الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عناقيد الكرز... وما تيسر من وجع!!

منير ابراهيم تايه

2015 / 12 / 16
الادب والفن


يمكنك الدخول الى المدينة من عدة ابواب.. باب العامود والاسباط والساهرة والمغاربة وباب الحديد .. ومن باب العامود دخلت الى القدس العتيقة.. تتنقل بين الدكاكين القديمة والبيوت الحجرية... يحصل أن يأتي عليك يوم تقرر ان تمشي في مدينتك وحدك دون هاتف ودون ساعة يدك التي تظن دائما أنك ولدت بها، لن تخبر احدا متى ستعود... تقف على أول درجة من درجات السلم وتأخذ نفسا عميقا وتتأكد أن كل شخص في مكانه من بائع الكعك الى بائع الخضار وبائع الحلويات والشاب الذي ينادي على اللوز والفراولة في مكانه، تطمئن أن حجارة البلدة القديمة في مكانها ايضا وأنها لا زالت عربية تشعر بأن هذه الحجارة تحتضنك وهي فعلا تفعل ذلك، تنصت لصوت شاب يخبر صديقه متفاخرا كيف دخل المدينة تهريبا وكيف أن الجنود لم يكتشفوا أنه صلى الظهر بالمسجد الأقصى، حين قاربت على إنهاء طريق الواد وقبل دخول باب المجلس ، مررت من جانب ذلك المحل الذي دائما ما يضع قصيدة "في القدس من في القدس الا انت" بصوت صاحبها الشاعر الشاب تميم البرغوثي وما أن تسمعها ختى تشعر بحاجتك للبكاء، وحين تدرك روعتها يترقرق الدمع في عينيك شوقا، والسوق معتم والسياح ينشدون ترانيمهم بمناسبة عيد الفصح وسكناج قبل دخولهم السوق يدعون ربهم أن يخرجوا سالمين.. ترى الخوف بأعينهم يحاولون الخروج من الطريق بأسرع طريقة ممكنة حتى لو إضطروا أن يصطدموا بك، الجنود في مكانهم على أبواب الأقصى شيئا لم يتغير سوى أني أحترق شوقا لأرى تلك القبة، أكانت تستفزني ؟ ام تختبر صبري ؟
تعمدت ان اسير على مهل، تبدأ القبة الذهبية بالظهور، قبة الصخرة المشرفة بهية الطلة كعادتها... وأنا لا أصدق بعد أنني في القدس... كم كنت غريبا في البعد عنها، وكم أعرف نفسي الآن في حضرتها!
التجول في المكان، تفقد البصمات التي تركتها أيام سذاجتي... الانبهار.. الدهشة.. الحزن.. السعادة.. كلها اجتمعت في عيني على شكل دمعات متتالية، حينها أدركت شوقي الذي يختفي أمام لا مبالاتي برتابة "القدس"! كم تقتلنا المسافة ويغدر بنا هاجس الحنين.. ورغم كل هذا البعد، أحسست بأنني جزء من الصورة. فلا معنى للغربة بين أهل القدس وسكان القدس وشوارع القدس، كم هم طيبون ومنسيون في دكاكينهم وبيوتهم المحاطة بتهديدات الاستيطان!
وعند منعطف بين الازقة يقابلك جبل الزيتون الذي تعلوه كنيستان وعلى منحدر الجبل مقبرة يهودية.. وعلى بعد بضعة امتار، شرفة تطل على "حائط البراق" وتعلو الحائط الصخرة المشرفة حيث صعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم الى السماء على ظهر البراق حين اسري به من مكة المكرمة.. وتواصل طريقك متعرجا صعودا وسط هتافات الباعة ينادون على اكياس الخبز والكعك.. وسرعان ما يغمرك شعور اقرب الى الخشوع لما تحمله هذه الازقة المتعرجة من تاريخ موغل في القدم، تكمل صعود الدرج حيث نسيت طريق العودة، وأستمر في السير وكلما توغلت أكثر في المكان ازداد عدد الأجانب والمستوطنين...، قرأت معلومات تختلف عما درسناه في مواد التاريخ، بأسماء عبرية، السائحون يتكلمون غير الإنجليزية.. بدأت اتحسس فراستي في تمييز وجه عربي، لكن لا أحد، غير تاريخ مزور يعرض على سمع السائحين بلغات متعددة..
عيون تنظر إلي باستغراب! أشك بأنني اضعت الطريق؟؟!!
عدت أدراجي على ذات الاستقامة دون أن أنزل الدرج، شكل المحلات مختلف عما رأيته، تبدو أكثر زجاجية من تلك المنتشرة في شوارع القدس الأخرى التي مشيتها، وتبدو جديدة أيضا، لم يحفر التاريخ في جنباتها لونا عتيقا أو بخورا. ألوانها متشابهة، ومعنونة بالعبرية.. ما زلت أمشي وقلبي ينبض بسرعة خوفا ممن تركتهم خلفي وعلى جانبي، حتى وصلت شارعا معالمه مختلفة، نظرت على يميني، تمعنت بوجه صاحب المحل. لن أفلت من تحديقي به فغامرت السؤال "إنت عربي؟".. ارتاح قلبي ب "اه".. لانك ان اختنقت فلن تجد من ينعشك، حدثته بما رأيت وشعوري بالضياع ، فأكد لي بكلمة "هاي حارة اليهود" ودلنّي على الطريق...
البكاء، رياضة العيون اليومية التي تخفف من عبء القلب، بعضا من البكاء على فقدان هنا وهناك، بعضا منه على قصص تبدو من طولها أن عمرنا سينتهي قبل أن ننهيها، وبكاء على لحظات لا تهم غيرنا، نبكيها بصمت دون أن نخبر أحدا، صوتنا الداخلي يصرخ أن كلمة كانت ستغير مسار حديث كامل، لا بل نظرة، حكاية كاملة كانت ستتخذ مسارا مختلفا، لو أن تلك الكلمة او النظرة تواجدت، ولكنها لم تكن، فماتت البذرة في مهدها.. دون أي محاولة إحياء ممكنة
انزع معطفك وسر على طرف الطريق، على الطرف الخطر منه، لن تجد نفسك إلا في لحظات الخطر، الأمان وهم، الأمان مخدر لكل خلايا جسمك، في مساحة الخطر نتغير، ونتبدل، نمنح لحياتنا معنى آخر، في لحظة الخطر على صعوبتها، نولد نحن، يولد كائنا صغيرا بداخلنا يعيد تعريفنا من جديد، لا يولد بالأمان، يولد بتلك اللحظات الخطرة وقت سيرنا على طرف الطريق الخطر
واو العطف ولعنتها، حين تكون في البداية، إن كان هناك بداية أصلا، كل كلمة معطوفة عما قبلها، كل ضحكة معتمدة عما سبقها، كل تفسير كان حتما يتبع مواقف مررنا بها مسبقا، واو العطف ولعنتها بكل شيء، نحن وكل أفكارنا ومشاعرنا وتفسيراتنا لسنا أكثر من أمور معطوفة عما قبلها،،هذا النص معطوف على نص قبله، وسيعطف عليه نص بعده حتى لو لم يكتب علانية، هذه الحياة بائسة بصغر حجم واو العطف الذي يحرك مجريات الأمور ويعطف ما يريد على ما يريد دون إدراك منا
قد يصارحك أحد بمشاعر الحب، الكره، الحقد، وغيرها، ولكن ستمنعنا الأنا اللعينة حين نرغب بالصراخ بالشعور بالحاجة، الاحتياج إلى شخص ما، شيء ما، الأنا ستوقفنا، هذا الاحتياج حين يظهر ولا يجد حاضنا ستجده متجمدا في دمنا طيلة الوقت، تعيده لنا لحظات اللاسلام في مخيلتنا كما هو، تعيده مرارا وتكرارا حتى نحفظ رائحته، فندرك مجيئه قبل وصوله بخطوات، والاحتياج واسع، وأنا لا أحتاج إلا لصديق أصمت في وجوده فيفهم شكواي من عيوني، لا أتقن الكلام عما أشعر به، هذه إحدى معضلات حياتي، ألتف كثيرا في إيصال شعور ما، فكرة ما لأحدهم، لذلك أنا لا أحتاج سوى لجلسة صامتة يفهمني فيها من أمامي، دون شرح مفصل...
هذه الكتابة هي هروب، هروب معلن من بكاء متراكم مؤجل، لا أريد أن أبكي وأريد أن أمنح روحي وقتها الكافي، لكن في داخلي أدري، أن كل الأشياء لن يكتمل طعمها كما كان، الفقدان مر، هذه الكتابة هي هروب معلن، من بكاء طويل، ليس فقط على من غابوا غيابهم الأبدي، بل على من غير الفقدان المسافات بيننا وبينهم من الأحياء
اليوم هو الخمسون بعد الالف الثالثة، لماذا نبدأ التأريخ بميلاد احدهم بدلا من ميلادنا نحن؟ من قرر ان من حق احدهم فرض كل هذا الرقم علينا؟ رغم وجود من كان قبله من دونه؟ هل يمارس ذلك الرقم ضغطاً ما علينا دون ان نشعر؟ اسئلة كهذه كانت تقلقني في كل مرة ابدأ فيها صفحة جديدة في كشكول المدرسة، او حتي دفتر مدوناتي، كم الاشياء التي يمليها علينا الموتى تقتلنا نحن الاحياء، لكن لا احد يهتم. الموتى يظلون موتى في النهاية والاحياء يعتبرون أنفسهم امواتا، لذا لا فرق كبير يستحق ولو اعادة النظر
تطاردني بقية الأسطر، حسنا سأكتب هنا عن التسامح، وهنا عن الحب، وهنا عن النكت الحمقاء التي اسمعها طوال اليوم ولا اتذكر منها اي شيء على الإطلاق، رغم اني اكثر الناس ضحكا حينها، يا لتعاستي
اطلب فنجان قهوة ثانٍ وأبدأ بالرسم، منذ زمن لم أمارس الرسم لكن تبقى الأساسيات في الرأس، بمجرد ان تستعيدها تنطلق ريشتك رويدا رويدا وفي النهاية يخرج ما تريد
الأسطر الاخيرة تقلقني كل يوم، ربما اكتب فيها شيئا قبل النوم، ادع الله ان تحمل الحياة لنا شيئا ما اخر يستحق الكتابة
دعني أحدثك قليلا، فلتنصت أو لا تنصت، أغلق أذنك بأفكارك الذاتية عن مشاكلك أنت. فقط علق عينيك الزائعتين على فمي وراقب حركته الغاضبة أحيانا واليائسة أحيانا والمبتسمة بسخرية أحيانا أخرى. ارتشف من فنجان يومي رشفة حتى وإن لم تستلذ بها، لم أعد بالمزاج الرائق الذي يسمح لي بتحلية روحك بضحكاتي الصغيرة ومرحي العفوي الذي لطالما أحببته. لقد دسوا الحزن في ثنايا عمري. بالرغم من كل ما لا يحدث، لا أريد أن أعترف أني لم أكن ناضجا بما فيه الكفاية لأدرك الفرق بين الوهم والحقيقة. بين كل ما يمكن أن يحدث وبين ما لا يمكن.
على سفح جبل متخيل من دروس الجغرافيا، كنت اتخيل قمة الجبل حادة جدا بحيث تتسع بيتا واحدا فقط، هكذا كنت ارسمه، وعلى حافة الجبل اقف وأخاف السقوط..
يافا ، حيفا ، عكا ، قيسارية ، الجولان ، رأس الناقورة ، صفد ، الناصرة، طبريا، جنين، طولكرم، بيت لحم ، غزة، إم الرشراش، قلقيلية ، الخليل، بئر السبع، النقب، المجدل، اريحا،جبل الكرمل وجبال الجليل والقدس والخليل، البحر الميت والبحر العايش ودير ياسين ولفتا والقسطل وكل مدن وقرى ومخيمات فلسطين والإنطلاق سيكون من عاصمة قلبي وعاصمة فلسطين... حلم يجب ان يتحقق..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي