الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوريا .. ميليس ... الأبهق* تحت شمس الظهيرة

ياسر اسكيف

2005 / 11 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


.* - البهاق : مرض وراثي ينتج عن خلل في المورثة التي تعطي لون الشعر. ومن خصائص الأبهق أنه لا يستطيع فتح عينيه جيّدا ً في النور القوي . ومن النوادر أن أخويين أبهقين كانا يسيران في الشارع , أحدهما في الظل فوق الرصيف والآخر وسط الشارع تحت الشمس . قام بعض الصبية بالاعتداء على الأبهق السائر وسط الشارع , فراح يدافع عن نفسه بكيل ضربات عشوائية ذات اليمين وذات الشمال دون أن يصيب أحدا ً من المعتدين , فيما أخاه الواقف في الظل , يشاهد كيف تنهال الضربات على أخيه , يصرخ وينادي : اسحبهم إلى الظلّ يا أخي . اسحبهم إلى الظلّ .


كثرة الأخطاء واحدة من مزايا الذي يدرك أنّه غير مقبول . وخاصّة حينما يسعى إلى استدرار القبول واستجدائه . لا أعلم كيف تصنّف هذه الحالة في علم النفس , ولكنني أعاين تظاهراتها يوميا ً على المستوى الفردي لدى الأشخاص , وعلى المستوى الجمعي لدى الحكومات والسلطات , وتحديدا ً في الوطن السعيد سوريا .
والموقف السوري ضد احتلال العراق وما تلاه من تداعيات أودت بالوطن إلى تهلكة ِ أن يكون ملفّا ً على مكتب القاضي الألماني ( ديتليف ميليس ) يمثّل حالة نموذجيّة للدراسة فيما يخصّ ما أسميه (عقدة المرفوض ) .
لم يكن الموقف السوري الرافض لاحتلال العراق مستنداً إلى أو نابعا ً من حسّ قومي يبقي على الترابط بين الأيديولوجي والسياسي . إنما كانت مغامرة هدفت إلى استجداء الموقف الشعبي , ذو الحسّ الديني وليس القومي . ( لو كانت المسيحية دين الغالبية العراقية لكان الموقف السوري مختلف تماما ً ولتمت التضحية بالأخوة التي لا تعزّز الموقع السلطوي ) . وهنا أجد أن الصواب قد كان بعيدا ً عن الآراء التي رأت في الموقف السوري تجسّدا ًلمصالح أشخاص في الحكم كانوا مستفيدين من حالة ما قبل الاحتلال , لأن أولئك الأشخاص , ومهما بلغت درجة غبائهم , كانوا يعرفون بأن الأمريكيين سينتصرون عسكريا ً في أيّة حرب يخوضونها . وبالتالي , ما دام الكلام عن المصلحة الشخصية , فموالاة الأمريكيين كانت الأجدى .
والموقف السوري هذا , المناقض لموقف سوري سابق , مع إدخال عنصر الإجماع الدولي وما يقدّمه من مبررات تدعم ذلك الموقف , يشكّل منعطفا ً في حسابات السلطة السورية بالنسبة لداخلها السوري , حيث تتم التضحية بسلامة العلاقات الخارجية وبالتالي بالدعم الخارجي , لأول مرّة منذ تولي الراحل حافظ أسد زمام السلطة , لصالح العلاقة مع الداخل , وهذه لا تعكس غباء ً في الموقف السياسي كما ذهب الكثيرون , بقدر ما هي بيان للفرق بين قوّة السلطتين السابقة واللاحقة . فالسلطة الحالية تعي جيّدا ً بأنها على كف عفريت , وأنها بحاجة ماسّة إلى الدعم الداخلي , لأن الدعم الخارجي عصا تلوح مهدّدة على الدوام .
غير أن الرياح جرت بم لا تشتهي سفن النظام السوري , فلا هو استطاع الاستحواذ على ولاء الداخل , وبالنسبة للخارج بات نظاما ً مرفوضا ً ومطلوب محاسبته ومعاقبته . وفي محاولته للتوازن بين خسارتين فتح على نفسه طريقا ً إلى خسارة جديدة تمثّلت في فرض التجديد للرئيس اللبناني أميل لحود , في محاولة منه للبقاء لاعبا ً رئيسيا انطلاقا ً من الملعب اللبناني , الأمر الذي أفقده الكثير من عناصر دعمه على الساحة اللبنانية . كما أفقده بالمحصّلة دعما ً خارجيا ً ( فرنسا ) .
وأمام تتالي الخسارات بات الطيش وعدم التوازن واضحا ً على الممارسة السياسية للنظام الذي ارتدّ إلى مواقع دفاعية كان قد خرج منها بخطوات محسوسة وملموسة تمثّلت فيما دعي ب ( ربيع دمشق ) .

وفي ظلّ هذا التخبّط جاءت ( القشّة التي قصمت ظهر البعير) والتي تمثّلت باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق ( رفيق الحريري ) وتمّ الخروج غير المشرّف للقوات السورية من لبنان .

وبديلا ً عن العودة للالتحام بالداخل تعويضا ً عن خسارة خارجية , وإعادة ضخ الحياة فيما أنبت ربيع دمشق , مارست السلطة إجراءات انتقامية تذكّر بانتقال الصفعة من السيّد إلى الأب إلى الأم فالأولاد , وكأنما هذا الداخل المسكين هو السبب في الخسارات والمزيد من العزلة . وقد بلغت تلك الخسارات ذروتها في إغلاق ( منتدى الأتاسي ) بعد أن تمّ توقيف القائمين عليه . والسبب المعلن لهذا الإجراء هو تلاوة بيان للإخوان المسلمين في إحدى أنشطة المنتدى المذكور .


وجاء تقرير المحقّق الألماني ( ديتليف ميليس ) ليشير بإحدى أصابع الاتهام إلى بعض المسؤولين السوريين , أمنيين وغيرهم .
فكيف كان ردود السلطات السورية على هذا التقرير . !
لقد جاء بعضها استباقيا ً , وقد تمثّل أولا ً بما قاله الرئيس بشار الأسد في مقابلته مع محطّة ( سي . إن. إن) الأمريكية بأنه لن يتوانى عن معاقبة أي سوري يثبت تورطه في جريمة اغتيال الحريري وسوف يعتبر خائنا ً . وتمثّل ثانيا ً برحيل وزير الداخلية غازي كنعان عن الحياة الدنيا . وبرأيي هما الردّان العمليان والواقعيان حتى الآن بغض النظر عن أية أحكام قيمة .
وما جاء بعد نشر التقرير من ردود سورية لم يكن مفاجئا ً لأحد وتمثّل , كما درجت العادة , بدفع التهمة بالتهمة . والذي قيل قبل التقرير هو ما قيل بعده . ولم يستطع أحد التفريق بين ميليس وأي معارض سوري .
واستمرّ النظام يمارس الارتجال في كلّ ما يصدر عنه من ردود أفعال وكأنه يعيش خارج الكون فيمنع مثلا ً صحيفة ( السفير اللبنانية ) من الدخول إلى سوريا , كما يمنع دخول صحيفة ( الحياة اللندنية ) حسب ما يرى الرقيب . وكأنما قارىء هاتين الصحيفتين ليس هو ذاته من يدخل يوميا ً على شبكة الإنترنيت ! أو يتنقّل بين الفضائيات التي لا تستر عورة . وفي الوقت ذاته يناقش مجلس الشعب السوري مشروع قانون للأحزاب ! وهنا لابدّ من التساؤل : أي قانون أحزاب ستقرّه سلطة تخيفها جريدة كانت حتى وقت قريب جريدة صديقة ؟

والآن , بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم1636الذي يضع النظام السوري ومعه الشعب السوري بأكمله أمام خيارين واضحين , التعاون التام مع لجنة التحقيق الدولية , أو المقاطعة الاقتصادية , هل سينقذ النظام شعب سوريا , والأصح هل يستطيع الرئيس ذلك , ويكون أمينا ً ووفيا ً لما قاله يوما ً . أي هل يمكنه فعلا ً أن يفدي الوطن بمجموعة من الأشخاص في حال ثبوت تورطهم . ؟ أم أن الأمر يتعدى مجموعة أشخاص ويطال نظام بأكمله , وهنا طامّة الوطن الكبرى ؟
أسئلة ليست الإجابة عليها بالسهولة التي استساغها البعض وملأوا الصفحات في تدوينها . أسئلة لن تجيب عليها غير السلطة السورية . وأرجو , كسوري , أن تكون هذه الإجابة بمعيار الوطن السوري ولا شيء غيره . فمظلة الوطن هي الوحيدة التي تجعل الأبهق الواقف تحتها يرى جيدا ً ..... جيّدا ً .

جبلة - 3 -11- 2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا قال النائب الفرنسي الذي رفع العلم الفلسطيني في الجمعية


.. لا التحذيرات ولا القرارات ولا الاحتجاجات قادرة على وقف الهجو




.. تحديات وأمواج عاتية وأضرار.. شاهد ما حل بالرصيف العائم في غز


.. لجنة التاريخ والذاكرة الجزائرية الفرنسية تعقد اجتماعها الخام




.. إياد الفرا: الاعتبارات السياسية حاضرة في اجتياح رفح