعن فيه . إن لصفي الأسنان في مقدمة ثغره صورة لا يمكن أن تنسى .. "
وقالت أيضا ً :
" حينما كانت تجلس بيننا وهي تخيط ، جلست في غاية الدعة والسكينة ، كما تجلس الفتاة مع بنات جنسها . كانت تتحدث وتعمل بتلقائية عجيبة ، بعيدا ً عن أي ارتباك يمكن أن يشعر به الرجل وهو في حضرة جمع ٍ من النساء .. "


في أثناء فترة العمل تَخَلـّف ( مجيد ) ذات يوم ٍ عن الحضور فجأة ً . لم نتوقع تغيبه بالمرّة وفقا ً لدأبه ونشاطه . حين تبين لنا عدم تواجده بين العمّال . أسرعنا نتساءل عنه في شك ٍ من الأمر ، فأخبرنا ربّ العمل أن ( مجيد ) يذهب لزيارة أهله في نهاية كل شهر ، اعتاد أن يستأذن منه ليتوقف عن العمل مدة ثلاث أيام .
عند ذكر هذا العذر دارت عيناي تبحث عن عيني ( مالك ) لتغوص في أعماقهما ، وفي ذات الوقت أبحرت عيناه أيضا ً في عيني لتصطدما بجدران حيرتي . كلانا يعرف أنه لا أهل له ، وأن الرجل لا يسافر إلى أي مكان على الإطلاق ، بل إنه لا يكاد يغادر منزله إلا لأمر ٍ بالغ الضرورة ، وكان ذلك نادرا ً ما يحدث ..
لاحظت كيف استبد الفضول بـ ( مالك ) ، الذي ظل يحوم حول ربّ العمل ، وهو يسترق السمع لعله يسمع شيئا ً آخرَ عن ( مجيد ) يروي عطشه .
في حدود الساعة الرابعة عصرا ً ، وفور توقف العمل ، هرع ( مالك ) متحمسا ً ، وطلب من أخته أن تقصد بيت ( هدية ) في الحال ، للتوقف على خبر ( مجيد ) . وكانت أسرار الرجل وغموضه قد أطلقت ، كذلك ، الفضول الحبيس في أعماق هذه المرأة ، كما تُطلَق حمم البركان الجياشة . ولاحت لي في حماستها ، أكثر اندفاعا ً من أخيها ( مالك ) نفسه ..
هنالك ، في منزل ( هدية ) جلست أخت ( مالك ) وصدمة الدهشة تلجم فمها ، ما أن وقعت عينيها على ( مجيد ) وهو يجلس متربعا ً إلى جوار ( هدية ) ، عاكفا ً على الخياطة ، وهي لا تقوى على قول شيء !..
بعد دقائق استجمعت المرأة شيئا ً من جرأتها وهمست في أذن ( هدية ) :
" لم يذهب ( مجيد ) إلى العمل هذا اليوم .. "
" إنه متوعك قليلا ً ، ويعاني من آلام الظهر . "
سبق أن عاشت أخت ( مالك ) في كنف زوج ٍ ، وأنجبت قبل أن تترمل . إنها، شأنها شأن كل امرأة ، لديها من الخبرات في أمور النساء الشيء الكثير . ما أن علمت بآلام ظهره ، وتغيبه عن العمل ، في موعد ٍ ثابت ٍ من كل شهر ، ليجرّها الفضول الأنثوي الرهيب ، إلى التطلع في محيا الرجل بإفاضة ٍ وتمحيص ، حتى أدركتها أعتى الظنون العجيبة . كانت عيناه في نقرتين هذه المرّة ، وقد أحاط بهما السواد من الجفن الأسفل ، وما فتئت الرموش تستسلم فوقهما بوهن . بينما صبغ الشحوب الغزير وجنتيه بلون الورس ، وتماهت على جانبي قصبة أنفه ذرّات من العرق . ولأجل تخفيف صداع الرأس لجأ إلى عقد كوفيته حول رأسه بقوة ، كما تعقد المرأة عصّابتها عادة ً ..
إن الأدهى من ذلك هو تلك الكآبة التي أغرقت طلعته ، وفقدان أطراف أنامله القدرة على التركيز في الخياطة .
حينما عادت أخت ( مالك ) من زيارة الخياطة ، هرعت نحو أخيها لتخبره ، بجنون ٍ ، ¬¬¬وقليل ٍ من الحياء ، قائلة ً له :
" كَذِبَ من قال أن ( مجيد ) مسافر ، وجدته هناك ، ولكنني ما أن تمعنت فيه وتفحصته جيدا ً ، حتى تيقنت أن كل ما فيه ينطق بأن الرجل قد ألمّت به متاعب وآلام الدورة الشهرية !. " ثم أشاحت بوجهها جانبا ً وهي تغمغم قائلة ً بحسد فاضح :
" يتغيب في آخر كل شهر ؟ .. إذن ما أضبط دورته وما أدق انتظامها !.. "


كان ثمة اختلاف جلي بيني وبين صديقي ( مالك ) حول شخصية ( مجيد ) . ففي الوقت الذي كان يراه رجلا ً في زي امرأة .. رجلا ً قمع ذكورته باكرا ً ، وأغلق الطريق على دور الفحولة في جسده ، حتى رقّ ولان ، وراح ينمو كما ينمو العشب الطري ، النضر في التربة الخفيفة ، الندية .
كنت ، وبعكسه تماما ً ، أجده امرأة في زي رجل .. امرأة تدرّعت بثياب الرجال ومظهرهم الخشن ، لتحمي نفسها من الوحوش الكاسرة ، وتنتزع لقمة عيشها بيديها انتزاعا .¬¬¬¬
امرأة تتمنى لو ترسل لحيتها وشاربيها ، وتتطلع لشراء عقا¬¬¬ل ٍ أسود سميك ، يرسخ كوفيتها فوق رأسها . وفي بعض الأحيان كانت تذهب لتجلس بين العمّال في إحدى المقاهي ، وهي ترتشف الشاي ، وتطقطق بسبحتها السندلوس الخضراء .. ومهما كان شأن ( مجيد ) فإنه في نظري إنسان نادر المثال .
وسواء ، أيضا ً ، أكان هذا أم ذاك ، فإنه في كلا الحالين لا تمثل هذه الظنون جوهر المشكلة بالنسبة إليه . إن حالته حالة ٌ خاصة . راودتني الشكوك بأنه نوع ٌ قد يكون مزدوج الجنس ، وقد أبحت بشكوكي لصديقي ، وأخبرته قائلا ً :
" إن معالجته ممكنة . "
" حقا ً ما تقول ، ولكن كيف السبيل إليه ؟ . "
كنت أعلم أن لا سبيل إلى عقله وقلبه ، فهذا الإنسان قد تحصن خلف شبكة معقدة من الأحاسيس والأفكار ، وتخندق بين تلال ٍ من السلوكيات النفسانية التي لا تتزعزع . إن أي مسعى لأجل تغييره يلوح مستحيلا ً ، بل حتى مجرد نصحه ، فأنا على ثقة ٍ بأن ذلك سيدفع به ليجن جنونه . إنه إنسان حذر لا يلتمس النصح من أحد . وذلك ما يمثل جوهر المشكلة في تقديري .

