الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات في المعتقل ( 2-3 )

عبدالرحمن مطر
كاتب وروائي، شاعر من سوريا

(Abdulrahman Matar)

2015 / 12 / 18
أوراق كتبت في وعن السجن


الـتـعـذيـب وخـيـوط الـضـغـيـنـة

السبت 7 حزيران
من يخرج من الزنزانة الى المهاجع، ويُسمح باختلاطه مع المعتقلين الآخرين، فهذا يعني، أنه انتقل الى حياة أفضل في رحاب الجحيم. أحسستُ براحةٍ شديدة وأنا أدخل المهجع المسمى ( الخارجي ) ورأيتُ ابتسامتي في عيون الاخرين، وأرفع يدي بالتحية للجميع. كيف لا ..وأنا خبير سجون! وكي أوفّر عليهم وعلى نفسي، نطقتُ بصوت مسموع باسمي وعملي. كانت اللهفة التي باح بها الجميع، هي معرفة أخبار الخارج. ما الذي يحدث في سوريا، ماهي أخبار الثورة، الجيش الحر، والمعارك التي يخوضها ضد النظام. لكن لم يسألني أحد عن مؤتمرات المعارضة، ولا عن مواقف المعارضين ..ولاهم يحزنون. السؤال الذي لم يمرّ مرور الكرام، عما إذا كانت هناك أنباء حول عفو قريب عن المعتقلين، نفخت نفسي قليلاً وهممتُ بإلقاء خطاب، فشدني أحدهم هامساً:
- بلا طول سيرة.. في والا مافي ؟
- الله كريم ..قريب الفرج قريب..
ضحك الجميع، وعلت بعض التعليقات الساخرة الجريئة، التي تحلّى أصحابها بالشجاعة ..تلميحاً من خلف التلال. الجماعة الأولى التي استقبلتني، وأجلستني في مربعها الصغير..صرفتني بعد أن لاحظت تكتمي في الحديث، وأنا الذي يعرف أنه ثمة مخبرون في المهجع، كنتُ على حق!
الطريق الى الحمام، كان شاقاً، فالناس فوق بعضها البعض، أكوام لحمِ، وأنفاس خانقة. يقارب عدد المودعين هنا المئتين. ليس ثمة موضع للقدم الواحدة، والقفز هو وسيلة التحرك الى وجهة واحدة، الحمام فقط..وبالدور. وقفتُ اتطلع إلى مكانٍ ما
ألبدُ فيه، فألمُّ جسدي على عثرتي، فلم أجد. بقيت واقفاً حتى جاء طعام الغداء، وحلّ به الفرج.

يلتم السوريون حسب مناطقهم، في المهجع، معظمهم من دمشق وريفها، إضافة الى وجود أعداد من حمص وحماه، وحوران. تناولت الغداء في ضيافة الدوامنة الذين رحبوا بي وافسحوا لي مكاناً بينهم. مرّ على اعتقالي حوالي نصف يوم، لم ألتقط فيه كسرة خبز أو جرعة ماء، أو التبول سوى مرّة واحدة أثناء التحقيق.
كانت الى جوارنا جماعة أبو زهدى الحرستانية، التي تحتل صدر القاووش، وأكثرها مناوشة، حيوية وشغباً. في المدخل مجموعة صغيرة تفرض الابتعاد عنها، ولديها مساحة واسعة تعادل ثمن المهجع، تتحكم به ولا تسمح لأحد بالجلوس فيه، إلا عند تناول الطعام. هناك كان زعيم المهجع، بعضلاته المفتولة وجسده الضخم، ولحيته الكثّة المشيبة، لم أحظى بإعجابه مذّ دخلت، ثم اجتمعت به لاحقاً في زنزانة جديدة.
المكان الذي ربضتُ فيه، على نصف ساق، وجسد في الهواء، يبعد عني بمسافة موضع رجل واحد فقط، عن واحدة من أبشع غرف التعذيب. كنت في مواجهة نافذتهاالوسيعة، نافذة داخلية مطلية بالبني الداكن، لا يظهر شئ مما تحتويه أو يحدث داخلها. لكن الصوت كان واضحاً جليّاً كالقسوة التي تقصم الروح والجسد!
أسرّ لي أبو محمد الدوماني، أنني سأسمع لاحقاً أصوات التعذيب، أصوات النساء المعتقلات هنا. في الليل كان صراخهن يمزق أرواحنا، ويفاقم عجزنا وقهرنا..فمن يحتمل ؟ غير أن وصول أحد الشباب في حالة خطيرة، أشغلنا جميعاً عما نحن فيه، وعما يحدث من حولنا حيث النساء يتعرضن للتعذيب..وربما لأشياء أخرى، لا ندري على وجه الدّقة ماهي.
كان الشاب بقايا جثّة يغطيها الدم في أنحاء عديدة من جسده: الوجه والرأس، والقدمين واليدين، لا يقوى على النهوض بنفسه، أو الوقوف والمشي. قدميه متورمتان من التعذيب، وكان يصدر أنيناً خافتاً مبحوحاً ومتعباً، وعينيه شبه مغمضتين.
نزع عنه رفاقه الثياب الممزقة، ووضعوا رأسه تحت صنبور الماء، ثم مددوه على الأرض وهم يمسحون الدماء عن جسده. وما أن بدأ يستعيد وعيه، حتى علا اللغط والهرج في المهجع، وبدأت أساريره تتفتح على الرغم من الألم، سعيداً بالبقاء على قيد الحياة. تأملتُ ملامح وجهه الهادئ، وبريق النجاة في عينيه، والرضا الذي باحت
بها ابتسامته، لقد ربح الجولة، ولم يستطع السجان أن ينتزع منه أي اعتراف حتى الآن. كان طويل القامة نحيلاً، بل هزيلاً، وقد مرّ على اختطافه من أطراف معضمية الشام، 76يوماً. لا أتذكر اسمه الآن، كما لا أتذكر أسماء سوى ثلاثة أشخاص..لكن ثمة وجوه لا يمكن نسيانها، واحد منها ذلك الشبيح المخبر.
مع أول المساء، بدأت أفواج الشباب بالخروج، جماعات وفرادى، يعودون بحالٍ أشبه بالموات، والروح مثقلةٌ بآلامٍ تترك ندوبها عميقة على الأجساد المهتوكة، التي تتحول إلى خارطة كدمات تتدرج ألوانها من الرمادي الى الأزرق والأحمر، دوائر وخطوط السياط والعصيّ. يستخدم السجان هنا وسائل تعذيب غاية في البساطة والبدائية، لكن قدرتها على الفعل والأثر عالية جداً، فهي تعتمد على غرائز السجان، بداهته وبراعته في أبشع استخدام لها عبر التاريخ الإنساني. يمتلكون فرادة في الإيذاء، ويجهدون لتحطيم النفس البشرية، بكل ما يمكن لهم اتباعه من وسائل الترهيب المعنوية والمادية، ثمة قاموس هائل من مفردات الحط من قيمة الإنسان: شتائم وسباب، مع ضرب لامتناهي الوحشية، دون اعتبار للحياة والموت. تشريعات النظام الأسدي، تحمي مرتكبي الجرائم بحق الإنسانية، لدى الأجهزة الأمنية والمعتقلات، وتحول دون تعرضهم لأي مساءلة قانونية، وذلك في ظل ممارسات لاحدود لها في انتهاك حقوق المعتقلين، وحمايتهم.
هكذا رأيتُ الندوب والجروح المتقيحة والأطراف المكسورة، والأظافر المقتعلة، رأيتُ العيون المتضررة، والمصابين من أمراضٍ شتى بفعل التعذيب والاعتقال، وعدم السماح بالعرض على الأطباء ومواصلة علاج الأمراض المزمنة. مرضى القلب والكلى والربو، يعيش بعضهم داخل الحمام، وتلك ميزة خاصة، عندما يتحول القاووش إلى فرن لشوي المعتقلين مابعد الظهيرة، عندما ترسل الشمس حدّة الصيف على سطح المهجع وجزءاً من ارتفاع الجدار الغربي فوق الأرض، وهذا شكل آخر من العذاب الذي يحياه المعتقل.
مع مرور الوقت يزداد عدد الوافدين الجدد، قلّة هم من يغادرون، في الغالب يتم تحويلهم الى معتقلات اخرى، مثل كفر سوسة والدحداح. المكان يختنق بالجميع، رائحة العرق وغازات الحمام، تغشى العيون وتملأ الحلوق بحموضةٍ قَرِفَة ، وشفاطات الهواء بلا جدوى، كأنها لاتعمل وقت الضرورة، والضرورة هي طوال الوقت.
خلال النهار يتناوب الجميع على النوم، ثمة إمكانية للتبادل أحياناً بين ثلاثة مجموعات وحالات: وقوفاً وقرفصة، والجلوس متكئاً الى الجدار مع مدّ الساقين، وهذه أفضل درجات النوم..وأفخمها. ساعة النوم قرابة الثانية غالباً، الليل.. تتجدد
فيها الصراعات على موضع قدم، يصير للحماقة والأنانية، أصواتاً تعلو بالغضب وتغلي بالحنق، هنا تتبدى صورة أخرى - جليّة - لانتماءات وانقسامات المجتمع. وفي كل الأحوال تنتظم أنساق النوم مقرفصين، ظهراً الى ظهر لمن يحالفه الحظ، أو كلٌ في حضن الآخر، والضغط على كل فرد من كل الاتجاهات، للحصول على مكان أوسع بإنش واحد. هكذا يُحاصر الجسد ويتفصد عرقاً، ومن يضطر الذهاب الى الحمام، لايعود إلى مكانه إن لم يكن من قبضايات المهجع، وسادته.
نمنا بفحيح مكتوم، لأن أصواتنا كادت أن تقودنا جميعاً الى الفلق، لم يحتمل السجان الذي يسهر في غرفة التعذيب المجاورة لنا، هذا الضجيج، فتح الباب وبيده عصا طويلة وغليطة وهددنا بها. السجان لم يحتمل أصواتنا، لكنه يتلذذ بأصوات المعذبين بين يديه، وتمنح سكرته مزيداً من النشوة بمشهد الاستقواء والإهانة.
وحدها تلك المجموعة التي تحتل مكاناً واسعاً، يسار الباب، تتمدد بطول الجسد..براحة تامة، وتترهب منها الجموع المكبلة!
مشهد النوم، يشبه كثيراً حالة سوريين في سفينة تائهة في عرض البحر، تغرق رويداً بسبب فائض الحمولة المرعب، بلا ماء ولا غذاء. سوف ينام..من يجد إلى ذلك سبيلا، ينام الجميع، من شدة الإنشغال والتفكير في الحال والمفاجآت والمصير..ينام من شدة التعب وإرهاق النفس، علّه يستقوي بحلمٍ ما، من أجل نهار جديد !
الثلاثاء 10حزيران: صباحاً
اليوم تلمستُ خيوط الضغينة بين أبناء الثورة، حتى هنا في المعتقل، يحدث هذا! لم تكن خلافاتهم في وجهات النظر فحسب، كل طرف يريد فرض رأيه على الآخر، لم تكن هناك إمكانية للمناقشة، كان ذلك صعباً، مع أن الغاية واحدة، لكن ليس ثمة تفاهم على الأولويات، وعلى طرائق العمل. كل شئ مفيد منتج يصطدم بمصالح التنظيم ثم المنطقة، ثم ينحدر نحو العائلة ". هذا المرض كان يثير حساسيات شديدة داخل المعتقل، سرعان ما تتحول المناقشة الى تجاذبات خارج الموضوع، تتطور الى عراك وشتائم، اليوم وصل الى تشابك الأيدي.
تغلب سمة الاسلاموية في المهجع، أولئك الذين انتفضوا ضد الاستداد، ثم احتوتهم التيارات الاسلامية، بمعنى أدق اشتغلت عليهم، واستغلت مشاعرهم الدينية، فاندفعوا بتاثير من توجيه الدعم للثورة السورية. المسألة لاتتصل بخروج الناس من المساجد، في البداية، لم تكن بيوت الله سوى فسحة للتجمع والتعبير والانطلاق. كنت أرتاد المساجد أيام الجمع، لأرى وأسمع وأشارك. العبادة والإيمان بالنسبة لي مسألة
شخصية وخاصة جداً، ولم تكن الطريق الى المسجد الأموي، منفصلة عن اقتعاد الأرض في كنيسة حنانيا. وفي المحصلة انتقلت الانتفاضة من السلمية الى ثورة مسلحة، أمام الاستخدام الإجرامي لوسائل العنف والقتل، من قبل النظام. كانت تلك المسائل مثار خلاف دائم في المعتقلات وخارجها، وإلى اليوم. كثيرٌ من حملة السلاح، كانوا بيننا، وهم أشدّ وضوحاً في التعبير عن مواقفهم، بحدّة، وأكثر نكراناً وإقصاءً لنشطاء العمل المدني..هنا وجدتُني معزولاً بينهم!
اليوم، كانت هناك أخبار جديدة يتم تداولها بين الشفاه والآذان والعيون، حول أحداث الجمعة الأخيرة، التي شهدت مواجهات عنيفة في مثلث جوبر- دوما – برزة. بلغت فيها عمليات الجيش الحر مرحلة نوعية، بعد الزيارة الفاشلة لفريق تقصي الحقائق.
خبز وحلاوة، قدم لنا السجان إفطارنا، مع هذه الأخبار التي تصل مع معتقلين جدد. حصلتُ على رغيف كامل، مع قطعة حلاوة بحجم البيضة. في المعتقلات السورية، وإن لم يكن الطعام كافياُ أو صحياً، إلا أنه ليس سبباً في مقتل المعتقلين. يموت السوريين بسبب التعذيب الوحشي بلا أي حدود أو مساءلة.
فتح الباب وضرب القادم بقبضته كي ينصت له الجميع:
- كل حشرة يسمع اسمه يطلع.
أشهر ورقته وتلا عدة أسماء، كنتُ أحدها، فانتفضت على الفور، أتلمس حذائي، فعاجلني بالقول أن لاضرورة. خلف الباب تجمعنا لدقيقتين لا أكثر. بصمنا على أوراقٍ قدمها لنا، وعدنا إلى الداخل. لم أعرف لماذا، لكن الخبراء في المهجع، هنّأوني، فسوف أخرج من هنا.
سأخرج إذن، ولكن إلى أين ؟ سأغدو حراً طليقاً ؟ أم ماذا..لا نعرف. في الغالب، ثمة معتقل جديد في الانتظار لابتلاعي !
بعد الثالثة عصراً، والشمس حادة جداً في ذروة توهجها، كنت أعبر ساحة فرع الخطيب نحو باص النقل الداخلي، حاملاً حقيبة أوراقي، دون الكمبيوتر المحمول. كنا مجوعة لاتتجاوز عشرين مُرحّلاً، ربطت معاصمنا إلى سلسلة طويلة واحدة، دون أن تُغمض أعيننا بعصبة سوداء. ومن حسن حظي أني كنتُ إلى جوار النافذة، انتابتني حالة فرح طفولي.
رافقنا مسلح واحد بكلاشينكوف معلّق على كتفه الأيسر، ينتصب في الباب الأمامي. كنا في حافلة إيرانية الصنع، وهي تتهادى بثقة الحاكم المتسلط، في شوارع دمشق شبه المهجورة في مثل هذا العصر الجاف. عبرت بنا شارع بغداد نحو نفق شارع
الثورة، الحجاز والحلبوني جنوباً. فتحت عيوني عن آخر الحدقتين، وأنا ابتلع مشهد المدينة، الأشجار، وحركة الناس، وأتلمس خطاي فوق هذه الدروب. تعلمت أن لاتغيب عني أية تفاصيل خلال التنقل بين معتقل وآخر. لدي هاجسٌ دائم، بأنه مشهدٌ أخيرٌ قد لا يًتاح لي مرة أخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفوض الأونروا: إسرائيل رفضت دخولي لغزة للمرة الثانية خلال أس


.. أخبار الساعة | غضب واحتجاجات في تونس بسبب تدفق المهاجرين على




.. الوضع الا?نساني في رفح.. مخاوف متجددة ولا آمل في الحل


.. غزة.. ماذا بعد؟| القادة العسكريون يراكمون الضغوط على نتنياهو




.. احتجاجات متنافسة في الجامعات الأميركية..طلاب مؤيدون لفلسطين