الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث في قطار آخن -21-

علي دريوسي

2015 / 12 / 18
الادب والفن


دخلت الحلوتان إلى المطبخ، مشى الضابط باتجاه غرفة الجلوس، وقع نظره من جديد إلى اللوحة الكبيرة "رجل وامرأتين" فوق الأريكة التي خُصصت لجلوسه، رسم على وجهه ابتسامة بخيلة، ألقى بجسده على الأريكة، أصدرت مؤخرته ضجيجاً عذباً، لم يكترث له، فاحت رائحة خفيفة، استساغها، خجل من ذاته، بَرَّرَ جريمته: في الشرق يفعل الضاط ما يشتهي لأنه لا يستحي، داعب بطنه كما يفعل ضابط صغير عُيّنَ في مزرعة نائية، خاطب نفسه: من هو صاحب القول المأثور "إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ"؟
أشعل سيجارة بول مول لإخفاء آثار الجريمة.

عادت الشَّهيَّتان بعدة صحون خفيفة للمازة بينها صحن اِحتوى على الجزر المقطّع إلى شرائح، شّمّ الرائحة التي فاحت رغم الحرارة الاستثنائية للغرفة والمرأتين، أحسّ بأنها تقترب من الرائحة القادمة من زَارُوب الغلط، من ذاك الزقاق الضيق في قريته البعيدة، سحب نفساً قوياً من سيجارته، صبّ لنفسه القليل من "جيم بيم" الأمريكي، احتضن الكأس بين أصابع يده القوية، أخذ رشفة من كأس الويسكي، سأل صديقته سابينه المنهمكة في توزيع الصحون على الطاولة عن سر رائحة الجزر، التي أيقظت في أعماقه رائحة الطفولة البعيدة.

- لقد مزجتُ شرائح الجزر بالملح والليمون الحامض والكمون... أجابت الممرضة.
- هل ذَكَّرتكَ رائحة الجزر برائحة الجنس أم برائحة الحرب؟ كيف هي رائحة الجنس والكلمات في مواسم الحرب يا أحمد؟ سألت الشرطية.
- ليس ثَمّة رّائِحَة للحديد والفضة أو الأدب أو الجنس في زمن الحرب والبارود سوى أَريج الدم... لا نشّم روائحهم في زمن الحرب، بل شَّذا الدماء فيهم، نتعقبهم وكأنهم فرائسُ جريحةٌ من أبناء جِلْدَتنا، تبحث عمن يطبّبها. أحابها أحمد.
- كيف هي في الشرق رائحةُ الحرب هذه الأيام؟ هل تشبه رائحةَ الأنبياء مثلاً؟ سألت سابينه ساخرة دون أن تنتظر جواباً.
- بل أكثر من هذا، أظنها تشبه رائحةَ الدكتاتوريات، رائحةَ الكراسي والمعارضات، رائحةَ تجّار السلاح ورائحة بعض المفكرين؟
- وكيف هي رائحة الناس والطعام في شوارع الحرب؟ سألت هنيلوري.
- خلف القضبان وأسوار الحرب، حتى العسل طعمه مُرّ ورائحته كريهة. ردّ أحمد ثم تمتم بلغته: "إلى أين تأخذنا رائحة الحرب في هياجها المصوِّت؟"
- دعونا الآن من النقاشات الجدية! أَلْسنتنا لا تتَوَقَّف عن الحَكيِّ، أخبرني يا أحمد عن السر الذي دفعك للسؤال عن رائحة الجزر؟ قالت الممرضة، سوّت هندامها ثم خاطبت الشرطية وكأنّ الجواب على السؤال لا يعنيها: تعالي معي إلى المطبخ!

نظر أحمد إلى صحون المازة، تأمّل شرائح الجزر وسقطَ في دوامة الذكريات اللولبية، كأنه يسحب سطل ماء من بئر مهجور، لتصله تلك الرائحة البعيدة في الطفولة...