بعد ثلاثة أيام ٍ على تغيبه ، عاد ( مجيد ) إلى العمل ثانية ً . كانت تبدو على وجهه ملامح التجهم والتوتر . وكأنه أضاع شيئا ً أو حدث له أمر غامض . وكان ترميم الدار قد شارف تماما ًعلى نهايته ذلك اليوم . في نهاية الأمر ، وقبل أن ينصرف العمّال عند العصر ، طلب ربّ العمل من ( مجيد ) أن يتدبر رفع مخلفات العمل ، و شؤون التنظيف . أسرع ( مالك ) ليجلب له مكنسة يدوية ، من تلك المكانس الصغيرة ، التي تصنع من سعف النخيل . جلس ( مجيد ) مقرفصا ً ، متسربلا ً بالحشمة والحياء ، كما تجلس النساء عادة ًعند الكنس ، وراح يكنس الأرض بنشاط ٍ لا يمكن أن يتوافر مثيلا ً له عند الرجال . يدفع يده الممشوقة إلى الأمام بخفة وحركة رشيقة ليزيح الزبالة ، ويواصل تقدمه في الدار وهو مقرفصا ً . وكان صدى صوت المكنسة يتردد بين الجدران حادا ً ورشيقا ً ..
كنت أقف جانبا ً فاغرا ً فمي كالمشدوه ، وقد سحرني صوت الكنس وحركاته ، ولم أتردد من أن أهمس في أذن ( مالك ) قائلا ً :
" استمعْ لصوت المكنسة ، إن مثل هذا الصوت لا يصدر إلا من يدي أنثى كاملة الأنوثة .. " ثم ملت لأقول له ، بعد أن غمرني السحر :
" إن مجرد سماع هذا الصوت ينبع من بين يديه كفيل بأن تتوله القلوب به .. "
وهنا قفز ( مالك ) من جانبي مستثارا ً ، وهو يقول متعجبا ً :
" يا إلهي لم أعلم من قبل أنه حتى صوت الكنس الأنثوي يمكن أن يسحر الرجال ! . "
إن الاختلاف الطفيف بين رؤيتنا ، أنا وصديقي ( مالك ) ، بان أوسع وأعمق في مشاعرنا وأحاسيسنا حيال ( إمْجَيْدَة ) . إذ ْ كان صديقي يكن لهذه المخلوقة البريئة العطف والشفقة ، ويرى فيها أنسانا ً مظلوما ً ، مشرّدا ..
في حين هفا قلبي إليها . واختلج شيء في صدري .. شيء غريب لم أحس به من قبل . هل أقول عنه حب تفتّحت بذوره في خلسة ٍ ، من دون أن أشعر به ، وأعي كنهه ؟..
أصبحت أضطرب ، ولا أتمكن من قهر تردّدي ، حينما أقف في مواجهتها ، في حين أخذت تصد عني ، منذ تلك النظرة المرعبة ، وباتت تواجهني في فتور ، وخيط من الحذر يمر عبر عينيها . وفي الوقت الذي كانت تتعامل فيه مع ( مالك ) بتلقائية ٍ رائعة ، صارت تتهرب مني وتجفل . لقد سلـّطت كشافاتها على داخلي وعثرت على ما كانت تخاف منه ، على الرغم من أنني لم أتنبه إلى أي شيء ٍ من ذلك كلـّه . ولكنني كنت قد أخبرت ( مالك ) عن أمر ٍ يشبه هذا ، عندما قلت له ذات مرّة :
" لو كانت ( إمْجَيْدَة ) امرأة خالصة الأنوثة ، لما توانيت لحظة ً واحدة ً من رمي نفسي في أحضانها كالمخبول . "
ولكن في مآل الأمر ، تنبهت لأمري ، ورحت أوصد الدروب على مشاعري وأحاسيسي ، منقادا ً إلى ما تمليه علي القيم . أبعدت نفسي غصبا ً عنها ، والغيرة تجرجرني بينما أنا أنظر إلى تلك المشاعر السامية التي غمرت صديقي ( مالك ) .. مر الشهر سريعا ً ، وأُنجِزَ العمل ، ورحل العمّال . ولم يُعد بالإمكان رؤية ( مجيد ) إلاّ لماما ً. إلاّ أنني و ( مالك ) لم نألُ جهدا ً في السؤال عنه ، ومحاولة الكرّة من يوم ٍ لآخر في سبيل مصادفته ، في أوقات الأصيل . لكن في هذا الوقت بالذات يتحول ( مجيد ) إلى شخص لا وجود له في العالم .. شخص يختفي لا تسمع به ولا تراه ، حتى وإن كان في مرمى بصرك .
عندما أقول عنه يختفي فأنا أعنيها حقا ً ، فإنه ، حتى بالنسبة له شخصيا ً ، يختفي فيه الرجل الذي اسمه ( مجيد ) ، وفي تلك الأثناء يلوح منه فقط شبح تلك المرأة المعذّبة ، التي ليس لها سوى صدى الاسم البائس ( إمْجَيْدَة ) ، وأينما كانت تظهر فلم تكن سوى سراب لإنسان ..
كان بوسعنا العثور على زملائه بيسر . لأجل متابعة أخباره ، والتعرف عن أحواله عن طريقهم فقط ، وكنا لا ندّخر وسعا ً في حضهم على الرفق به . ولكنهم غالبا ً ما يطمئنونا بخبث ينم عن شمائلهم الثعلبية . المصيبة إنهم يبحثون دائما ً عما يضحكهم ، فالسخرية كانت وسيلتهم الأولى التي تريحهم من عناء العمل ، وهم غافلون عن عواقب الأمور . والمصيبة الأدهى أيضا ً أنهم ينبشون ، ويبحثون عن أصل وأسرار هذا الإنسان ، من دون أن يلحظ أحد ٌ منهم طيبته الصافية ، العفوية ، والنبل العظيم الطاغي على شخصه ، والذي يستحق الإشادة من كل إنسان التقى به وعرفه عن كثب .


فيما سبق ، كنت أقيم في حي ٍ من الأحياء القديمة ، حيث يقيم ( مجيد ) أيضا ً .. حي من أفقر الأحياء وأكثرها رثاثة ً في المدينة . الكثير من الحوادث اليومية والمشكلات تقع كل مرّة ٍ من حولنا . ولكن القليل ، القليل منها يمكن أن يصل إلى أنظار المحاكم والشرطة .
لطالما يحكم أطراف النزاع ويفصلون بأنفسهم ما يشكل عليهم من أمورهم . وطالما يتوصلون إلى نتائج مرضية عن طريق عشائرهم . فالأعراف العشائرية هي القضاء الأعلى بين أهالي هذا الحي في واقع الأمر .
ما من حادثة تمر إلاّ وتناقلتها الألسن في غاية السرعة . ننام ونصحو على ذكر تلك الأحداث . وذات صباح شاع ذكر مشكلة ، شابها الدم ُ، وحدثت لتوها . كان صدى اسم ( مجيد ) يتردّد فيها . وقد أصابني ذلك بالهلع . لم أتأخر في زيارة ( مالك ) لأجل الوقوف على حقيقة ما جرى . وقد عثرت لديه ما أثلج صدري وأراح سريرتي ، حينما أخبرني قائلا ً :
" كل أناس الحي يقفون إلى جانب ( مجيد ) ، إنهم يرون فيه إنسانا ً وديعا ً ، ومظلوما ً ، ويصبّون كل اللوم على خصمه .. "
" هذا موقف إنساني حسن ، ولكن هل استطعت أن تلم بكل تفاصيل المشكلة ؟ . "
" أجل .. أجل ، إن المشكلة حدثت مع ( يحيى ) أبن ( إبراهيم الصباغ ) ، هل تعرف ( يحيى ) هذا ؟ .. "
لذت بالصمت برهة ، كان بإمكاني تذكـّر من يحمل هذا الاسم ، لو مُنِحْتُ فرصة للتخيل ، ولكنني ما لبثت أن هززت رأسي بالنفي .
" أنا لا أعرفه أيضا ً ، ولكن دار ( إبراهيم الصباغ ) ملاصقة لدار ( مجيد ) . وقد نقل لي أحد الجيران عن ابنه ، إنه شاب نزق ، مراهق ومستهتر ، ليس باستطاعة والده السيطرة على سلوكه . يعتلي سطح بيتهم أربع َ وعشرين ساعة ، لاهيا ً مع طيور الحمام . وحدث في عصر أحد الأيام أن وكـّرت حمامة ٌ من حماماته في داخل دار ( مجيد ) صدفة ً، فاعتلى هذا الشاب سياج السطح ورمى برأسه وأبصاره إلى تلك الدار ، ليصطدم بمرأى ( مجيد ) وهو يغتسل في حوش الدار عاريا ً كما ولدته أمه . انسكبت نظراته من أعلى السطح في هول ٍ وذهول ، وبهت مستسلما ً أمام مرأى العاج ، حتى نسي نفسه . غاب تائها ً في هذا السحر الذي خلب لبه من أول نظرة . وحينما عاد إلى رشده ، راح يتساءل هل كان أمام رجل ٍ أم امرأة ؟ .. وحتى لو كانت امرأة حقا ً ، أيعقل أن يكون لها مثل هذا الجسد ؟ ..
وبحدسه الشيطاني عرف ذلك الشاب بأن ( مجيد ) ما أن يؤوب من عمله عصر كل يوم ٍ ، فإنه يباشر في التحمم وسط حوش داره ، عند صنبور المياه . هنالك ينكشف الكنز ، وتظهر كل الجواهر الخبيئة التي تشع وتعمي الأبصار . ولأجل أن يتلذذ بمنظر جسده ، ثقب سياج السطح ، ثقبا ً مناسبا ً يتيح له التلصص بحرية ٍ كافية . ومن فوق السطوح أمسى ذلك المراهق يستنزف قواه الجسدية ، يوما ً بعد آخرَ استنزافا ً قاتلا ً . حتى وصفه جاره ذاك وصفا ً صادقا ً بأنه بات جلداً وعظما ..
ثقب السياج أخذ يتسع يوما ً بعد آخر ، أمسى نافذة ً سحرية تنساب عبرها الصور الخيالية ، والوجد ، والآهات . كما ينساب سيلا ً من اللعاب . لم يعد يهتم لطيوره الأثيرة ، واستبد به الهوس . كان يجلس ملتصقا ً بتلك الكوة الضيقة وقتا ً طويلا ً ، وضرام الشهوة المشبوبة في دمه يتأجج حارقا ً ومدمرا .
أسرت هذه الحمامة الفاتنة قلبه وعقله ، لم يعد يطيق الصبر على امتلاكها ، واحتوائها في أحضانه وبين ذراعيه . وتلاعبت به خيالات المراهقة شمالا ً ويمينا ..
ابتكر عشرات الطرق من أجل كسب صداقتها : تصدى لها في عرض الطريق مرارا ً، حمل إليها الطعام بنفسه ، متضرعا ً إليها أن تتقبله ، وتارة ً طرق عليها الباب بحجة طيوره ...... ولكن كل ذلك لم يفلح في حملها لتفرج ما بين رموشها الوطفاء وتنظر من يكون هو !.. كانت كتاب سحر ٍ مغلق ، لا يتجرأ ولا يتمكن على فتحه إلا ساحر متمرس ، لديه المقدرة على مواجهة الجني النائم تحت غلافه السميك وجها ً لوجه ..
يوما ً بعد آخر اضطربت أذهان ( يحيى ) وبات سكرانا ً في ذهوله ، وفقد القدرة على مسك زمام جموحه . وفي الأمس ، عندما تعرّى المساء ونضا عنه الأستار ، وراح يغتسل بماء الورد الريّان . تصاعدت نسائم غامضة من بستان الجسد المتفتح عبر رذاذ الماء المسكي ، مخترقة ً كوة التلصص ، وملهبة ً عين الفتى ببريق الشبق الخاطف ، لتصيبه بالعشو . ارتجف قلبه ، وكأن زلزالا ً يزلزله ، فترك مكانه ، وهبط من السطح مسرعا ً ، ولفوره تسلق جدار بيت مجيد ، وقذف بنفسه في داخل الحوش ، وكان ( مجيد ) يوشك أن ينهي اغتساله . انطلق ( يحيى ) مخترقا ً الحوش بجنون صوب ( مجيد ) ، وسهام عينيه المتوقدتين تصيبه وتنفذ في جسده . لقد زلّ به قلبه ، دلف وهو لا يدري ما الذي يريده من هذا الإنسان العاري بالضبط ، كان الاشتياق والاشتهاء وحدهما يقودانه كالأعمى ..
نظر إليه ( مجيد ) وقد فزع من توقد أنظاره والتهابها على مثل هذه الصورة . امتدت يداه على الفور وتصالبتا فوق عورته . ثم تراجع مذعورا ً إلى الخلف ، باتجاه باب غرفته ، ولكنه قبل أن يختفي في أعماقها تنبه إلى مجرفة العمل ، المطروحة قرب الباب ، فأسرع لالتقاطها مدافعا ً بها عن نفسه .
وثب على ( يحيى ) وأخذ يضربه حتى أوقعه أرضا ً ، ثم راح يثخنه جراحا ً ، وخلال لحظات ٍ كان الفتى الولهان طريحا ً على الأرض ، يسبح بدمه ولا يقوى على الحراك .
ارتدى ( مجيد ) ملابسه على عجل ٍ ، ثم حمل الفتى وألقى به خارجا ً . حدث كل ذلك ، وكلابه الثلاثة كانت تغط في نومها ، ولم تحس بما كان يحصل في داخل البيت ! ..
بعد ساعة ٍ من الحادث ، سارعت ( هدية ) إلى إحضار من يمثل عشيرتها ، وهي تصب اللوم على ( إبراهيم الصباغ ) وعلى ولده ، لأنه تجرأ وداس دارها .. "
صمت ( مالك ) ، ولاحت ابتسامة طفيفة الأثر في وجهه وقال :
" يبدو أن صاحبنا يجيد الدفاع عن نفسه بحمية ورجولة .. "
" إي ، نعم ، لقد أجاد فعلا ً في ردّه حين انقض على هذا المتهور كالصاعقة . "
" لا أستطيع تخيل كيف سيتم فض هذه المشكلة ، ولكن الحق العشائري سوف يكون إلى جانب ( مجيد ) بكل تأكيد .. "
" إنني أفكر كيف يمكننا تقديم العون له .."
" يقولون أن ( يحيى ) استغرق في البكاء ليلة البارحة ، وكان بكاءه مريرا ً ، البعض قالوا إنه بكاء الخشية والندم ، ولكن جاره كان يعتقد أنه بكاء المحبة والشوق ، وقد وصف حاله حينما ذهب ليطّلع على المشكلة ، بأنه طفق يبكي في حرقة كمن أضاع شيئا ً غاليا ً خلف سياج بيته ، بل يلوح لكل من يجلسون حوله أنه تقبل الجراح التي أوسعتها المجرفة في جسده بقلب ٍ واسع ٍ ، محب ٍ، ومتسامح ٍ . وفي الواقع لم يكن ( يحيى ) نادما ً على ما فرط منه ، فقد واصل ، فيما بعد ، الرصد وهو يطلق العنان لسعيره المشتعل ..

بعد أسابيع ٍ من تلك الأحداث أخذت أخبار ( مجيد ) تتوارى بالتدريج . لم يعد بإمكاننا ترصده عند المساء ، ولم تتوفر لنا فرص رؤية رفاقه العمّال ، كما أن أخت ( مالك ) و زوجته ما عادتا تزوران ( هدية ) بعد أن أتمت ( هدية ) خياطة عباءاتهن .
ولكن نما إلى أسماعنا أن هؤلاء العمّال كانوا منشغلين في بناء دار حديثة في ضاحية ٍ ، تقع شمال المدينة ، تبعد عنا بضعة أميال . وهكذا بدأنا ننسى ( مجيد ) ، وانصرف اهتمامنا عنه مع الأيام ..
مرّت بضعة أشهر ٍ حتى أدركنا شهر رمضان . وأثناء هذا الشهر لم نعد أنا وصديقي ( مالك ) نلتقي سوى في ساعات الليل . كنا نتواعد ، بعد الإفطار ، لنمضي وقتا ً ليس بالقليل ، في إحدى المقاهي الساهرة ، التي تزدحم ليلا ً ، إبان هذا الشهر . وفي مثل هذه الحالة تيسر لنا رؤية الكثير من الوجوه .
في إحدى الليالي شاطرنا السهر في المقهى سائق شاحنة ، سبق له أن ساهم بنقل مواد البناء إلى دار ( مالك ) في فترة ترميم الدار . كان رجلا ً أريحيا ً ، يدخل إلى بيت ( مالك ) بعفوية ٍ ويمازح العمّال ، ويتجاذب معهم بعض الحديث قبل أن ينصرف إلى عمله . إن الكثيرين من أمثاله باتت تربطنا معهم علاقات ٍ ودية ٍ ، سلسة ، أثناء العمل .
خلال أحاديثنا المتشعبة ، توقف السائق عن الكلام وتساءل في غموض ، وهو يتذكر أمرا ً، بينما سحنته تنم عن أمر ٍ غريب ٍ ، عاجل ٍ ، وهو يقول :
" صحيح ، هل بلغ علمكم أين اختفى صاحبكم ؟ .. "
" صاحبنا ؟ .. من هو صاحبنا ؟ . "
" ما قضيتكم ؟ .. صاحبكم ( مجيد ) ؟ . "
ورحت أتطلع في وجه ( مالك ) ، وقد ابتلعته الريبة سريعا ً ، واشتعلت فيه الهواجس .
" اختفى فجأة ً قبل بضعة أسابيع ولم يعد له وجود في المدينة . "
أكـّد الرجل أقواله مرّة ً ثانية ً ، وأعلن عن أسفه ، فيما راح يتفرس في وجهينا بغرابة ٍ وتساؤل .
قلت له :
" كيف لنا أن نعرف ، ونحن لم نلتق ِ ( مجيد ) ، ولا أي ٍ من رفاقه طوال هذه الأسابيع الماضية .. "
تبدّلت ألوان ( مالك ) سريعا ً ، وقال للرجل وهو يبلع ريقه في عسر :
"هلاّ أخبرتنا كيف اختفى ( مجيد ) ؟ . "
" تلك حكاية طويلة ، ولا تـُصدّق .. "
وعندما شرع يروي أحداثها تبين لي أنها حكاية ليست طويلة في الواقع ، ومن السهولة تصديقها أيضا ً ، لكل من عرف ( مجيد ) وعرف عبث العمّال معه .
كشف الرجل عن أكوام ٍ من النفايات القذرة ، التي تحدّث عنها بأسف ِ ، والغصّة تملأ فمه ، ذكر أنه على الرغم من سطوة ربّ العمل وصرامته إلاّ أن ( مجيد ) لم يجد في مناخ العمل متنفسا ً له ، يخال لمن يتنبه لشغب العمّال كأن ربّ العمل غير مكترث لما يدور حوله ، ولكنه في الحقيقة يكون منشغلا ً عادة ً ، ولا يتيسر له وقتا ً كافيا ً ليعلم بما يحصل . إن الانغماس اللانهائي له في شعاب العمل يسمح للعمّال بالإغارة المتكرّرة على ( مجيد ) .. في ذلك اليوم تمادى العمّال في سخريتهم ، ومشاكساتهم الفاضحة ، الوقحة ، التي لا تقف عند حدّ ٍ معه . وبعد الانتهاء من تناول غدائهم ، وفيما هم يتهيئون لشرب الشاي ، عزموا ، في غاية التهور على كشف عورة ( مجيد ) ورؤية أعضائه ، في واحدة من ألاعيبهم التي تفتقر إلى أصول اللياقة والتهذيب .
نهض فريق ٌ منهم ، كانوا في غاية الخبث ، أحاطوا به ، وأخذوه عنوة ، على حين غرة ٍ ، وطرحوه أرضا َ. في غفلة ٍ تكالبوا على الإمساك به إمساكا ً موثقا ً ، وحازما ً ، دون أن يتركوا له فرصة الإفلات .
قاوم ( مجيد ) مقاومة رهيبة ، كان يلبط بين أيديهم ، مثل سمكة زلقة ، لا يقوى على الإمساك بها أحد ، كافح حتى آخر نبض في جسده ، وعندما غُلِبَ على أمره ، وسقط بين أيديهم صريعا ً، أطلق صرخة استنجاد ٍ هائجة ٍ ، مدوية ، غير أنهم أسرعوا لتكميم فمه بكوفيته .
في النهاية شلـّوا أوصاله عن الحركة ، وقعدوا على صدره . وقد خارت قواه ، وتقطـّعت أنفاسه . لاح غارقا ً تماما ً بين أذرعهم القوية وأجسادهم الصلبة . أنزلوا بلا حياء ٍ بنطلونه وسرواله الداخلي . ثم أفرجوا ساقيه ، وشرعوا يفتشون بين العشب الأسود الناعم . وفي عريه كان أشبه بحبة لوز انتزعت من قشرها .
لم تكن المفاجأة المذهلة ، التي أطارت بصوابهم صدمة ً عنيفة ً لهم وحسب ، بل كانت صدمة ً لهم ، ولذلك المسكين ( مجيد ) ، ولكل إنسان سمع بها فيما بعد ، وفي نهاية المطاف نزلت كالصاعقة على رأس ربّ العمل ، الذي كان يجلس في مكان ٍ آخر َ ، ولا يعلم بما يحصل .
هل أجافي الحقيقة لو ذكرت بأن هيكل تلك الدار ، التي كانت قيد الإنشاء قد تزعزع أيضا ً ! . وفجّرت تلك الصدمة أصداء ً هائلة ..
ما أن باعدوا بين ساقيه حتى غشي أبصارهم ذلك الشيء الغريب ، الذي لم يُقَدّر لأحد ٍ رؤية مثيل له في يوم ٍ من الأيام !..
حدّقوا في عورته مليا ً ، وقد أخرسهم الصمت ، ورهبة المنظر . على الفور غابت الدعابة ، وماتت السخرية ، وانسحق الخبث من أعماقهم جميعا ً . وحلّ الجد الصريح في نظراتهم ، وفي رؤوسهم .. جد حقيقي يشبه ذلك الجد حينما يحمي وطيس العمل في أول الصباح ، ويأخذ ربّ العمل بالصراخ كالمخبول :
" هات الطابوق . أرم ِ لي نصف طابوقة . إقلب طاسة الأسمنت . تحرك ْ أنت يا نغل ولا تقف هكذا .. "
في تلك الأثناء تكون عيون الجميع مغرقة ً بالجد . وها هي بين ساقي ( مجيد ) قد استحالت صارمة النظرات أيضا .
في سرعة جنونية ، وأشبه بمن يحفر حفرة ً في الأرض ، ويعثر فيها على جثة متفسخة ، نتنة ، فيسارع إلى ردمها ودفنها من جديد . بمثل تلك السرعة رفعوا سرواله وبنطلونه ، ونهضوا متفرقين عنه . بينما ركض أحدهم وجلس مقعيا ً على الأرض ، وشرع يتقيأ جميع ما تناوله من طعام .
وقفوا متفرّقين عن بعضهم ، مغمورين بهول الصمت . ثمة إحساس ٍ واحد ٍ كان يجمعهم ، فلأول مرّة راودتهم مشاعر الذنوب والخطيئة . وقفوا كالتائبين ينظرون إلى الرجل وهو يسوي ملابسه ، ويشد حزامه على وسطه . كان منظره مأساويا ً، يحض على الشفقة ، وهو يتدثر بغمامة من البؤس الذليل ، وثمة موجة من الدمع الرقراق تتجمع خلف نظراته المجروحة . كم كان عذبا ً منظر أنفه النحيل ، وهو يتدلـّى من بين عناقيد الحزن مثل منقار طير ٍ جميل !. نهض واقفا ً ، ولاح لهم انه يفتقد إلى الثبات، وكانت الحمرة تصبغ وجهه بأكمله . صعّد نظراته إليهم ثم أطرق إطراقة الأنثى ، أراد أن يقول شيئا ً ، أو أن يفعل شيئا ً ، ولكنه عدل عن أي شيء . أمست ملامحه ملامح امرأة مغتصبة ، بعد أن تجرئوا عليه ، وهتكوا الأسرار التي كانت طي الكتمان .
لم تزل أمامه ثلاث ساعات من العمل ، كي ينتهي اليوم ، ويستلم أجره ، إلا أنه رفض في سريرته كل الأشياء . تقدم ليقف خارج الدار ، وألقى نظرة شاملة على الفضاء المفتوح أمامه ، ثم مضى ليتوارى عن الأنظار ، وهو مثخن ٌ بجراح ٍ نازفة .
حينما بدأت نوبة عمل الظهيرة ، نادى ربّ العمل يطلب ( مجيد ) ، فأوقع جميع العمّال في حيرة ٍ وارتباك . لاذوا بالصمت ، وبعد هنيهة عاد يصيح بصوت ٍ أعلى ، ثم انبرى يطلب من العمّال أن يندهوا عليه بقوله :
" أين ولـّى هذا الجحش ، دعوه يأتي إلي حالا ً .. "
تجرّأ أحد العمّال وتقدم منه ليخبره بأن ( مجيد ) ترك العمل وغادرهم ..
في الحال قفز ربّ العمل من مكانه ، ووقف وسط العمّال كالملسوع وهو يصرخ بهم :
" من آذاه ؟ .. أيكم تجرّأ على هذا المسكين ؟ . "
وقفوا جميعا ً مطرقين من دون أن ينبس أحدهم بشيء . لقد أدرك الرجل ، بحكم تجربته أنهم ألحقوا به أذىً فادحا ً . بدا في أوج غضبه وقد احمرّت عيناه ، وكان لم يزل ماسكا ً بمالج كبير ، تلمع في ضوء الشمس نهاياته المرهفة ، راحت عيون العمّال تتابعه خوفا ً من أن يضرب به أحدهم .
" لم َ أنتم ساكتون هكذا ، ماذا فعلتم للرجل المسكين ؟ .. "
راح ينظر في وجوههم واحدا ً ، واحدا . وما لبث حتى انهال عليهم بالشتائم ، وشرر الغضب يتطاير من محياه . وفي الحال أوقفهم جميعا ً وطردهم من موقع العمل . غير أنهم ابتعدوا عنه قليلا ً ، وتجمعوا إلى بعضهم البعض ، آملين أن تهدأ ثورته ، ويحيد عن قراره . غير أنه وقف في مواجهتهم وصرخ بأعلى صوته :
" أخرجوا حالا ً و اذهبوا إلى الشيطان ، لا أريد أن أرى أيا ً منكم بعد اليوم .. " إن الطاعة التي يكنها عمّال البناء لأستاذهم ربّ العمل لا يقابلها طاعة ٌ في كل المهن والحرف الأخرى . حينما سمعوا أوامره انسلوا الواحد تلو الآخر ، وأكف اللوم والندم تدفع بأقفيتهم ..

توقف ربّ العمل يومين متواصلين عن البناء ، وهو يغالب إحساسا ً بالإثم والعار . وفي اليوم الثالث حضر في تشكيلة ٍ جديدة ٍ من العمّال ، بعد أن غير طاقم عمله تغييرا ً شاملا ً ، بما ينطوي عليه عمله هذا من مخاطر ٍ جمة ٍ ستواجهه وتواجه عمّاله أيضا ً .. مخاطر من مثل المغامرة بسمعة عمله ، وكذلك رمي مصير اثنتي عشرة عائلة ٍ من عائلات العمّال بين مخالب المجهول ..



تهتّكت أعصابي ، ولم يعد بوسعي الاستماع إلى المزيد من هذا الهراء القاتل ، الذي آلمني سماعه ، وأوقعني صريع الحيرة ونهب الخيبة . أحسست وكأنه أمسك أذني بشدة ، ورفعني في الهواء كأنني خاطئ ، آثم . جفـّت لهاتي ، ويبس حلقي لفرط تلاحق الإحساس بالذنب والإشفاق ، وجدتني في مواجهة صعوبة بالغة لكي أفتح فمي وأسأله قائلا ً :
" منذ متى حدث ذلك ؟ . "
" قبل ثلاثة أسابيع بالضبط . "
ثم أردف باستغراب قائلا ً :
" كيف لا تعلمون بتفاصيل ما حدث مع ( مجيد ) ؟ ، هل أنتم تعيشون في عالم آخر ؟ ، إن أغلب الناس في المدينة تعرف تفاصيل ذلك .. "
وعصفت بي هذه العبارة الأخيرة من كلامه ، وقلت لنفسي إنهم أشاعوا خبره بين كل الناس بنميمتهم وحماقاتهم ، دقـّت طبولهم ، وجلجلت أجراسهم . وسقط بيدي أنني عجزت عن فعل شيء لنصرة وإعانة هذا الإنسان البائس ، الشريد .. شيء حتى لو كان تافها ً حريا ً بي أن أفعله . في تلك الساعة كرهت حتى نفسي ..
لم أطق الجلوس بينهم في المقهى ، غادرت المكان إلى بيتي مباشرة َ ، وأنا أغالب بضعة دمعات ٍ كانت وحدها فقط مَن ناصَرَ ( مجيد ) نصرة ً صادقة .
في صباح اليوم التالي ، أقنع ( مالك ) زوجته بالتوجه إلى بيت ( هدية ) ، فيما بدا أن صبره نفد ، وبات ليلته تلك يفترسه شعور ٌ بالتخاذل . وقفت زوجته متردّدة ً ، ثم سألت :
" بأي عذر ٍ أدخل على ( هدية ) ؟ ."
" قولي لها إن ( مالك ) يحتاج ( مجيد ) في عمل ٍ صغير ٍ من أعمال البناء ، وآتي به إذا كان موجودا ً . أما إذا لم تجديه هناك فاعمدي عن الاستفسار عنه بشكل ٍ مفصّل .. "

في بيت ( هدية ) اصطدمت زوجة ( مالك ) بمنظر المرأة الباكي ، بدت عينيها ذابلتان ، على وشك الانطفاء ، ولأول مرّة تجدها جالسة لا تخيط شيئا ً .
