الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعد القرار 1636: النظام السوري أمام خيارات صعبة

صبحي حديدي

2005 / 11 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


مثلما جاءت خطبة وزير الخارجية السوري فاروق الشرع أمام مجلس الأمن الدولي باهتة جوفاء قُدّت من خشب ديماغوجي عتيق مهتريء، فإنّ قرارات الرئاسة السورية الأخيرة سارت على المنوال ذاته، مع فارق أنها بدت متأخرة زائفة لا ترقى حتى إلى مستوى التجميل الكاذب. هنالك، مثلاً، قرار ذو ذو صلة مباشرة بتقرير المحقق الدولي ديتليف ميليس والقرار الدولي 1636، نصّ على تشكيل لجنة قضائية سورية ـ سورية(!) للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري؛ وقرار آخر ذو صلة غير مباشرة، تضمّن العفو عن 190 سجيناً سياسياً، والتلويح بإجراءات أخرى تهدف إلى "تعزيز اللحمة الوطنية"، و"تمتين الجبهة الداخلية" و"ترسيخ الحوار الوطني"، على "قاعدة أن الوطن يتسع للجميع" كما قالت وكالة الأنباء السورية الرسمية، "سانا".
ففي عجائب القرار الأوّل، للمرء أن يبدأ من السؤال السوريالي التالي، غير الغريب عن طبائع النظام السوري: مَن سيمثل أمام مَن؟ اللواء آصف شوكت، صهر الرئاسة ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية والرجل الذي بات الأقوى في سورية بعد غياب وزير الداخلية اللواء غازي كنعان؟ أم القاضية غادة مراد، مدّعي عام الجمهورية ورئيسة لجنة التحقيق السورية ـ السورية، غير البعثية، وغير المنتمية إلى أيّ تنظيم سياسي كما بشّرنا الإعلام السوري؟ وتخيّلوا حضرة القاضي مراد وهي تسأل سيادة اللواء شوكت: هل أنت ضالع في اغتيال الحريري، سيّدي اللواء؟ منذ الآن اختصرت النكتة الشعبية، الرائجة اليوم في دمشق، خلاصة عمل اللجنة: بعد كرّ وفرّ وتحقيقات واستجوابات، توصّلت اللجنة القضائية السورية ـ السورية إلى أنّ السيد رفيق الحريري... قضى منتحراً، بإطلاق رصاصة في فمه، من مسدّسه الشخصي!
وفي عجائب القرار الثاني أنه لا يجتزيء كرامة السجين السياسي السوري إلى تكتيك المناورة المحضة مع الإدارة الأمريكية فحسب، بل يفعل هذه الشائنة على دفعات وبالتقسيط: لا نطلق سراح جميع السجناء السياسيين (كما يليق بقيادة سياسية تزمع الإنفتاح على شعبها درءاً لمخاطر جسيمة تتهدد الوطن)، بل نفرج عن 190 منهم فقط، ونؤجّل الباقي لجولات قادمة؛ كما أننا لا نصدر عفواً عاماً شاملاً عن السجناء والملاحقين والمنفيين لأسباب سياسية، بل نطلق وعوداً من بوّابة وكالة الأنباء السورية حول "إجراءات" أخرى تذكّرنا بأنّ الوطن للجميع! قليل متأخر، وهو ليس البتة خير من لاشيء كما قد يقول قائل من رهط الذين كانوا (إذْ باتوا اليوم عملة نادرة، على الأرجح) متفائلين بنوايا النظام الإصلاحية.
والحال أنّ الأمور اليوم، بعد القرار 1636 بصفة خاصة، لا تُبقي الكثير من الهوامش المشتركة التي تقرّب بين نطاقين: الأخطار الجسيمة التي تتهدّد النظام الحاكم في مختلف بنيات الإستبداد والتكتّل العائلي، والأخطار الجسيمة التي تتهدّد سورية البلد والشعب في مختلف بنيات تماسكه الوطني والإجتماعي والإثني. وليس من الصواب، كما أنه ليس من الإنصاف والحكمة والأخلاق، أن يضع البعض الأخطار على النظام في سلّة واحدة مع الأخطار على الوطن، إلا في الحالة الوحيدة الماثلة أمام الأعين: أن يكون النظام ذاته هو صانع الأخطار على الوطن، بغية درء الأخطار عن ذاته!
سيناريوهات الكارثة الوطنية التي يمكن أن تتهدّد سورية لا تبدأ من احتمال إعادة إنتاج تدخّل عسكري أمريكي مباشر من أيّ نوع، كما يوحي أهل النظام من قبيل ذرّ الرماد في العيون، ليس لأنّ واشنطن حفظت أياً من دروس المستنقع العراقي الذي تغرق فيه اليوم، بل ببساطة لأنّ النظام لن يعاند واشنطن إلى حدّ يستدعي إحالة الملفّ إلى البنتاغون أو استخدام الهراوة العسكرية. الكارثة الوطنية يمكن أن تبدأ من مضيّ أهل النظام أكثر فأكثر في ذلك السلوك الإنتحاري الأهوج الذي أوصلهم، وأوصل سورية، إلى هذا الدرك الخطير من لعبة الأمم، ولجوئهم إلى إشعال حريق طائفي هنا (بين سنّة وعلويين، أو سنّة ومسيحيين، أو علويين وإسماعيليين...)، أو حريق إثني هناك (بين دروز وحوارنة، أو بدو وأكراد، أو ريف ومدينة...)، لكي يرسلوا إلى واشنطن الرسالة التالية: هذه نيران تهدّد بالإنتقال سريعاً إليكم حيث أنتم في العراق، وربما أيضاً إلى صفوف حلفائكم هنا وهناك في لبنان والأردن والكويت والسعودية؛ ونحن الإطفائي الوحيد القادر على إخماد النيران، ومعنا وحدنا ينبغي أن يجري التفاوض والتفاهم والتعاقد!
وسيناريوهات كهذه ليست أبداً بلا مقدّمات، إذْ سبق للبلد أن شهد غارات تخريب ونهب من بعض عشائر البدو على أملاك الأكراد في مدينة القامشلي، وصدامات مسلحة بين الدروز والبدو في محافظة السويداء، ومثلها بين بعض الإسماعيليين وبعض العلويين في مدينة مصياف، وفي كلّ مرّة كان سلوك النظام مريباً تماماً، ولا يوحي إلا بما هو نقيض الميل إلى التهدئة وحقن الدماء. ولسنا، في هذا الصدد، نملك أيّ سبب للتشكيك في الرواية الشائعة، التي اقتبسها المحقق الدولي ميليس بدوره، حول التهديد الذي أرسله بشار الأسد ذات يوم إلى وليد جنبلاط عن طريق رفيق الحريري، بأنّ الأوّل أيضاً ـ وليس جنبلاط وحده ـ لديه دروز! ما الذي يمكن أن يعنيه تهديد كهذا، سوى التلويح بإشعال الحروب بين الطوائف وتأجيج النيران بين المذاهب؟
وإذا صحّ أنّ محاولة النظام العبث باللحمة الوطنية هي الخطر الأكبر الذي يتهدّد سورية البلد والشعب، فإنّ تفكك اللحمة بين أطراف الحلقة الأضيق في السلطة ـ على المستوى العائلي أوّلاً، ثمّ على مستويات المحاصصة في النهب، وتقاسم النفوذ، وتنظيم شبكات الولاء، وتحسين المواقع في التسويات المحتملة القادمة ـ هو الخطر الأكبر الذي يتهدّد النظام. فإذا تبيّن بالفعل أنّ اللواء غازي كنعان لم ينتحر بل تمّت تصفيته لأسباب ليست بعيدة عن جوهر مستويات التفكك السابقة، لكي لا نضع في الإعتبار احتمال أن تكون الولايات المتحدة قد رأت فيه أفضل البدائل المتوفرة اليوم للقبض على زمام الأمور بالسطوة الأمنية والسياسية التي تشترطها واشنطن في حاكم دمشق، والتي كان حافظ الأسد يوفّرها على وجه شبه تامّ وشبه قياسي، فإنّ النار ستكون قد انتقلت إلى قلب بيت السلطة، وأودت بواحد من أعضاء حلقة الحكم الأضيق.
في صياغة أخرى، إذا كان احتمال وقوع شقاق بين عائلة الحكم (بشار وماهر وبشرى الأسد + آصف شوكت) ورجل مثل كنعان، يحدث أنه آخر حواريي حافظ الأسد والأشدّ خبرة في الحلقة الأضيق تلك، قد حتّم تصفية الأخير على ذلك النحو الدراماتيكي الصارخ، فكم غازي كنعان ينبغي أن ينتظر دوره إذا أحكم القرار 1636 الطوق على دائرة السلطة، وفتح بعض المنافذ أمام الراغبين في النجاة من السفينة الموشكة على الغرق؟ وكم خادم تاريخي للنظام سوف يتحسس رأسه، إذا تكشّف المزيد من الأسرار حول أضاليل غياب كنعان عن ساحة الفعل الأمني والسياسي؟ ومن جانب ثانٍ متمّم، هل في وسع عائلة الحكم هذه، الضيّقة أصلاً والآخذة في الانكماش أكثر فأكثر، أن تدير وحدها معارك البقاء القادمة، خصوصاً وأنّ تلك المعارك تَعِدُ بكلّ ما هو شرس ضارٍ عنيف لا يبقي ولا يذر؟
بل كيف يمكن للنظام أن يزعم الدفاع عن أبناء الطائفة العلوية، كما فعل رجال الحلقة الأضيق لسنوات أواخر السبعينيات وأواسط الثمانينيات (وكان على رأسهم، دون أية مفارقة، رفعت الأسد: شقيق الرئاسة آنذاك، وعمّ الرئاسة اليوم، والجزّار الأكبر الذي يتباكى هذه الأيام على سورية!)، الآن إذْ تقود المؤشرات إلى أنّ النظام ذاته هو الذي يصفّي الفئة الأولى والأعلى من أبناء الطائفة الذين لهم كلّ يد بيضاء في خدمة النظام والحفاظ عليه ورعاية أهله؟ وما دامت الغالبية الساحقة من أبناء الطائفة العلوية غير منخرطة في آلة النظام، بل هي متضرّرة من سياساته مثلها في ذلك مثل جميع فئات الشعب السوري، فما الذي يمنع انخراطها أوسع من ذي قبل في تيّارات المعارضة، على نحو شامل هذه المرّة يبدأ من الصفوف القاعدية العريضة في مؤسسة الجيش ومختلف الأجهزة الأمنية؟
وفي خلفية هذا المشهد داخل بيت النظام، والذي يبدو جدلياً بامتياز لأنه قابل في كلّ برهة لتوليد النقيض ونقيض النقيض، تبدو الولايات المتحدة أكثر يقيناً حول طبيعة "السلطة" التي يملكها بشار الأسد نفسه. ليس جديداً، بالطبع، أن إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش متأكدة من أنّ بشار لا يحكم. الجديد الآن أنها باتت متأكدة على نحو قاطع من أنه لن يحكم في أيّ يوم قريب، وأنّ الأجندة الأمريكية في العراق لا تتيح الكثير من الوقت لانتظار أن يقبض على مقاليد السلطة تماماً، كما كانت حال أبيه، وكما تشتهي ـ وتشترط! ـ واشنطن. وكما كان اغتيال الحريري رافعة، بعد الإتكاء على القرار الدولي 1559، لإخراج القوات السورية من لبنان، فإنّ تقرير ميليس، ثمّ القرار 1636 وما يقترن به من قرارات رديفة، سوف تشكّل الروافع الأهمّ اللازمة لإنجاز ما أسمته وزيرة الحارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بـ "تغيير النظام من الداخل" Regime change from within . ثمة سيناريوهات عديدة، بينها مثلاً:
أ ـ تطبيق المزيد من سياسات عزل بشار شخصياً وبالذات، وليس النظام وحده، على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي، تمهيداً لإحراقه سياسياً في الداخل عن طريق توريطه وشقيقه وصهره في اغتيال الحريري، بما يظهره (في نظر المؤسسة الأمنية ـ العسكرية تحديداً) في صورة مَن أهدر مُلك أبيه، وضيّع نفوذ سورية في لبنان والجوار، ولا بدّ له أن يتنحى أو يُستبدل.
ب ـ أن يُجري النظام بنفسه سلسلة تغييرات "دستورية"، يتمّ التطبيل لها وتسويقها تحت مسمّى "إصلاحات"، تُبقي بشار ولكنها تجعل الرئاسة فخرية وتُسلم السلطة الفعلية إلى تحالف أمني ـ عسكرتاري ـ تكنوقراطي يقوده رجل قوي، أو مرشّح لحيازة القوّة، ويحظى أيضاً بقدر كاف من التأييد في صفوف الأجهزة الأمنية والجيش وأوساط المال والأعمال. ولعلّ الإدارة الأمريكية، وبعد طول تردّد حول زيد أو عمرو من أهل النظام، كانت قد اختارت غازي كنعان... الأمر الذي سرّع في غيابه.
ج ـ ليس مرفوعاً عن الطاولة ما يسمى "خيار ولد الطايع"، أي سيناريو موريتانيا الذي تضمن الإطاحة بمعاوية ولد الطايع عن طريق أحد كبار ضبّاطه المقرّبين منه، لا لأنّ ولد الطايع قصّر في طاعة واشنطن وتل أبيب وباريس، بل لأنه بات عبئاً على أداء وظائف الطاعة تلك بالذات، وتحوّل إلى مصدر لانعدام الاستقرار، بدل العكس. وبهذا المعنى قد تتدبّر واشنطن أمر تشكيل مجلس مدني ـ عسكري محدود العدد يحكم في الظلّ، أو ربما في العلن أيضاً، مع إدخال إصلاحات سياسية (تجميلية) واقتصادية (غير تجميلية) وأمنية (فعالة تماماً وبشدّة).
أمّا الخيار الذي طرحه رياض الترك، ضمير سورية والمناضل الأبرز من أجل التغيير الديمقراطي، حول استقالة بشار الأسد، فإنّ من المحال أن يلقى أذناً صاغية في هضبة القصر الرئاسي السوري... ولا حتى في البيت الأبيض!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فريق تركي ينجح في صناعة طائرات مسيرة لأغراض مدنية | #مراسلو_


.. انتخابات الرئاسة الأميركية..في انتظار مناظرة بايدن وترامب ال




.. المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين يزور إسرائيل لتجنب التصعيد مع


.. صاروخ استطلاع يستهدف مدنيين في رفح




.. ما أبرز ما تناولته الصحف العالمية بشأن الحرب في قطاع غزة؟