الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن سحر طه، وبغداد

عبد الرحمن جاسم

2005 / 11 / 5
الادب والفن


لطالما كنَّى الناس الأشخاص بأسماء بلادهم، فقيل جمال الدين الأفغاني، وبيرم التونسي، ولطالما ارتبطت أسماء الفنانين بالمدن، فتغزلت أحلام مستغانمي بمدينتها قسنطينة، فصارت المدينة كما لو أنها مدينة أحلام، ومالك حداد بالجزائر، ونزار قباني ببيروت، فلم يكن غريباً أبداً أن تسحر سحر طه الفنانة العراقية، البغدادية بالتحديد، بمدينتها الأم، المدينة التي ولدت وتربت فيها.
كان الأسئلة التي حملتها معي، كثيرة، لكنها تصب في بحرٍ واحد، أسئلة أقضت مضاجع ملايين العرب، وفي كل مكان: هل سقطت بغداد؟ هل سقط صرح الحضارة ذاك؟ هل جاء يومٌ تغتال فيه المدن كأي جسدٍ فانٍ؟ هل يقدر أي أحدٌ على سحب الروح من مدينة؟
في بيتها الذي يشبه بغداد، حيث يتناثر الفن على الأرصفة ليغدو لغة حياة، ووسيلة تعايش بين كل شيء، وكل الناس. هنا تجد لوحة فنية، على المنضدة كثير من شعر، إلى جوارك يجلس عود، كان المنزل، ملخصاً عما تكون المدنية-الحورية. هناك التقيتها، كانت سحر طه، الحزينةُ كلما تحدثت عن مدينتها، المتكلمة بحب مؤثر، عن مدينتها الأم، متأرجحة بين حب الأم لابنتها، وحب الإبنة لأمها، فلا تدري في نهاية كلامها، من في النهاية أمُ من.
"بغداد لم تسقط، أنا أكره هذه الكلمة، بغداد سُلِّمت، بغداد لم تقاتل، لقد كانت أشبه بجسدٍ مريض حاصرته الأمراض من كل ناحية، فكان لابد أن يرتاح قليلاً، ويعود بعدها لمواجهة كل شيء". بلهجتها العراقية المحببة أجابت، كانت سحر، تكاد تبكي، تصمت تعابير وجهها، تُحسُ بأنها تمنع دمعةً تحاول أن تسرق الوقت وتنزل ولكنها تغيب في اللحظة الأخيرة.
"بغداد ليست مجرد كلمة عادية يستطيع أيٌ كان أن يشطبها بجرة قلم، بغداد، هي بغداد". تهدء سحر طه، ما أن تنهي جملتها الأخيرة، ترشف قليلاً من شايها، وتعود إلى بساطتها العادية، ثم تكمل، "بغداد، لها مكانة في لاوعي كل مواطني العالم العربي، ليس فقط المواطن العراقي، فكل من يدرس التاريخ العربي أو يقرأه، يعثر أو يتعثر يومياً بشيء من عطرها، أو يحس أثرها. بغداد هي ألف ليلة وليلة، بلد الفنانيين والشعراء، بغداد، السياب، البياتي، نازك الملائكة، منير البشير، جواد سليم، وغيرهم الكثيرون، هذه هي بغداد. كيف يمكن أن تغتال مدينة بهذا الحجم، بهذه العراقة، بهذه العظمة، هل يقدر أحدٌ على ذلك، مستحيل، هذا بالتأكيد مستحيل". وتحدثنا سحر عن أن بغداد ليست فقط مهمةً للعراقيين أو للعرب فحسب، بل إن الأوروبيين تظاهروا وبالآلاف ضد احتلال أو تدمير هذه المدينة. كانت سحر تتحدث وكنت لا أرى إلا مشهد الجزمات النازية وهي تطرق باب باريس مدينة النور في الحرب العالمية الثانية، والفرنسيون يسلمونها للألمان بحزنٍ شديد، كانت كلمة الفرنسيين المشهورة، لا تزال تضج في مسمعي "هذه مدينة النور؟ من يرغب في رؤيتها مدمرة؟".
تروي سحر بحزن، كيف كان عدي صدام حسين، ابن الرئيس العراقي السابق، يغار من كل الفنانيين الشباب، ومن كل الأقلام المبدعة، ومن أي ذرة إبداع تتناثر هنا أو هناك، فكان إما يبعدها نفياً، أو يرسلها لغياهب السجون، فكيف كان من الممكن في ظل جو كهذا أن يزدهر ابداعٌ ويظهر للعلن؟ ولكن مع هذا، تقول: "بغداد، كانت دائماً ملأى بالفنانيين وفي كل المجالات، الشعر، القصة، الصحافة، الغناء، الموسيقى، حتى في أقسى لحظات الحصار، كانت بغداد، قادرةً على أن تكون حالةً فريدة بين المدن. أتعرف شيئاً، لقد كانت هناك فرق متخصصة، كالعود مثلاً، كان هناك فرقة منير البشير، التي تتكون من خمس وعشرين عازف عود، من المستوى العالمي الأول، في أقسى لحظات الحصار الداخلي، وأركِّز على الداخلي، وليس فقط الخارجي، كانت تتدرب تدريباً شبه يومي، وبإمكانيات قليلة وللغاية".
والآن، أسأل سحر، ما حال الفن في المدينة المحتلة؟ هل ما يزال هناك فن؟ أم أن الفن بدوره محتل؟ لا نجرؤ على أن نقول سقط، لأن السقوط -كما أفهتمنا سحر- تعبيرٌ غير موجود لدى العراقيين، "الفن، كما قلت لك، موجودٌ دائماً، وليس أبرز من دليل على ما أقول إلا أنه ما أن انتهى النظام السابق، حتى ظهرت إلى العلن، مئات الصحف اليومية في بغداد وحدها فحسب، وكل هذه الصحف تمتلئ بأسماء شبان لم نسمع بهم من قبل، وبينهم العديد من الأسماء الصحافية الشابة التي تَعِدُ بالكثير، طبعاً أنا أتحدث ههنا عن جانب واحدٍ من القضية، ولكن بالتأكيد هناك أسماء كثيرة ستلمع فيما بعد، وفي جوانب كثيرة، فبغداد(والعراق عموماً) زاخرةٌ بالفن والفنانيين".
والمستقبل، كيف تراه سحر، كيف ترى مستقبل المدينة التي نحلم كلنا بأن نراها كما هي مرسومةُ في خيالنا، "الطريق طويلٌ للغاية، وصعب، أنا أعرف، ولكن ليس هناك حل، علينا أن نمشيه إلى آخره، وعلى كل العالم أن يساعدنا، فهل يحق لهم أن يشاركوا في تهديم بغداد والعراق، ولا يشاركون في بنائه من جديد. هذا بالنسبة لبناء الحجر، أما البناء النفسي والفني، فأظن أن هذا أمرٌ لا يقوم به إلا العراقي بالاعتماد على نفسه".
أودع سحر طه، وبغداد التي أحسست كما لو أنني زرتها، أنظر خلفي وأنا أترك منزلها، هي لا تعرف أنني أحاول أن أحتفظ في عقلي بصورةٍ عن هذا المنزل الذي جعلته سحر، بفطريتها الحالمة، جزء من المدينة-الحورية، أحاول ألا أنسى تفصيلاً، زاويةً، شالاً أو حتى هلالاً صغيراً معلقاً على مرآة، بهذا لا يمكنك أن تنسى بغداد، وكما قالت سحر: "بغداد ليست كلمة تشطب بجرة قلم، بغداد هي بغداد".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في