اشتكت المرأة من مرض عينيها وأخبرت زوجة ( مالك ) قائلة ً :
" قصدت طبيب العيون وقال لي إن الماء الأسود بدأ يغزو عيني ، ولا ينفع معه شيء سوى العملية الجراحية العاجلة .. "
لاحت لها ( هدية ) في حالة ٍ رثّة تثير الشفقة . أرادت أن تقول لها شيئا ً يواسيها ، لكنها صمتت . لاذت في ذلك البؤس برهة ثم شرعت تخبرها بأن ( مالك ) أرسلها يطلب ( مجيد ) للعمل في ترميم جزء من الدار . في الحال هلـّت دموع ( هدية ) التي زادت من احمرار جفنيها ، وردّت تقول :
" وأين هو ( مجيد ) ؟.. لقد رحل .. غادرنا ولم يعد .. "
" كيف رحل ، وإلى أين ؟ . "
" لا نعلم إلى أين مضى به زمانه . نهض من نومه ذات صباح ، وحزم أمتعته ، ثم جاء ليخبرني بأنه راحل . لقد أرعبني والله . لطمت وجهي وبكيت ، وأنا أسأله إلى أين يمكن أن يذهب لوحده . كان عازما ً على الرحيل ، لم يثنه ِ توسلي ونواحي . استحلفته بالله أن يبوح لي بالأسباب التي تدفعه لمغادرتنا ، لكنه لم يبح بشيء . أعطاني بعضا ً من نقوده ، ووعدني بأنه سوف يعيننا كلما توفر له المال .. "
" إلى أين رحل ، ألم يذكر إلى أي مكان كان ينوي التوجه ؟ . "
" لم يقل .. إنه نفسه لا يعلم إلى أين يذهب . كل ما ذكره أن أرض الله فسيحة ، ويمكنه أن يذهب أينما يشاء .. "
كان الألم والحسرة يغشيان بيت ( هدية ) ، يتصاعدان من الركن الذي سكن فيه ( مجيد ) ، كدخان يعلو من موقد ٍ خفي . يتصاعد عابرا ً الجدار الرقيق ، الفاصل بين المسكنين ، مخترقا ً صدر ( هدية ) الواهن ، مهيجا ً أحزانها ، وقد شرعت بالنواح مثل أم ٍ فقدت أبنها الوحيد .
إن ذلك الدخان يتصاعد أحيانا ً حتى يبلغ كوة ( يحيى ) ، فيخترقها حادّا ً ، خانقا ً ، يعمي الأبصار ، ويجعل الفتى يجفل مبتعدا ً ، معدوم الحيلة ، طائش الأفكار ..

إن الموجة العنيفة ، التي تلطم الشاطئ تنقش أثرها فوقه بوضوح . ولكن ما أن تبرز موجة ٌ أخرى وتدك الشاطئ حتى تمحو أثر تلك الموجة محوا ً كاملا ً ، مخلفة ً بصمتها الجديدة فقط . وهكذا حال الأحداث إذا توالت بين الناس ، حادث يمحو ذكر الآخر . شاع خبر ( مجيد ) وتناقلته الألسن بعض الوقت ، ليغدو شغلها الشاغل . ثم أخذ يتبدد ذكره ويطويه النسيان . لم يتطلب الأمر سوى بضعة أسابيع أخرى ليكون ذلك الإنسان قد مُحي من ذاكرة المدينة إلى الأبد . بل ربما لا أكذب إذا قلت أن ( يحيى ) ردم تلك الكوة التي لم تعد لها فائدة تُرجى فوق السطوح . وفي النهاية لم يعبأ أحد ٌ لاختفائه ، كان أشبه بغبار ٍ كنسته الريح من شوارع المدينة .
إن خمسة ً من السنين ليست قليلة الأيام ، وكل يوم ، في هذه المدينة ، حافل بعشرات الأخبار عن النساء والرجال ، وفي خضم جملة الأخبار دُفِنَ ( مجيد ) في أعمق الأعماق . وحتى بالنسبة لنا ، أنا و( مالك ) ، صار اسم ( مجيد ) يتردد على لسانينا بصورة شحيحة ، وبالكاد نعود نتذكره .. بدا لي الأمر وكأن ( مجيد ) مات .




تجوّلت عصر أحد الأيام في أسواق مدينة ( الناصرية ) . وقد راق لي ، إثناء تجوالي في واحد ٍ من المحال التجارية ، معاينة أطقم قنفات منجـّدة بأقمشة تركية فاخرة .. أقمشة جميلة وافرة المخمل . وفي النهاية ابتعت أحدها .
بحثت عن عربة حمل تقلني إلى مدينتي ، التي تبعد إلى الشمال قليلا ً من ( الناصرية ) ، لم أعثر سوى على عربة حمل عتيقة الطراز ، تقدمت صوبنا وهي تملأ الشارع بصريرها . وفي الحال وافق سائقها على نقل الطقم ، وتوجهنا صوب مدينتي .
كانت العربة تسير الهوينى فوق الطرقات ، وما أن ارتقت جسر الهولندي حتى أخذت تدب فوقه دبيبا ً مقعقعا ..
أتاح لي زحف هذه العربة البطيء ، فرصة التحديق المتملي إلى الجهة اليسرى من الجسر، بعد أن شارفنا على قطعه تماما ً . وكان ذلك الرجل الغريب هناك كعادته . كان في الغروب لوحده . نزلت أنظاري عليه من فوق الجسر بلا تردد . أفعمني في الحال فيض ٌ منهمر من أحاسيس الوحدة والغربة ، وغمرتني وحشة ذلك المكان ، من حيث لا أدري ، ليتكدر مزاجي ، ويصيبني الغم إصابة ً مباشرة ..
حاولت أن أمعن النظر إليه بارتواء ، غير أن جلوس السائق إلى يساري أعاق محاولتي . نصبت جذعي قليلا ً ، ورفعت بصري فوق مستوى رأسه ، ورحت أتطلّع إليه بحرية ٍ أكبر ، أخذت أرصده بأعظم قدر من الاهتمام المقصود . أنظر إليه من فوق كأنني في حلم . وقد أثرت حفيظة السائق نفسه فالتفت نحوي وسألني قائلا َ :
" ما الذي تنظر إليه ؟ . "
وأشرت بسبابتي إلى ذلك الرجل المتوحد ، وقلت له :
" أرجوك تمهل في السير ، ودعني أنظر إليه بترو ٍ أكثر ."
لكن السائق سأل باندفاع :
" هل تعرف هذا الرجل ؟ . "
" كلا ، لا أعرف أي شيء عنه ، غير أنه يثير فضولي وشجوني كلما عبرت الجسر . كلما أراه هنا لوحده يصطاد في النهر أحس على الفور بأنه قد اصطادني ! .. "
كانت عربة الحمل قد أبطأت سيرها حتى أوشكت على التوقف . أخرج السائق ذراعه اليسرى من النافذة ولوّح بها عاليا ً ، وهو يصيح بصوت ٍ ممطوط ٍ للغاية :
" هااااا....."
كانت صرخته دافئة ، أليفة ، وحنونة ، وحميمة ، ومغرقة بالغموض أيضا ، وهي تنطلق من سويداء القلب كطائر ٍ يرفرف في هواء الغروب بنشوة ٍ .
رد الرجل القابع عند النهر ملوحا ً بيده كذلك ، وأحسبني رأيت ابتسامة ً مشرقة تخفق على وجهه .
" إذن أنت تعرف هذا الرجل ؟ . "
سألته بتلهف ٍ ، بينما كان كل كياني ينضح بحروف هذا السؤال المتعطش ، ولساني يلوب بها .
" بصدق ، هل تعرف هذا الرجل ؟ . "
علت وجه السائق ابتسامة دفينة ، واهية جدا ً ، لا معنى لها على الإطلاق . وإن كان فيها ثمة معنى فإنها تنم عن الدهشة العابرة كما أعتقد .
نظر في وجهي ، وكانت نظرته تشبه نظرة رجل ٍمريض ٍ ، وقال :
" هذا الرجل الذي يثير فضولك كل مرّة هو امرأة .. "
في الحال سَلَبتُ الابتسامة الواهنة منه ومسحت بها وجهي ، وجلست كالأبكم ، لا أسمع ولا أنطق شيئا ، بينما تسرب الذهول إلى جسد العربة ، وراحت تترنح بين يدي سائقها مضطربة ً.
كنا قد ابتعدنا قليلا ً ، وأمسى الجسر خلف ظهورنا . وعدت لأسأله :
" هل أنت تقصد هذا الرجل حقا ً ؟ . "
" نعم .. نعم ، إنه جاري وكلانا نسكن معا ً .. "
" وأين سكنكم الحالي ؟ . "
" إلى الأمام قليلا ً من هذا المكان ، لا يبعد أكثر من رمية عصا ، سأريك بضعة بيوت ريفية تقع على يمين الطريق ، هي بيوتنا .. "
وعلى الفور ، ومن دون تأخير ، وكأن تلك الخمس سنوات التي مرّت ، ليست سوى خمس دقائق لا أكثر ، عادت بي الذكرى إلى ( مجيد ) ، وكيف كنت أصغي إليه بعمق وهو يجيب ساخطا ً على من يسأله من أي مكان كان قد قدم !.. شوّش السائق أذهاني ، وأصابني ما يشبه الصداع المفاجئ . أخذ الظلام الواهي للمساء يعتم في أنظاري . لم تواتيني المقدرة على التفكير بصفاء ، ولم يكن باستطاعتي قول شيء ، سوى الاندفاع لسؤاله ٍ : " هل يمكن أن يكون اسمه ( مجيد ) ؟ .. "
وفي غمرة الذهول ، انعقد لسان العربة ، طقطقت مفاصلها بصوت ٍ مخيف ، ثم ترنـّحت على الطريق كمن يفقد رشده ، وتوقفت جانبا ًعن المسير. استرد السائق ابتسامته من وجهي ، وبدت ملامحه المتعبة أكثر غموضا ً ، وكانت عيناه زائغتين ، وتغضن جفنيه من تحتهما أكثر ، كأن هموما ً مفاجئة أثقلتهما .
" إذن أنت تعرفه أيضا ً ، أليس كذلك ؟. "
سألني ذلك ، وهو يعيد تشغيل عربته ، وينطلق بها مجدّدا . و يظهر كأنه لم يصدق ما التقطته أذناه !..
قطعت العربة بضعة أميال ، عندما أبطأ السائق سيرها ، ليشير إلى ثلاثة بيوت صغيرة ، متناثرة في العراء ، ومتنافرة عن بعضها البعض ، لا تبعد عن الطريق . وقال لي :
" أنظر ذلك هو بيتي ، ويظهر خلفه جزء من كوخ ( مجيد ) . " من فوق الطريق ، من هذه المسافة ، يظهر للعيون جزءا ً من ذلك الكوخ الصغير ، المعتم المنظر ، كأنه امرأة مستلقية تحت عباءتها السوداء ..

حتى هذه اللحظة لم أكن أدرك كيف قادتني إليها الصدف ثانية ً . تخيلتها تجلس وحيدة ً في هذا المكان النائي ،هاربة ً من جحيم العالم الخسيس . لم يباغتني كيف تسنى لها قطع تلك المسافة ، بل أن الذي باغتني هو كيف طرحت بها المطارح في مجاهل هذا المكان القصي ، الذي يكاد يخلو من البشر ؟..
كانت البيوت مكشوفة ً ، بلا أسيجة ، وأبوابها تطل على الخلاء مباشرة ً . كنت أتخيلها مسترخية ، عيناها تسبحان في زرقة السماء ، التي تنبسط أمام عينيها كالبحر الصامت . وهي تستكين إلى جوار أناس ٍ ريفيين ، أصبحوا لها سلوانا ً .


باستثنائنا ، أنا و ( مالك ) فإن جميع من عرفوا ( مجيد ) أو عملوا برفقته كانوا ينظرون إليه ويعاملونه كرجل ، ولكن بالنسبة لهذا السائق كيف تأتى له أن يتحدث عنه ، بثقة ٍ حازمة ، على أنه أنثى ؟! .. فجأة ً ثارت الشكوك في غمار حيرتي . كنت أهيم على وجهي في متاهات ٍ قاحلة ، لا ترافقني فيها سوى الريح التي تزف عبر نافذة العربة . وتألمت بصمت ، كما يتألم من لا يقوى على حفظ أمانته .وكانت العربة تبتعد بي عن ذلك المكان ، ولم أعد فرحا ً بطقم القنفات .. بعد برهة ٍ من الصمت مضيت أسأله عن أحوال ( إمْجَيْدَة ) باهتمام جلي ، غير أنني سرعان ما وجدت الرجل يتردّد ويقتضب في إجاباته ، ثمة رنّة احتراس سيطرت على صوته ، مذ أعلنت عن معرفتي بها . بدا لي متلكئا ً ، وكأنه لا يريد أن يفضي بأسراره . توقفت عن سؤاله ، لذت بالصمت . كان صمتي مزعجا ً ، ويبعث صريرا ً في داخلي . وما لبث السائق أن باغتني بسؤاله :
" يبدو أنك تعرفها منذ عهد قديم ؟ " .. "ليس قديما ً بهذا المعنى " .. وفجأة ً غرز شيئا ً في صدري حين قال :
" هل كنت على علاقة معها ؟ " .. لم أفهم التعبير الذي تخطّى عينيه ونزل على وجنتيه مثل دمع ٍ ذليل حينما سألني هذا السؤال المتسرع . أصابني بعض السهوم ولم أردّ عليه . " هل كنت على علاقة معها ؟ " ، ما الذي يقصد بذلك ؟ وهممت أتخيل كيف يمكن للمرء أن يجيب على مثل هذا السؤال المبهم . كان السؤال مواربا ً ، ويتعين علي أما أن أفتحه ، أو أغلقه على الأقل . ولما وجمت في مقعدي لم أحرك ساكنا ً وجدتني شبه غاف ٍ ، وكانت رقبتي تتمايل بلين ٍ وخفة ٍ مع تمايل العربة ، بينما راحت كلمة ( علاقة ) ، هي الأخرى ، تتمايل في رأسي يسارا ً ويمينا ، وقد لاحت لي كلمة مفرطة الحسية ، مثيرة ً وغامضة . حالما نطقها في أجواء المساء تسربلت الظلمة الواهية بالإثارة والغموض .. بعد أن قطعت العربة شوطا ً من الطريق ، خطفت عربة ٌ صغيرة ٌ قادمة من الاتجاه المعاكس ، في سرعة البرق الوامض من قربنا ، بشكل ٍ أفزع السائق ، وأيقظ حواسه أجمع ، وجعلته يفتح عينيه على وسعهما ويغمغم .. عدت أطالع ملامح وجهه . لم أعثر فيها على ما يمكن وصفه بملامح المهابة والتنزيه ، أو ما شابه ذلك . كانت الملامح الفطرية الريفية قد اضمحلت في وجهه المتعب .. الوجه الذي يشبه ورقة قاتمة ، مجعّدة . عيناه جميلتان وفيهما شبق . راح ينشغل في قيادته وقد سحب شفته العليا وشاربه الأسود إلى داخل فمه قليلا ً ، وأخذ يقرظ بأسنانه أطراف شعيرات الشارب بلا وعي منه ، وبصورة ٍ توحي بأن الرجل غرق تماما ً في أعماق همومه الذاتية . لكنه ما لبث بعد دقائق أن رفع كفه ومسّد شاربه ، وهو يلتفت نحوي ويسألني ، كمن يترقب جوابا ً :
" لم تحدثني عن علاقتك معها .. "
" وهل أخبرتك أن ثمة علاقة تربطني مع هذه الإنسانة ؟ .. " لزم الصمت ، وقد شاب نظرته بعض الشرود . ثم مضى الرجل يتحدث ، تشعّب في مثل تلك الأحاديث العابرة ، التي يقطع بها سوّاق العربات الطرق عادة ً . وكان الطريق يتقدم بين أكناف الأراضي الملحية . ومن آن ٍ لآخر َ كنت أومئ برأسي متظاهرا ً بأنني أتابع ما يتحدث حوله . بينما نزلت نظراتي إلى أسفل وجهه ، وحدّقت مليا ً في ذقنه المسطح ، العريض ، والحليق لتوه ، الذي يوحي بالخلاعة والمجون . ولم يكن ظهره المنحني ، الممتلئ ، مُطَمئِنا ً ، فقد كان الانحناء أكثر مما ينبغي ، وكان لمنظر هذا الانحناء ، وهو يخيم تماما ً على مقود العربة ، ويستحوذ عليه كليا ً، ما يثير الأحاسيس من مكامنها دفعة ً واحدة .. أحاسيس شك ٍ وتهمة ٍ .. حدّقت في وجهه من جديد ، مركـّزا ً بانفعال ٍ ، ولاح لي كأن هذا الوجه يجثم تحت قناع ٍ سميك من اللامبالاة . وها هي الوساوس تدور في رأسي متعثرة ً، مثلما كانت تدور كلمة ( علاقة ) . وتساءلت قائلا ً لنفسي أيمكن أن تكون لهذا الرجل علاقة حميمة مع ( إمْجَيْدَة ) ، أيمكن أن يحدث مثل هذا ؟ ، ولكن أي شيء هو هذا ؟ .. مشى بي الخيال الفاسد في المساء ، وبدت أفكاري مُثلـّمة ، غير مستوية ، ولم أكن واضحا ً في تفكيري . كنت ملتبسا ً ، أوقعني حدسي في هوة ٍ سحيقة ، لا تُدرك ، تحت ركام ٍ من الخيالات والقلق . وأمست ظنوني الآثمة تصور لي بأن الرجل قد استأثر بكنز الجمال البديع ، الذي ألقت به أمواج الدهر عند باب منزله .
هل كان سؤاله ينطوي على فجاجة وقحة ، أطلقها بتعمد ؟ ، أم أن التعبير خانه ؟ .. جراء سؤاله ومنظره هذا بدأت أشعر بالتوتر يجتاحني . وأحسست بجو ٍ أغبر ٍ من القلق ، ولم أعد أسمع شيئا ً . اكفهر الطريق أمامي ، واكفهرت أفكاري أيضا ً ، فقد عدّت أفكر بما كنت أخشى التفكير به من قبل . ولكنني سرعان ما قطعت دابر شكوكي وأوهامي ، وأقنعت نفسي بأنني لا يحق لي المضي بحمل ٍ من الأفكار على هذا النحو السيء . وأحسست بثقل حركة العربة ، وبطئها المثير ، فتعجّلت السائق أن يغذ السير ، وأحببت أن أمسي بعيدا ً ، ونائيا ً عن ذلك المكان ..


وعدت أتخيل منظر ( مجيد ) وقد وَكَنَ على ضفة النهر تحت الشعاع الذهبي المحمر للغروب . كان يلوح من فوق الجسر امرأة من ذهب . وخلفها ينزل قرص الشمس قريبا ً من النهر مرسلا ً خيوطه في أعماق المياه الدافقة ، ليصطاد السمك أيضا ً، في بحر ٍ هائل من الصمت البني اللون ، الذي ترقشه هسهسات الماء الجاري ..
في كل يوم تنطلق إلى رحلات الصيد تحت الجسر الهولندي ، وهي تروح عن نفسها ، وتسلو قليلا ً عن قسوة همومها . كانت (إمْجَيْدَة ) تبدو مثل إنسان مهجور . تبسط قطعة قماش أسود بالقرب من الجرف وتضع فوقها بضعة سمكات ٍ صغيرة ٍ كانت قد اصطادتها . الماء الممزوج بضوء الأصيل يرتعش وهو يمر بخيالها العائم على سطح النهر ، فيغسل الخيال ، ويحمل عَرَقـه ، وطيب رائحته ، ويرحل جذلا ً .. إنني مازلت أتخيل تلك الأسماك التي تصيدها ، وأقول ما أوفر حظ من يعلق بسنارتها .
عندما ترفع رأسها ، تلمع الشمس في وجهها مباشرة ً ، وهنا تبدو أشد إشراقا ً وجمالا ً ، مبهرة ً مثل جوهرة ٍ نفيسة ٍ . وددت لو أنني أهرع نحوها وأمزق ثوبها الأزرق المغبر ، وألبسها شغاف قلبي .
بين آن وآخر تدس كفها في جيب سترتها لتخرج بعض الحبوب التي تستخدمها طعوما ً لجذب الأسماك . كانت تبلـّلها بالماء ، ثم تدوفها بالتراب لأجل أن تغطس في النهر ، وتصل إلى أفواه السمك .
كلما تحرّكت نسمة ، تحرّك سطح الماء ، وتلاعبت الأنوار في النهر ، كأن المساء يعزف لحنا ً من الأضواء المتراقصة . كان ضوء نجمة المساء الأولى يغني لها بنبرة ٍ مرتعشة ٍ ، وتأخذ تلك الارتعاشات تسيل على سطح الماء فترقصه. وتلوح ( إمْجَيْدَة ) مسترخية ً ، ومستغرقة َفي خيالاتها ، تجول في رأسها خواطر ٌ يصعب التكهن بها .. عند المساء يكون الماء باردا ً ولذيذا . ما أن تختفي الشمس تحت التراب حتى يتموج النهر برقـّة ودلال . وفي جنح الظلام الشفيف ، ومثلما اعتادت أن تستحم إثر كل يوم عمل ٍ ، تخلع عنها ثيابها ، وترميها على جرف النهر . عندما تتعرى يمسي كل شيء عاريا ً ، في تلك الساعة ويلوح الوجود بأكمله قد تَجَرّد عن ثيابه . وما تلبث أن تنزل إلى النهر وهي تتوارى في الماء ، على مهل ٍ ولهفة ٍ ، لتستحم في موسيقى النهر المسائية العذبة ، مانحة ً جسدها العجيب ، في ثقة ٍ واطمئنان ، ودون أن يخامرها الشك والخوف ، إلى الماء الحي الجاري .. الماء الخنثى .. الماء الذي لا ذكر ٌ هو ولا أنثى ! ..



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشطرة / 2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث