الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتماء

عبد الرحمن جاسم

2005 / 11 / 4
الادب والفن


"تكلم، تكلم لأسند رأسي على حجر، تكلم تكلم لأسكن وطناً من كلام"...
كانت أبيات الشاعر محمود درويش هذه هي التلخيص الحقيقي لقصتنا كما هي ودون أي رتوش. فأمين الفلسطيني أكثر من اللازم، الشديد العشق لوطنه، كان أكثرنا انتماءاً. كان منتمياً لكل شجرة، لأي حجر، كان كل شيءٍ فيه يذكركك بفلسطين، ويذكرها به. ويا ليتك تزور غرفته، ويا ليتك ترى الحائط هناك، أو الزاوية. غصنُ زيتونٍ هنا، "هذا من نابلس"، كان يقول بفخر، أحضره شاب أتى من هناك، وصورٌ شتى، والأقصى متناثرٌ في كل مكان، إنه محاصرٌ بفلسطين.
"أنا لا أنتمي إليها فحسب، إنها كل شيءٍ بالنسبة لي"، كان هذا أكثر من مجرد جملةٍ عادية يقولها أمين، فأمين كان يعي تماماً تكلفة هذا الأمر، ومن ينسى كم من مرة تشاجر أمين مع أيٍ كان أو أيٍ كانوا، لأجل فلسطين، فما كان أحدٌ يجرؤ على الإساءة إليها، أو على الأقل الحديث عنها باحترام أقل، إنها باختصار أمرٌ مقدس لا يمكن المساس به، والحذار إن فعلت.
وحالما تخرَّج أمين، تهيأت له الظروف فسافر إلى هولندا، وكان في غاية السعادة، والذي يعرف أمين فهم لماذا كانت سعادته بهذه الذورة، "سأرى فلسطين أخيراً"، أمسكني يومها من كتفي، وقال بقلبٍ يطير فرحاً: "سأراها أخيراً، ستلمس هذه الكف، تلك الأرض، سأرى البيارات، وغابات الزيتون، سأرى الشجر، والأرض والسماء، ساصافح الورود، وأصلي في الأقصى، وأركع في الكنائس، آه، كم هي جميلةٌ فلسطين". لم أعلِّق على كلامه يومها، وتمنيت له الخير، ولم أدرِ ما يخبئه له الزمن.
وتوالت الأيام سريعاً، إلى أن جائني يوم بريد إلكتروني من أمين، بريد يقول ببساطة، "حصلت على الجنسية الهولندية، وسأزور فلسطين غداً، سأحقق حلمي أخيراً" كانت رسالةً مختصرةً للغاية، لكنها توضح اللهفة والشوق، إنها كل ما يتمنى. وانتظرتُ، انتظرت بغاية الشوق رجوع أمين من هناك، انتظرت رسالةً منه تحكي عن الأمر، ومر شهرٌ وشهران، وثلاثة، ولا شي بعدُ من أمين، استشعرت شيئاً غريباً، وانتظرت، إلى أن مل الانتظار مني، فبدأت مرحلة البحث عن أمين.
أرسلت له عدداً من الرسائل الإلكترونية، لكن لا مجيب، الكثير من الرسائل العادية تلك الأخرى أيضاً لم تصل، وأخيراً استهديت إلى رقم أحد أصدقائه في هولندا، وسألته عنه فقال بأنه موجود في الجامعة، ولكنه لا يراه كثيراً، اطمئن قلبي قليلاً، ولكن الفضول امتلكني أكثر لأعرف ماذا حصل هناك، ولكن لا فائدة.
ومضى شهر على الحادثة، ولا شيء يذكر، سوى اننى أرسلت الكثير من الرسائل، ولم يصلني أي رد. إلى أن كان يوم كنت أجلس فيه في صالون بيتنا أقرأ بهدوء، وإذ بالباب يقرع، فأفتح لأرى أميناً يقف على الباب، وبلا "حطته" المعتادة التي تزين كتفيه بشكلٍ دائم، ضممته، فكان بارداً بشكلٍ لا يصدق، وحينما جلس كان حزيناً أيضاً، كما لو فقد عزيزاً.
بكى أمين، بكى أمين يومها كثيراً، "ليست هي فلسطين التي أعرفها، إنها أرضٌ عادية، أرضٌ من حجر وتراب وهواء عادي، فيها حشرات، فيها زحمة سير، فيها شمس حارقة، فيها أشياء كما غيرها من البلاد، يستحيل أن تكون هذه فلسطين، لا أصدق أنها هي نفسها الأرض التي عشقت، لا أصدق، أنا أحببت فلسطين التي لطالما حلمت بها، ولكن التي زرتها، لا تشبهها، لا تشبهها أبداً، هذه بلد مثل لبنان، مثل سوريا، مثل العراق، بلدٌ عادي، لا شيء فيها أكثر سوى أنها محتلة، فيها إسرائيليين". ثم التفت إلي خاتماً بشراسة: "أتعرف، أنا لا أحبها".
حاولت أن أقول له، بأنها بالتاكيد بلدٌ مثل، غيره، لكنه لم يسمعني، بل صرخ بي: "لا ليست بلداً كغيرها، ليست هكذا، لم يقل أحدٌ بأنها هكذا، لقد قرأنا الشعر معاً، وحلمنا بها، أنا وأنت، وكنا نتابعها شعراً، وصوراً، يا أخي هناك أناس في فلسطين لا يعرفون شيئاً عن الانتفاضة، هناك أناس لا يعرفون شيئاً، كيف؟ كيف لم يقل أحدهم شيئاً عن هذا، كيف؟".
لم أعرف بماذا أجبه، لم أعرف ماذا أقول له، أهو ذنبه فعلاً لأنه عاش في ظل القصائد والروايات، وأغاني فيروز عن فلسطين الخيال، أم لأن قدرة عقله على الاستيعاب لم تصدق بأن الأرض هذه هي نفسها الخيال المتصور، وبأنَّ الشعراء والكتّاب يزيدون الأمور إلى حدٍ ما.
أمين من يومها، لم يعد كما كان، ولكن من فترة، شاهدته من بعيد... كان يرتدي حطة(الحطة هي التسمية الفلسطينية للكوفية)...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب