الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراسة نقدية لقصة ( توهُّم ) / بقلم الناقد أحمد طنطاوي

عبدالكريم الساعدي

2015 / 12 / 13
الادب والفن


التوهُّم
قصة قصيرة / القاص عبدالكريم الساعدي
الناقد / أحمد طنطاوي
النص
_____

توهُّم

ذات خريف وفي أقصى المكان، كنت عالقاً بفوضى طاولة منسية، أحوك تفاصيل مهملة؛ لأرتدي عبث اللحظة، أزيح غبار الوجع، أحلّق راقصاً على نغم حزين، يورق حلم دافئ في دمي، ألملم أشلائي المبعثرة في متون الريح، يتعثّر قلبي بسواد عينيك، أغافل عبثي، أحثّ الخطى إليكِ، لا أدري لماذا أذكركِ الآن، بعد أن ضيّعتني المحن، أكرع آخر كأس ولم أنسَ، أتطاير شغفاً مع أنين الجلّاس وخيوط الدخان في حانة منسية. يحاصرني الشوق؛ فأمدّ جسراً إليك، أراك تبتسمين كما الأمس، بينما أنا أنفرط في حزن مستديم، بيني وبينك خيط من عتمة، منْ يوصلني إليك؟.
- الشيب لن ينسخ آيات العشق.
- لكن غيابكَ طال، ولم تترك أثراً لظلّك.
أتثاءب ندماً، امتلئ بالهواجس، يرتجف صوتي:
- أريد أن أراك.
أشدّ أكمام ذاكرتي، أرقب سيري؛ فتومئ لي الطرقات، أواصل خطواتي، جنوني، توقظني ابتسامتك، كنتِ زخة مطر، حفنة من حنين. في لقائنا الأول تدثّرنا بظلّ نخلة بعيداً عن عيون القرية، بنينا حلماً على ضفة نهر يموج بالهمس، كنت تنشرين أحلامك في سمائي، وأنا أمازحك ببراءة طفل. أمدّ بصري، أراك عبر مرايا الحانة تحدّقين في شيبي، ما زلت أنت، مشرقة الوجه، شفتاك مبلّلتان بماء الورد، تسطعان بذات الابتسامة التي أسّرت قلبي، يسوّرني عطرك، لا أدري لماذا تغضّين الطرف كلّما نظرت إليك، أتفحص ملامحك، نعم أنت، حاملة حطام سنين مضت، تتشاغل عيناك بالنظر إلى وجوه المارة، تختلسين النظر إليّ، عيناك فيهما عتب شديد، تساؤل يطلي شفتيك بلون الوجع:
- لِمَ تركتني؟
أطأطئ رأسي خجلاً، ألملم أوصال الخيبة، أتوارى خلف أعذار واهية، أطلق حسرة شوق في مكان طاعن بالضجيج، عطب يصيبني، خيط من دخان يتصاعد من رأسي، دقات قلبي تتسارع، أنفاسي تتقطّع، يتشكّل حاجز من ضباب كثيف أمام عينيّ، أفزّ أمام كوني الآيل للسقوط، يرمقني الحضور بنظرات بلهاء، أتوه في موجة دهشة، أنفض تراب النعاس، أنتصب، أخاف ضياع الوقت، سنخوض غمار مشاعرنا الجميلة ثانية، أرسم بسمة جديدة على شفتيك، ولن يحدث وداع آخر، ألتفت، ما زالت واقفة، أنظر في عينيها، تبتسم، تحف بي رغبة للعناق، تلوّح لي بيدها، تمضي، أترك مكاني، أتعثّر بظلّي، أضع يدي على أكرة الباب، تنزلق إلى أسفل، أهم بملاحقتها، يعترضني النادل:
- الحساب.
أنقده، أخرج مسرعاً، أشقّ صفوف المارة، أتبع رائحتها، حفيف ثوبها، أقترب منها، أجذبها بقوة، تلتفت، يتقلّص وجهي خجلاً، تصفعني، كنتُ محتاجاً للبكاء.
لم تكوني أنتِ، كانت امرأة أخرى.

الدراسة النقدية
__________
(1)
درة أخرى من درر أفانين الكتابة التي قال عنها الناقد الأستاذ منصف الوهايبي: ( قليلة هي النصوص التي تباهي بها اللغة نفسها ). كما عند النقيري في ( المواقف والمخاطبات )، وبشر فارس في ( جبهة الغيب)، هي اللغة العاشقة التي لا تتولى فقط تمثل الأشياء من حولها في العالم، وإنّما هي لغة تضطلع بتمثل ذاتها، وهي ترمّز أشياء العالم وتُعلّم عليها. لغة لا تحيلُ، وإنّما تحتفي بنفسها إبان القول أو الكتابة، وتفاخر نفسها بنفسها، وهي " تفجير قوالب اللغة وما سمي بتفجير اللغة " فيما يسمى بـ( الحساسية الجديدة ) بتعبير " أدوار الخراط " .. هي كتابة غير نوعية تتخطى التجنيس – الشعري / النثري، وتعتمد المزج والاقتران والمزاملة أو الكولاج، وتستلهم تكوينات الصيغ الموسيقية والتكوينات التشكيلية البصرية استيعاباً واستلهاماً، أو استيحاءً.
(2)
فلننظر لهذت الكولاج حيث يقترن الشعر بالنثر في مزيج مبهر:
ذات خريف وفي أقصى المكان، كنت عالقاً بفوضى طاولة منسية، أحوك تفاصيل مهملة؛ لأرتدي عبث اللحظة، يورق حلم دافئ في دمي، ألملم أشلائي المبعثرة في متون الريح، بتعثّر قلبي بسواد عينيك، أغافل عبثي، أحثّ الخطى إليك. أنفرط في يحزن مستديم، بيني وبينك خيط من عتمة، من يوصلي إليك؟
- الشيب لن ينسخ آيات العشق.
- لكن غيابك طال، ولم تترك أثراً لظلك.
____________________

على سبيل المثال يمكننا تمثّله شعراً في نفس اللحظة التي يمكننا النظر إليه باعتباره نوعاً جديداً من نثر يتخطّى الأنماط والقولبة، نمط يكرّس للجماليات ويدمج الفنون في بوتقة. ها هو مثلاً شكل آخر لمن يريد:

ذات خريف
وفي أقصى المكان
كنت عالقاً بفوضى طاولة منسية
أحوك تفاصيل مهملة؛ لأرتدي عبث اللحظة

يورق حلم دافئ في دمي
ألملم أشلائي المبعثرة في متون الريح
يتعثّر قلبي بسواد عينيك
أغافل عبثي، أحثّ الخطى إليكِ

أنفرط في حزن مستديم
بيني وبينك خيط من عتمة، منْ يوصلني إليك؟
- الشيب لن ينسخ آيات العشق.
- لكن غيابكَ طال، ولم تترك أثراً لظلّك.

الانموذج في الكتابة القصصية الشعرية الآسرة، أيّة معادلة حققها هذا النص التحفة للكاتب المتفرد؟!


(3)
الشكل والمضون
_____________

لاختيار القالب دهشة تماثل عزف النص المكتوب، الرداء الأمثل للنص الزاهي، الفكرة تتشكّل، فكيف يصوغها الكاتب؟ وأي الأشكال يختار القصة أم الشعر أم القالب المسرحي... أم تكون الخاطرة؟. الاختيار في حدّ ذاته نقطة بالغة التوقد الابداعي.. هنا على سبيل المثال، بل وفي أغلب ما قرأت لهذا الكاتب بالغ الإدهاش- يختار هذا الأسلوب- الذي جمع غرابة الالتقاء بين النثري والشعري في تضفير يوائم ما يُعبّر عنه لضرورة الانطباق بين العنصرين. لابدّ أن تتوشّح تلك النصوص بوشاح الشعر المبطّن داخل دائرة النثر، لأنّ الموضوعات التي يختارها الكاتب تفرض تماماً هذا الشكل الهجيني المدهش. كيف يمكن التعبير عن هذه اللحظات الغائرة والمتجذّرة في الجوانح بغير هذه الموسيقى الحروفية، هذه الموضوعات لا بدّ أن تعزف، لا أن تقرأ. لهذا فالكاتب يُنسك قيثاره حين يخطّ حروفه، ولا يمسك قلمه.


(4)
اقتناص اللحظة
___________

براعة كاتب القصة القصيرة تتجاّى في كيفية اختطاف اللحظة المدهشة، وليس كلّ قاص بصيّاد ماهر وبارع، فالفروق عائلة، لأنّها تتصل بالك الروح التي بين جوانحه، وتلك العين اللاقطة، تلك العين الفلسفية التي تجيد تشريح المشاعر الدقيقة التي نعيشها، ولا نجيد تحت العاديين التعبير عنها ورسمها، لكنّه هو بقدراته التي وعبعا الله له يمكنه مالجراح والرسام معاً... التشريح والتكوين في اللحظة ذاتها، اللحظة المسرفة في بؤريتها وذاتيتها. يتذكّر بعد وقت طويل في حانة متوارية ذكرى حبّ قديم، ومن فرط الاندماج يخالها تمرّ أمام الحانة فيخرج للقائها، لكنّه يصطدم بحقيقة ما مرّ من زمن وأنّ المُتخيّلة ليست هي، بل امرأة أخرى. الفكرة في الظاهر بالغة الصغر، وصعب جداً أن يعبّر عنها بهذا الإدهاش، غير رجل مدهش كهذا الكاتب، لقد رسم من هذه اللوحة- اللحظة الصغيرة – عالماً من حزن وشفقة ووجع، فأجاد الرسم والتكوين والتشكيل، وهذا هو مغزى الفن والأدب، إحداث ( الأثر الكلي)، الذي يدعو للتوقف والتأمل و التفكّر.

الناقد / أحمد طنطاوي
مصر
13-12-2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع