الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث في قطار آخن -20-

علي دريوسي

2015 / 12 / 15
الادب والفن


مَدّ أحمد يده اليمنى إلى الخزانة، أخرج منها بِذْلَة ضابط البحرية، ارتداها على مهل، البنطلون أولاَ ثم القميص، لبس جراباً من الحرير ثم وضع حذاء الجلد الأبيض في قدميه، أحاط رقبته بربطة العنق السوداء الأنيقة، عقدها عند حلقه في ثوان معدودات، زرّر القميص الأبيض طويل الأكمام، ارتدى الجاكِتّة، وضع القُبَّعَة على رأسه، نظر في المرآة إلى صورة الضابط الأبيض وضحك عالياً، أدار قرص الهاتف الوهمي وطلب رقماً خاصاً، رفع قدمه اليمنى وخَبَطَ أرْضَ الغرفة، قدم التحية لنفسه وللقائد الوهم، قال: "تمام يا سيدي، سفينتي جاهزة للرحلة الغريبة"، "نعم يا سيدي، لا تقلق! سأكون اليوم لهن ضابط السفينة والرجل النبيل، سأمتعهن على ظهر السفينة، ستكونان مسرورتان حتى التعب اللذيد".

كم نحن الضباط مَسَاكِين، نعتقد أننا نُولَد من أجلِ الحياة، من أجلِ بناء الأرض التي نعيش عليها وحماية حدود الوطن... لكن بعض الساسة الأقزام ورجال الحرب والإرهاب والزُعْران يوهموننا أنّنا نُولد من ضرورات سياسية لإداء أغراضٍ استهلاكية لصناعاتهم الحربية.

سجائر البولمول، أعواد الثقاب ورائحة النساء في كل مكان، فتحَ أحمد الباب المطّل على بلكون صغير، دخل هواء بارداً إلى رئتيه، ما زالت تمطر في الخارج، أشعل سيجارته، شّمّ دخانها، استنشقه بعمق عائداً بذاكرته للوراء... غالباً ما يرتبط إحساس الشّمّ الفعلي بقوة مع العواطف والذكريات والدوافع الهرمونية.

***** ***** *****
"كان يشبه في منظره وملبسه ذئباً قذراً اِلْتَهَمَ لتوه عدة دجاجات عندما دخل في عام 1996 إلى حقل تدريب السياقة العسكرية، في تمام الساعة الحادية عشر والنصف ليلاً من يوم جمعة صيفي، كان يعوي كذئب جريح، ينحني ويصرخ بصوت خائف: يا الله، يا الله... يا الله سامحني يا الله! ثم يركع بركبتيه على الأرض الترابية، يضرب رأسه بها، يَتَمَرَّغ في التُّرابِ، يلطم وجهه وينبح من جديد يا ويلي يا ويلي...

نهض الضابط المناوب من خلف مكتبه على أصوات طاقم الحرس، يزعقون معاً: ثَمّة عسكري مجنون في الحقل يا سيدي!
يأمر الضابط حراسه بإحضار المجنون.
بعد شبه مقاومة تمكن الحُرَّاس من إحضاره محمولاً إلى مكتب الضابط.
يقف الجندي ببذلته الملوثة بالتراب، بسترته المفتوحة عن صدره ورقبته المكسوة بشعر أسودٍ غريب، بشاربه العريض الذي يغطي شفتين غليظتين،
بعينين ذئبيتين همجيتين، بقامة قصيرة، نصفها الأعلى أطول من نصفها الأسفل، بحذاء عسكري ضاع رباطه!
وقف الجندي بذراعيه الطويلتين، بأصابع غليظة، في يده اليسرى يلمع خاتم زواج فضي!
وقف الذئب على قدميه المرتجفتين يبكي يومه، يندب حظه العاثر هذه الجمعة، يأمره الضابط بتقديم نفسه، يعوي: يا الله، يا الله... يا الله سامحني يا الله! سامحني أنت أيضاً يا سيدي الضابط، ينحني يريد تقبيل حذاء الضابط !
يرفعه الحرس المرافق عالياً، ينوح من جديد: اضربني، عاقبني كي ارتاح، اقتلني يا سيدي لقد ارتكبت إثماً فظيعاً!
حين تكهن الضابط الذي نال حظاً وافراً من الثقافة بمشكلة الجندي بحدها الأدنى وشعر بعمق عذاباته... حين تنبّأ الضابط بخلفية الهستيريا التي يعاني منها الذئب الهمجي، أمر حراسه بإجلاسه على كرسي خشبي وتثبيت يديه وقدميه وإعطائه جرعة ماء.
كان جسد العسكري يرتجف مثل دجاجة ذبحت لتوِّها بسكين صدئة.
حاول الضابط مراراً تهدئته ودفعه للكلام دون جدوى... عندها صفعه صفعة قوية يبدو أنها أعادته لرشده، قال الضابط برزاتته الشبابية: هدِّئْ من رَوْعِك! ثم وعده بتفهم مشكلته ومساعدته على إيجاد حل لها.
بدأ الذئب بالكلام:
أنا يا سيدي متزوج من طفلةٍ لم يتجاوز عمرها الحادية عشرة، زوجتي حبلى يا سيدي، أبي عامل بناء مقيم في بلد صغير في الجوار من بلدنا يا سيدي، أما أمي فهي ربة منزل تجاوزت الثلاثين بقليل، أختي التي تكبرني بعام متزوجة، تدير مع زوجها فندقاً رخيصاً في العاصمة يا سيدي، أختايّ اللتان تصغراني وأخوايّ اللذان لم يتجاوز عمرهما الثامنة يعيشون مع أمي في شقة صغيرة وبسيطة يا سيدي، نحن من إحدى مدن الزيتون في الشمال يا سيدي...
تابع يا عسكري، أمره الضابط الشاب-
سيحرقني الله في ناره، أنا أعرف ذلك، وأنت يا سيدي عليك أن تنزل بي أشد أنواع العقاب فأنا استحق العقاب... وصمتَ!
صفعه الضابط من جديد وصرخ في وجهه أنا لا أملك الليل بطوله لأسمعك، حدثني عن مشكلتك يا عسكري!
يعوي العسكري من جديد يا الله، يا الله... يا الله سامحني يا الله! أنا أعرف بأنك لن تفهم معاناتي يا سيدي... ويصمت!
يصفعه الضابط، ينبح الجندي سأخبرك بقصتي من البداية:
لقد اعتدت النوم مع أمي منذ بضع سنين، منذ أن رحل والدي للعمل في في البلد المجاور، سار كل شيء على ما يرام، بين الحين والآخر كنت أنام في سرير أختي أيضاً، وسار كل شيء على ما يرام، زوجتني أمي مع ابنة خالتي، وبقيت أمارس ما اعتدت عليه، كذلك الأمر، سار كل شيء على ما يرام يا سيدي، حتى جاء يوم البارحة... وصمتَ!
فقد الضابط صبره، ناوله صفعةً أخرى وصرخ: يا حرس خذوه للسجن!
تأتأ الجندي: سأكمل يا سيدي...
أعطاه الضابط الأذن بالكلام للمرة الأخيرة.
تابع الجندي استرساله:
يا سيدي لقد ارتكبت صباح اليوم الباكر الخطأ الأكبر في حياتي، لقد نمت في سرير أختي، الأخت الوحيدة التي تذهب إلى المدرسة في عائلتنا، كانت عذراء يا سيدي، لقد بكت يا سيدي! هددتني أن تفضح أمري لوالدنا، لقد أَخْبَرتْهُ يا سيدي، ومنذ الصباح يبحث أبي عني حاملاً سلاحه بيده... لقد أقسم على قتلي برصاص مسدسه...
نبح العسكري من جديد: يا الله، يا الله... يا الله سامحني يا الله!
أهداه الضابط صفعة نهاية القصة، سقط العسكري هذه المرة على الأرض مغشياً عليه!
أمر الضابط حرسه بجر بقايا الذئب القذر إلى السجن الانفرادي، أدار قرص الهاتف وطلب رقماً خاصاً..."

***** ***** *****
رمى أحمد عَقِب السِّيجارة على أرض البلكون الرطبة بانفعال، انطفأ من تلقاء ذاته، أغلق الباب، لعن الشرق والغرب في سره، سوّى ياقة قميصه ومشى بخطوات واثقة متجهاً إلى صالون الاحتفال، ما إنْ فتح باب غرفة الملابس، حتى ىسمع من المطبخ صفير إعجاب وحماس.

زعقت السيدتان، الممرضة والشرطية، بصوتٍ سيكسي: واوووو... برافو، مدهش!
ثم أردفت الشرطية هنيلوري: تبدو ببذلتك البيضاء كتاجر مخدرات أميركي في قمة الوسامة!
قالت الممرضة سابينه: بل يبدو كالأخ التوأم لريتشارد جير، خذ مكانك في الصالون، دقائق وتجهز مائدة الاحتفال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال


.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية




.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري


.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد




.. تفاصيل هتعرفها لأول مرة عن أغنية -أنا على الربابة بغني- مع ا