الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات نقدية حول التنميط الثقافي

أحمد أمرير

2015 / 12 / 8
حقوق الانسان


كلما قابلت صديقي ناداني بلقبي الفايسبوكي: أبو نضال كيف حالك؟ وأردفه بالسؤال عن أم نضال ومتى يحين اللقاء والزواج ...؟ هو يعرف أنه مجرد لقب افتراضي خلافا لبعض أصدقائي الفايسبوكيين .. قبل سنة كان يحلو لي أن أوقع منشوراتي باسمي الحقيقي كاملا حينا وبلقبي الافتراضي حينا آخر ، كما كنت أتلاعب بالمزج بينهما دون أن يكون لذلك سبب على هذه الشاكلة : أحمد أمرير / أحمد أبونضال / أبو نضال / أ.أ./ أ. أبونضال ... الخ .. وحين أتأمل الأسباب التي تدفعني إلى اختيار هذا اللقب الافتراضي أجدني لا أملك تبريرا حقيقيا وأكتفي بمسوغات عفوية . لا يمكن أن يكون وراء كل التصرفات والأفعال التي نُقدِم عليها ما يكفي من الأسباب المعقولة .. أحيانا ما نقوم بشيء ما لمجرد أن نملأ فراغا وجوديا ما ... وهي فراغات وجودية كثيرة مبثوثة في طريقنا وتأملاتنا لا بد من ملئها لنستشعر بعضا من المعنى : معنى الوجود الذي يلُفّنا ومعنى لذواتنا . إنها أشبه بحُفر وخنادق نصادفها في الطريق ولا نملك سوى أن نتجاوزها بالقفز أو نبحث عن جسر خشبي ما ينتقل بنا نحو الجهة المقابلة ، أو نسلك طريقا آخر للوصول إلى مبتغانا ... وما لم نفعل ذلك سنظل ننتظر المجهول، فيتوقف بنا الوجود ويَجمُد المعنى ونضيع في متاهات الطنين : طنين السكون السحيق والقاتل ...

لكن السؤال بثقله الثقافي والأنطولوجي مُجدّدا يُطرح على مسامعي من جهات عدة : متى نرى نضال ؟ أين أم نضال ؟ إحالة منهم على ضرورة التمأسس ضمن مؤسسة الزواج عاجلا ... فتطاردني الأفواه والجباه والمقامات والكسور أينما حللت، فألوم نفسي على هذه اللعنة التي أججتها على نفسي . ترى هل كانت مثل هذه الأسئلة ستُطرح لو اكتفيت باسمي الحقيقي ...!؟ من الوهلة الأولى يمكن لي أن أجزم بغير ذلك . لا يمكن لك أن ترى طفلا صغيرا يسوق سيارة ويقرأ كتابا لأفلاطون أو يرتدي بنطلونا في مقاس أبيه .. كما لا يمكن أن ترى رجلا راشدا ينتعل حذاء ابنه الصغير وفي فمه رضاعة وسط المقهى ... الناس يحبون أن يعيشوا تبعا لمنطق أعمارهم ولكل مرحلة مقاسات وأذواق معيارية أجمعوا عليها .. ولا يكفي للمرء أن يقتصر على العيش وفق تلك المعايير بل يدفعه دافع ما ليفرض مقاساته على الآخرين المحيطين به تارة بالرعاية والتوجيه وتارة بالتأنيب وتارة بالسخرية والاستغراب والنميمة ... وتارة بالرفض . إنه بذلك يستشعر منازعته في رشده وصلاحه وكماله متى وجد إنسانا آخر يعيش خلافا لعاداته التي يشتركها مع جنسه ومرحلته العمرية ومع معتقده وبلدته ولغته ووطنه ...

فما العيب في تلك الرعاية والتوجيه والتأنيب وحتى الرفض الذي يواجهك به الناس متى خالفتهم في اللباس والاعتقاد والسياسة ومختلف أوجه الحياة الخاصة والعامة ؟! يبدو لي أحيانا أن ذلك يمثل وسيلة احترازية وحمائية مانعة من الشتات والفوضى والضياع ... إنها الأذرع الخفية والمكانس السرية التي تحفظ كثبان الرمال والأتربة من أن تذروها الرياح وتمتد خارج المساحات المسيجة فيضطر الناس إلى كنس أطرافها وسقيها من حين لآخر لتثبت في مكانها، وأحيانا ما يتم تشجيرها لتتوزع الجذور في الأعماق وتمنع التربة من الانجراف ... وحين يقوم الناس بالخروج من دائرة الاهتمام الشخصي إلى دائرة خصوصيات الآخرين لرعايتها وتربيتها وإسنادها وردعها أو رفضها فهم لا يقومون سوى بنفس الوظيفة .. وظيفة تثبيت المجتمع والأفراد على المشترك والمتواضع عليه في اللغة والدين ونمط العيش وغير ذلك .. وقد يمتد هذا الأمر إلى الأذواق وإلى حجم اللقمة وطريقة الأكل وشكل اللباس، ويتسع إلى مستوى الدفع بالعزاب والعازبات للزواج ورفض من لم يتمأسس ضمن مؤسسة الأسرة والسخرية من المرأة غير المتزوجة ووسمها بالبايرة والتي فاتها القطار ولمز وغمز الرجل غير المتزوج ...
ذلك ما يطلق عليه بالثقافة أو منظومة العيش المشترك ومختلف أنماط العادات والتقاليد والمعتقدات ... وحين نعود بأذهاننا إلى مرحلة العيش القبلي ضمن مجموعات بدائية تبدو الصورة واضحة للعيان وتكبر عدسة الكشف عن حرص الجماعة القبلية ليحافظ كل الأفراد عن المشترك الثقافي وتتأسس لديها أنظمة عقابية لتدبير الاختلالات الداخلية والخارجية حفاظا على بقاء الجماعة ومنطق القبيلة ...
يسمح لنا هذا التدشين الجينيالوجي لمنطق التنميط الثقافي كي نطرح سؤالا أخر عن نجاعة هذه السياسة الحمائية لثقافة الجماعة والأفراد في أفق الزمن المعاصر .. نتحدث عن مرحلة يتدفق فيها الإبداع وتتداخل فيها الثقافات وتتماوج فيها الأذواق والمذاهب والأفكار والسياسات في خضم سيل من تكنولوجيا التواصل وبحار الإنتاجات والإبداعات والصناعات المختلفة ... يبدو لي أن من يحاول الإمساك بثبات الثقافة الواحدة في حيز اجتماعي معين كمن يريد أن يرتب أوراق جريدة وسط ريح عاتية ... لكن هذا التشبيه يبدو مبالغا فيه إلى حد ما ... ذلك أن هذه الريح العاتية تستدعي منا أن نتحصن في أبنية منيعة حتى لا تكشف عوراتنا جميعا فنسقط في ذات التنميط الذي نسعى الانفلات منه .. ولعل ما يسمى بالعولمة اليوم هو أحد أشكال التنميط الرأسمالي الأحادي الصارم الذي يسعى إلى محاصرة الكون ضمن قرية صغيرة تستنزفها الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات السياسية والمالية الدولية وتملي على ساكنتها ما يجب وما لا يجب عليها .. هكذا نسقط في منطق القبيلة مجددا غير أنها اليوم تحولت من مستوى الميكرو القبلي البدائي إلى الماكرو العولمي الرأسمالي ...

هل لنا أن نتصور الآن لعبة الأرجوحة ومتعة من يمتطيها ويتمايل بها ..؟ إنها اللعبة التي أفضل امتطاءها بين الثقافات والأذواق .. قد لا نمتطيها جميعا وقد يختار البعض نقطة من النقاط الفاصلة بين أطرافها القصوى، ولا ضير من ذلك. وقد يمتطيها البعض لمسافة قصيرة خشية الإحساس بالدُّوار أو الغثيان وقد يستعذبها البعض الآخر لأنها لعبته المفضلة في طفولته ... ولن نخشى من أي انفلات أو تشتت أو ضياع .. يكفي أن تكون الأٍرجوحة ثابتة في الأرض وأن حبالها متينة وكرسيها مثبت بدقة، ولندع لعبة الثقافة تتأرجح ونستمتع بها جميعا ... هناك من سيقتصر على نقطة الثبات على الأرض ويكتفي بالمشاهدة لكن لا يجوز له أن يوقف الأرجوحة ... إن حركتها وتأرجحها أشبه بالناعورة التي تدفع الماء من المنبع نحو الحقل ومثل تدفق المجاري والوديان والأنهار فيترقرق الماء ويعذب ويصفو خلافا للمستنقعات الآسنة ...
مبدأ "الأرجوحة" إذن ينسف أسس الثقافة الراكدة والثابتة والمنمطة ويجعلها تقوم على الجريان والحركة والتنوع والتجدد والإبداع ويقلب منطق القبيلة سواء في مستواها البدائي أو العولمي الرأسمالي ويؤسس منطقا جديدا يستند إلى مبدأ التنوع والتجدد الثقافي و يروم الحفاظ على الإنسان ضمن نطاق سيادة وطنية تتعدد فيها الثقافات والأذواق والأفكار والسياسيات والمعتقدات لتخدم حقوق الإنسان وتنميته ورفاهيته وتعايشه وتدفق إبداعاته وإنتاجاته ... إنه منطق فيضي متجدد كما تتجدد خلايا الإنسان كل يوم وكما تتجدد المياه في مجرى النهر في كل ثانية ويتجدد الكون بمختلف موجوداته في كل لحظة .. ولِيظلَّ الثبات حول أصل الانسان ... هذا المنطق لا يلغي المشترك ولكنه يعيد ترتيب أولوياته ووظائفه ... المشترك الأول هو الإنسان هو المقدس الأسمى الذي يجب تكريمه وتحصينه ... ثم يتم تجنيد المواضعات البشرية الأخرى بحسب أدائها خدمة الحفاظ على حرية الانسان وتقدمه ... لا يمكن إذن أن نلغي مشترك اللغة لأنه أول نسق تواصلي يضمن حق الانسان في التواصل والكلام والتعبير والابداع وأي استهانة بلغته وإلغاء لها في أنظمة التعليم والتدريس يشكل نسفا لآلية من آليات إدراكه للعالم من حوله، لذا وجب الاعتناء بها وتطويرها لترتقي إلى مستوى يدرك من خلالها واقعه ومختلف العلوم والافكار والإبداعات ... ثم تظل مشتركات الدين والسياسة والفكر والابداع ونمط العيش مشتركات أرجوحية تتماوج فيها الأذواق فتختلط حينا وتتمايز حينا آخر في ظل اللعبة السياسية التشاركية ومبادئ الاختيار الحر والاستمتاع وتقبل المخالف طالما أنها لا تهدم مشترك الإنسان وحرياته وكرامته أو مشترك السيادة الوطنية التي تحفظ الانتماء الجماعي ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عادل شديد: الهجوم على رفح قد يغلق ملف الأسرى والرهائن إلى ما


.. عشرات المحتجين على حرب غزة يتظاهرون أمام -ماكدونالدز- بجنوب




.. موجز أخبار الواحدة ظهرًا - الأونروا: يجب إنهاء الحرب التي تش


.. الأمم المتحدة تنهي أو تعلق التحقيقات بشأن ضلوع موظفي -الأونر




.. أخبار الصباح | حماس تتسلم الرد الإسرائيلي بشأن صفقة الأسرى..