الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لعبة الوقت

صبا مطر

2015 / 12 / 19
الادب والفن


لا شئ غير ضجر خريفي وساعة كبيرة معلقة على أحد جدران المنزل, تنشج بصمت على وقتها المذبوح على غير عادته. عقاربها الكبيرة تزحف الى اللا أتجاه بعد ان فقد الوقت صوابه, وخرج عن سياق الكون ليفقد ذاكرة اتجاهاته الاربعة, متأثرا بجراحه النازفة وهو يعلن عن انتهاء مدة صلاحية البطارية التي تديرعتلات الساعة من الخلف !.
عواصف الخريف هي الاخرى تئن في الخارج, والأمطار كدموع غيمات عاشقة تنهمر مدرارا على الارض المغطاة باللون الاصفر. بساط هائل من الأوراق المتساقطة من الاشجار, تفقد مواقعها تباعا وهي تواجه العاصفة التي تلهو بها, كطفل شرس يلهو بدميته الجميلة وتسحقها أنامله الغاضبة لدوافع غامضة في نفسه! كتلة من الاشجار الواقفة في عراء أحزانها الجرداء, تمد اغصانها الى الأنين الى الظلمة الى المجهول الى الوقت الى المكان الى الجذور الى البعيد الى كل شي يسكن قرارة نفسي المتعبة. لكنها تعرف بأنها الأوفر حظا منا بني البشر. أذ أنها ستشرق بحلة أجمل في الربيع القادم, وأن الطيورة التي تهاجر في الخريف ستعود الى أوطانها حينما يغمرها الدفئ. أما نحن, فنشبه ساعات سلفادور دالي المائعة التي يرسمها ما بين الوقت وخيالاته الجنونية. نرفض التصديق بأن الخريف حقيقة وأن الجسد يهرم وسيسلم أوراقه يوما ما الى الارض بأستسلام كامل!.
قالت لي أمي أن أبتاع بطارية للساعة, فانها تشعر بالضياع دون معرفة الوقت. آه كم أكره الوقت الذي أراه يتسحب مثل اشباح خلسة من بين ثنايا الروح في اشراقاتها. وكم كنت أكره الساعات وبالاخص تلك المعلقة على جدار بيتنا وهي تواصل أنينها المذبوح, لتعلن كل مرة عن انتهاء ساعة و أحتضار اخرى.
سألت أمي مرة لم نضع الساعة وهي التي ترهقنا بأصوات تكتكاتها التي لا تهدء؟
لم تخبرنا كل مرة عن الوقت المتناثر كحبات الرمل في صحراء شاسعة الامتداد؟ لم تذبحنا الثواني كقرابين متشابهة في معابد المجهول الذي نخافه؟ لم تذكرّنا كل ثانية بأننا في رحلة سباق صعبة مع الزمن الذي لا يهدء ولا ينام؟
لم لا نولي حياتنا ومسراتنا أهمية أكبر من تلك التي نوليها للوقت وهو زائر غير مرئي يفور على خرائط المكان والوجود معا؟
كم اكره ان يمر الوقت بي دون ارادتي. نعم انه يمر دون ارادتنا . يرسم خطوطه العريضة في أفياء أرواحنا الشابة. انه يعاندنا ويسيرّنا رغما عنا الى النهايات. لكنني أريد ان أسير عكس مساراته, أعانده لأكتشف الأسرار التي يخبئها خلفه. أجل من منا من لا يحب ان يعرف ماذا يوجد وراء الوقت لو جعلناه يدور عكس مساراته؟
انه لسر حري بنا أكتشافه ليتوقف الزمن عن الاعيبه القديمة وليطلقنا أحرارا في عوالمنا التي لا نعرف متى أنتمينا اليها ولماذا يتوجب علينا مغادرتها بعد حين لا نعرفه؟.
أنا لست مثل أوراق الخريف , ولا أرغب ان انتمي الى عالم الطيور المهاجرة وهي تلف بقاع الكون بأجنحتها الصغيرة بحثا عن الدفئ في مكان ما, ومن ثم تهجره بحثا عن آخر اكثر دفئا كلما أقترب منها الشتاء.
فأنا الأصل المتبرعم على هذه الارض الكروية. لم أمارس أحلامي بعد, ولم أسافر في اكتشاف الجانب الآخر للأرض, ولم أكتب الى الحد الذي يشبع روحي, ولم أقراء الى الحد الذي يكفي, ولم أتعلم العلوم التي احببتها, ولم أحيا كما يجب ولم أحب كما يجب, ولم امارس طقوس الجنون, وأنا الحرة في هذا العالم وكلي رغبة في أكتشاف العوالم الاخرى البعيدة عن هذه الكرة الصماء التي لا تكف عن الدوران. اريد ان اكتشف المجرة التي اخبروني عن انتمائي اليها منذ الصغر, لكن ما معني ان أنتمي الى مجرة لا تعرفني ولا أعرفها؟ وما معني ان اشاهد النجوم ولا استطيع الوصول اليها؟ وكيف لي ان أعشق القمر ولم أزره ولو لمرة واحدة؟
تذكرت في طريقي الى المتجر سنوات تبرعمي الشابة وأنا أفور عنفوانا وقوة. ينتفض الجمال من على وجنتي المحمرّتين فرحا. لم اكن أعرف معنى النهايات يوما وكم كنت اكره الالوان الرمادية واكره الاكل البطئ والمشي البطئ واكره كلمة التعب التي استئصلتها عنوة من قاموسي. لم اشعر بالتعب او القلق او الاكترث. لانني الممتلئة حبا لكل شئ, أتحرق شوقا لقصص الحب والمغامرة. أحب السهر والتحدث الى الاقمار المزروعة في عوالمي الفضية.
كقصائد الشعر الخالدة اتحدث, كالأنهار الهادرة أعشق, كالجبال العالية أتامل, كالبحار الصاخبة أغامر, وكالليل المدلهم أتوارى خلف اسراري الصغيرة والكبيرة, مرة كعاشقة متمردة, ومرة كطفلة تختبئ في عنق الخيال وهو يداعب أجفانها ومرة اخرى انثى تتبرعم على سطور اساطيرها الناعمة.
سألت نفسي, هل عليّ فعلا ان ابتاع بطارية جديدة للساعة؟ وانا التي لم يتسنى لها بعد اكتشاف اسرار الوقت المزدوج. فانا لا اعرف حقا ان كان يحتسب وفقا لمواصفات ومعايير مختلفة حالما يغادرنا الى النجوم والمجرات الاخرى؟ ولا اعرف ان كان الكون يمتلك ساعة؟ يفيق على صوت منبهها صباحا, وترهقه تكتكاتها حينما يخيم الليل والسكون؟ وهل يلقمها بطارية جديدة كلما أقتضى الامر او يسقيها بعضا من قطرات الزيت لتقاوم الصدء المستشري في مفاصلها العتيقة؟
عدت أدراجي دون ان ابتاع شيئا من المتجر, لأتلذذ بالوقت الواقف على نصل الصمت الحاد, وعقاربه السود تكاد تلتهم نفسها غيضا, تنفث سمومها الى العتلات المشلولة الحركة. أحلق بحرية كطائر شجاع يرفض ان يهاجر رغم اقتراب موسم العواصف. كورقة خضراء معلقة كأيقونة على شجرة العمر الدائم الازدهار, أقاوم عواصف تشرين الشرسة التي تهب في صحارى النفس لأنتصر عليها وأنتصر على لعبة الوقت الهارب من قبضتي الى ظلال عقاربه السود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال