الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحضور لا الغياب/ قصيدة(الشاعر يتقدم) لصادق الطريحي أنموذجا

وجدان عبدالعزيز

2015 / 12 / 16
الادب والفن


الشاعر صادق الطريحي .. شخصية ثقافية غلبت عليها صفة الشعر والشعرية تحيلنا دوما الى تحولات القصيدة العربية قبل القصيدة العالمية وتتجلى لنا ممارسة الشعرية العربية، لتلك الرياضة الشكلية وتحولاتها،في مقالة للاستاذ الدكتور محمد صابر عبيد، حيث يقول : (رياضة التحولات الشكلية بعد ثبات عميق مع الشكل التقليدي لعمود الشعر، الذي انطلق من من جمالية فطرية تعلن عن جمالية مبدأ التماثل الثنائي بين الشطرين بشكل افقي يحتفظ بمساحة تمثل النفس الواجب بين الشطرين لاجادة الالقاء ولابراز الموسيقى بشكل افضل)1، الا ان ارهاصات العصر وتزاحم اشكالية الحضارة الانسانية في تلاقحها اليومي عبر قوانين عولمة التكنولوجيا، اوجدت موسيقى قريبة من ضفة عوالم الموسيقى الخليلية الى موسيقى لغة وافكار قلقة متزاحمة، ومن بدهية الولادة المحتومة شكلت قصيدة التفعيلة خروجا جزئيا على السلطة الخليلية والاطر المدرسية واصبحت (تمثيلا لحراك ابداعي وانساني جديد ينجز اسئلته .. ويفتح صفحة جديدة تسمح للجسد الناقص والمقهور والمحاصر ان ينتج علاماته في حرب ثقافية هي الاقسى والاكثر ترويعا في التاريخ الشعري البشري)1ـ2، وبالتالي فان قصيدة التفعيلة اعطت حرية افتراضية على ارض الورقة، ومن هنا قدم لنا الطريحي رؤيته من خلال مسارات ما بعد الحداثة وتناص مع الشاعر الكبير الراحل محمد علي الخفاجي بالاهداء اولا وبالعنونة ثانية وبالمتن ثالثة، وكان ذكيا في استيعاب رؤيته الشخصية وتعكزه على "الانفعال العقلي" الذي يعد ضمانة للوجود الجمالي للنص الحديث كما اشار بذلك الناقد عبدالله الغذامي باعتبار ان العقل يسعى لكي يستعير من العاطفة "الانفعال" لترويض العقل وجعله انسانيا وتهذيب العاطفة وجعلها انتظامية (ينظر تشريح النص ص55)، فاختلط الاهداء مع العنونة في مزيج العاطفة المهذبة، فالتناص الذي استثمره الطريحي كان لزاما علينا توضيحه ، فقد ظهر هذا المصطلح اي "التناص" في حقل النقد العربي الحديث بعدة صياغات وترجمات نختصرها في "التناص،التناصية،النصوصية، تداخل النصوص،تعالق النصوص، النص الغائب ،العبرنصية، النصوص المهاجرة..." و إذا بحثنا عن جذور هذا المصطلح وجدناها تعود إلى الشكلانيين الروس مع تشكولفسكي الذي ظهر على يده،ثم إلى باختين الذي كان أول من صاغ نظرية في تعدد القيم النصية المتداخلة إلا أنه لم يستعمل لفظة تناص بل وظف سياقا آخرا يقاربها مثل تداخل السياقات،التداخل السوسيو-لفظي،ويرى أنه لا يوجد تعبير لا تربطه علاقة بتعبير آخر،كما يقر بصعوبة التمييز بين الخطابات المختلفة داخل الخطاب الواحد. فالشاعر الحداثي ينهل من نهر معرفي متدفق متعدد المنابع متلون الروافد يختلط فيه العلمي بالخرافي،التاريخي،الأسطوري،الديني ،الصوفي...تركيبة معرفية غريبة يتشكل منها النص الشعري وتدخل في نسيجه وتضاعف من صعوبة قراءته وتعقد من عملية تلقيه وتزيد من غموض دلالته،وقد يكون السبب في ذلك لا يكمن في هذه الثقافة وتعددها، وإنما في تداخلها وعمقها وتنوعها. وتتم دراسة التناص من خلال قوانينه الثلاثة التي تمثل خصائصه .. يقول الشاعر الطريحي :

(تلفتّ ..
كلّ الأماكن تبتعدُ ..
المنافيَ تبتعدُ ..
سومريون في أرضِ دلمون يفتقدون السلامَ
فيبتعدون
بساتينُ دجلةَ، سفحُ القصيدةِ ، ناء ومبتعدُ ..
الديارُ يلفّ البِلى صوتَها حين تبتعدُ ..
والرضيّ ، صديقي الغريب
يحاورُ أطلالَ سيدةٍ وهْو يبتعدُ ..
أصدقائي الذين يحبون شعرَ الحداثةِ يبتعدون
حبيبُ ، صديقي الذي ينتشي بالتضاد
يغيرُ اسم أبيه ويبتعدُ ..
والخفاجيّ ثانيةً يكتبُ الشّعرَ ..
وهْو يجيءُ مع الرّافضين
وخطوتُه وحدهُ.)

وهنا كرر الشاعر فعل "يبتعد" كدلالة على الغياب، لكن الشرط الجمالي الذي مثله الانفعال العقلي، دلّ بلا ادنى شك على الحضور الذي يعاكس الغياب، بعبارة (والخفاجي ثانية يكتب الشعر ..) فالخفاجي لم يمت تخلده لغة الشعر المتشكلة عبر مسار الانسانية خارج نمطية الشكل ، اي ان الارهاص الانساني الذي يحمله الخفاجي في حياته، ظل مستمرا في مساراته الشعرية واثاره الخالدة التي يؤشرها الشاعر صادق الطريحي، مفترضا الحضور للخفاجي ثانية ..فالراحل محمد علي الخفاجي هو مع الرافضين للغياب الا انه شكل حضورا من خلال التميز "فخطوته وحده".. اذن الشاعر الطريحي اجترح حوارا مع الغائب الحاضر وخلق صراعا ايهما يصلح للبقاء، ودلالة الحضور والبقاء، هي العنونة (الشاعر يتقدم)، التي جاءت توأمة للاهداء، وعززها المتن، وبقي الشاعر الطريحي يتلفت، فـ(كلّ القصائدِ تقتربُغيمةٌ من بلاد السوادِ ستقتربُ/وأنا صاحبُ الغيمةِ المجدبه/فامطري ... وامطري لا خراجك لي،/لا ظلالك لي وأنا لستُ أبتعدُ.)، فمتوالية الغياب والحضور والابتعاد والاقتراب تندمج في رؤية الشاعر بحضور القصيدة وينتهي الابتعاد بقربها .. اذن ناتج انفعال الشاعر الطريحي العقلي، هو الحضور والخلود للشاعر الراحل محمد علي الخفاجي، وعزز الشاعر هذا الخلود من خلال التناص مع كل الاساطير حيث الاقتراب مثل "أنانا"، ولن يكتفي الطريحي عند هذا الحد، بل اثار عدة اسئلة يقول بودلير : ("الشعر تجاوز للواقع العيني، فهو ليس حقيقة كاملة، سوى ضمن عالم مغاير وأخروي"، ويقول هيدجر : ("الوجود سؤال، لكنه ليس من الموجود في شيء")، فـ( إذا كانت وظيفة العقل كما حددتها الفلسفات المتعددة تتمثل إلى حد ما في تخليص الإنسان من التشيؤ، وتحريره من قيود التناهي الحسي، ومن البعد الجزئي للظاهرة، الملموسة، وذلك بوضع الوجود الحسي الملموس موضع التساؤل والشك، ومن ثم يحدث التغيير الذي يمليه تفكير العقل، وهو تغيير في الأغوار الأكثر عتامة وولوج الاستضاءة والإنارة، إذا كان الأمر كذلك حسب هذه الفرضية، فأين تتمثل وظيفة الشعر الجوهرية؟ إن الشعر - وهو يلامس الحكمة كالعقل - يخلص الإنسان بدوره من التشيؤ الملموس، لكنه يتجاوز العقل في تحرير الكائن من التناهي المعقول، ومن سيطرة العقل على الوعي الباطن، وعي إنتاج التخييل الكثيف، ويحد من سلطته في قمع نوازع التحرر الذاتي، محفزا إرادة الإبداع على الخلق الذي ينحرف عن المثال والنموذج والنظام. وهو بذلك يكشف في الظاهرة المعقولة عن جانبها الأكثر إعتاما، داعيا في الآن ذاته إلى وجود لا متناه يحمل سيمياء التعددية التخييلية حيث الأشياء تكشف عن ذاتها بالخروج عن دائرة المألوف المعقول)، (وعجيب ذلك الانسان ، انه مخلوق لاتقف رغباته عند حد وهو لاينفك يسعى الى التسامي ويهفو الى الافضل والاحسن .. فهو لايقنع بادراك الاشياء ومعرفة الموجودات والاحداث المحيطة به ، بل يستشعر في الادراك ذاته لذة ويتذوق المعرفة خالصة عن كل ما يتعلق بها من اهداف عملية ، وهو لايكتفي بتذوق احساساته وانطباعاته عن الاشياء ، بل يضفي عليها من خياله ما يكسبها كمالا وجمالا تستجيب له نفسه بالرضا والسرور، وعندما تمتلأ نفسه بشعور البهجة يصف كل ما يرضى احساسه وخياله بالجمال)، ويظل العمق الفكري والرؤيوي للشاعر صادق الطريحي، يتحمل الدراسات الاعمق من هذه الدراسة العجلى ...


ــ قصيدة (الشاعر يتقدم) للشاعرصادق الطريحي/نشرت القصيدة في كانون الثاني 2014 في جريدة البيان

ــ كتاب (الفضاء التشكيلي لقصيدة النثر) أ.د.محمد صابر عبيد /نقد5 دار الشؤون الثقافية العامة بغداد العراق ط1 2010م ص5و7و8
ــ كتاب (تشريح النص) عبدالله الغذامي / المركز الثقافي العربي الطبعة الثانية 2006م ينظر ص55

ــ كتاب (فلسفة الجمال) د.أميرة حلمي ـ مشروع النشر المشترك ـ دار الشؤون الثقافية العامة بغداد العراق ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة ص26








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان محمد الجراح يرد على منتقديه بسبب اتجاهه للغناء بعد دو


.. بأغنية -بلوك-.. دخول مفرح للفنان محمد الجراح في فقرة صباح ال




.. الفنان محمد الجراح: قمت بالكثير من الأدوار القوية لكنها لم ت


.. نقيب المهن التمثيلية يكشف حقيقة شائعة وفاة الفنان حمدى حافظ




.. باراك أوباما يمسك بيد جو بايدن ويقوده خارج المسرح