من المثير للدهشة،
أن تعيش مرتاحا في الكرة اللولبية
داخل منحنيات علامة اِستِفهام.
من المثير للتَعَجُّب!
أن لا تطرح السؤال:
هل أنت عنكبوت في شبكة الذكريات والويب العالمية؟
أم فراشة؟

***** ***** *****

في قلب القرية ثمة شارع يميل بحوالي خمسين درجة إلى الأسفل في النزول وإلى الأعلى في الصعود، الطريق ضيق لا يتسع لمرور سيارة أو طرطيرة، لكنه يتسع لمرور جحشة تحمل على ظهرها شوال زيتون أبو قلم أحمر، كان قد ساقها مراراً في حالة صعود، إنه زَارُوب الغلط... يبدأ الشارع في حالة النزول بدكان النمورة والعوامات وينتهي بالبيدر، تلك الساحة الرعوانية الصخرية التي تحولت إلى ملعب كرة، في البيدر مجموعة غرف سُميت مدرسة، عمودين من البيتون عُلقت في كل منهما حلقة حديدة سوداء بشبك مهتريء لممارسة كرة السلة، بعد دكان النمورة وعمودي الكهرباء المتعانقين برمزية مساواة زائفة بين رجل وامرأة، كأنهما تمثال المساواة والحرية اِمرأة و رجل، في ساحة أصدقاء الدستور، في مدينة أوفنبورغ، للفنان الأمريكي جوناثان بوروفسكي، تأتي الخمّارة وفوقها غرفة سمير الغامضة، بعدها بخطوات وعلى الجهة اليمنى نفسها ترى بيت المختار، بجانبه غرفة نوم، غرفة دكان، إنها المنزل ليلاً والمحل التجاري لبيع الخضار ولطحن الفليفلة الحمراء نهاراً، هناك عاشت أم وابنتها، كلما مرّ من أمامه تذكّر ودون تخطيط مسبق أو مقارنة إسقاطية حكاية ريا وسكينة، مقابل الدكان وعلى انحراف بسيط من مدخله يفترش السيد العجوز هولا الأرض وأمامه كيس اللوز الأخضر وميزان عدالة يدوي، عبارة عن بضعة حجارة تُدلّل على الأوزان وقطعة خشبية تتدلى منها خيوط القنب، عُلق بها صحنا ألمنيوم.
يصيح هولا: عقابية، لوز أخضر، قرّب يا ولد واشترِ...
على بعد خطوات من العجوز هولا يجلس الغانم، طفل نحيل الجسد، أمامه طنجرة ألومنيوم مملوءة بالفول المسلوق والزوم، الماء المطبوخ والممزوج بالليمون الحامض والكمون والملح.
يصيح الغانم: فول مالح، مالح يا فول، قرّب واشترِ يا ولد...
تتجاوز ميزان العقابية وطنجرة الفول، لتجد نفسك أمام مركز بيع الكوكائين والحبوب المهدئة، وأنت الولد الذاهب في طريقك إلى مدرسة البيدر وفي جيبك خمسة فرنكات، تسأل نفسك: أأشتري اليوم حبات لوز أم فول مالح؟
تشم رائحة الكمون، تشتهي الزوم، تعود خطوات إلى الوراء وتقرر شراء حبات الفول مع الكمون والملح والحامض، بيده الخبيرة يصنع الغانم لك مخروطاً من ورقة دفتر مدرسي، يضع فيه الزوم وبعض الحبات المسوسات، يخيب أمل هولا إذْ لا تشتري من لوزه، تفتح حبة فول، تباعد فلقتي الحبة عن بعضهما، ترى دودة سوس في داخلها، تغمض عينيك وتمضغها بتلذذ، تفرح للطاقة الصباحية وتطير راكضاً إلى مدرسة البيدر."

***** ***** *****

- نعم، إنّها الرائحة التي بحثت عنها في شرائح الجزر! قال أحمد بصوتٍ عالٍ وكأنه أحرز هدفاً في المرمى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال


.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية




.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري


.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد




.. تفاصيل هتعرفها لأول مرة عن أغنية -أنا على الربابة بغني- مع ا