الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة كردية تمجّد ثقافة السلام في فيلم اتبع صوتي

عدنان حسين أحمد

2015 / 12 / 21
الادب والفن


يحتضن مهرجان لندن للفيلم الكردي في كل دورة عددًا كبيرًا من الأفلام الروائية والوثائقية والقصيرة التي ينجزها المخرجون الكرد في تركيا. وقد انتقت لجنة الاختيار لهذه الدورة خمسة أفلام روائية طويلة للمخرجين الكرد من تركيا وهي نسبة كبيرة إذا ما قيست بالأفلام الروائية الأربعة التي اشترك بها العراق وإيران فيما غابت سوريا عن هذا البرنامج تحديدًا. وعلى الرغم من غزارة الأفلام الكردية التي تُنتج في تركيا إلاّ أنها لا تفرِّط بالنوعية. فمعظمها ذات سويّة فنية عالية وهي تحصد غالبًا العديد الجوائز في المهرجانات المحلية والعالمية. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى فيلم "اتبع صوتي" للمخرج الكردي حسين قره بي الذي فاز بثماني جوائز مهمة في مهرجانات متعددة مثل مهرجان إستانبول، وغاردن ستيت، وميلانو، وصوفيا وسواها من المهرجانات العالمية المعروفة.
تُرى، ما الذي يميز "اتبع صوتي" عن بقية الأفلام التي يُنجزها مخرجون كرد معروفون في تركيا أمثال إيرول مِنتاش، عمر ليفينت أوغلو، كِنان كوركماز، فريد كاراهان، عايشة بولات، يوسكيل يافوز، يلماز أردوغان وغيرهم من الأسماء الإخراجية المعروفة في المشهد السينمائي الكردي في تركيا؟
إن ما يميّز هذا الفيلم عن سواه من الأفلام الكردية التي تُنتج في تركيا هو توظيف الفنون التراثية الكردية، والمعالجة الفنية لمضامين القصة السينمائية، والرؤية الإخراجية لصانع الفيلم من دون أن نهمل حُسن استعمال المؤثرات الصوتية والبصرية التي منحت الفيلم أبعادًا جمالية مُضافة.
يعرف القارئ الكريم أن الفيلم يتكون من صورة وصوت لكننا في الأعم الأغلب نهمل الصوت في أغلب كتاباتنا النقدية ونركِّز جل اهتمامنا على الصورة وما تنطوي عليه من شخصيات وأحداث وهذا خلل كبير ينبغي أن نتداركه جميعًا لأن الصوت هو مَنْ يمنح كل لقطة معناها على انفراد، بل أن كل جزء يسير من هذه اللقطة لا يكون له أي معنىً من دون الصوت. ولهذا السبب فقد استهل قره بي فيلمه بمشهد تأسيسي يتسيّد فيه الصوت على الصورة، أو أن هذه الأخيرة تأتي بعد الصوت في أهميتها، فحفيف الريح، ودويّ الرعد، وزقزقة العصافير تسبق صورة الجبال المغطاة بالثلوج، والغيوم المتدافعة التي تتسلق سفوحها وقممها لتوحي لنا بشتاءٍ قاسٍ ستكون فاكهته الحكايات التي يسردها الحكواتيون أو رواة القصص التي توارثوها خلفًا عن سلف.

رواة القصص
يقوم البناء المعماري لفيلم "اتبع صوتي" على التقنية الحكواتية التي يتبناها راوٍ محترف يسرد القصة بطريقة تشويقية ممتعة. وقد أسمعنا الراوي قصةمليئة بالدلالات والعِبر، ويمكن اختصارها بأن الجندرمة التركية قد اقتادت الأب "تمو" ووضعته في السجن ولن تُخلي سبيله ما لم تجلب أسرته المكونة من أمه بيرفه وابنته الصغيرة ژيان البندقية التي لا يمتلكانها أصلا! وبموازاة هذه القصة تروي الجدة بيرفه لحفيدتها ژيان قصة الثعلب الذي فقَدَ ذيله الجميل ليحصل في خاتمة المطاف على ذيل لؤلؤي بينما تتقطّع ذيول الثعالب الأخرى التي كانت تسخر منه. وقد قسّم كاتبا النص قره بي وعبد الدين ياريلتي سرد الحكايتين إلى مراحل متعددة غطت مساحة الفيلم الذي بلغت مدته 105 دقائق مُحتشدة بلغة بصرية راقية.
إذا وضعنا المشهد الافتتاحي جانبًا فإن مشهد الحكواتي هو الذي يؤسس للقصة السينمائية التي سوف تتمحور على حدث مؤلم وهو دهم منزل تمو بينما كانت الجدة تروي لحفيدتها قصة الثعلب، واقتياد رب الأسرة إلى السجن بتهمة مزعومة وهي حيازة سلاح غير مرخّص به من قِبل الأجهزة الأمنية المختصة. لم تقتصر التهمة على تمو وحده وإنما امتدت إلى كل شباب القرية الذين تمّ زجهم في السجن ولن يُخلى سبيلهم ما لم يجلب كل واحد منهم مسدسًا أو بندقية.

سيناريو مُتقن
لا شك في أن نجاح القصة السينمائية المحبوكة قد ساهم في نجاح الفيلم حيث انتقل السرد إلى مستويين، الأول يخاطب كل الأعمار، أما الثاني فيكاد يقتصر على الصغار تحديدًا. وما إن يُحشر "تمو" في السجن حتى تبدأ الجدة وحفيدتها بمحاولاتهما الدائمة للحصول على مسدس أو بندقية. فالطفلة ژيان منهمكة مثل جدتها تمامًا في البحث عن قطعة سلاح كي تنقذ والدها فلاغرابة أن تشرع بجمع كل المسدسات والبنادق البلاستيكية الموجودة في القرية لكن جدتها تخبرها بأنهم يريدون سلاحًا حقيقيًا وليس لُعَب أطفال. أما الجدة فتقوم بأربع محاولات رئيسة وهي تسليم بندقية الصيد القديمة التي كان يمتلكها الوالد لكن هذه المحاولة ذهبت أدراج الرياح، فلقد عنّفها الضابط وطلب من مسدسًا يشبه المسدس الذي يحمله أو بندقية مثل البنادق يحملها الجنود. أما المحاولة الثانية فقد قصدت فيها قاسم آغا الذي كان تمو يعمل عنده لكنه اعتذر عن تزويدها بأي قطعة سلاح لأن كل أسلحته مرخّصة من قبل الدولة فيلفت انتباهها إلى مهرّبي الأسلحة علّهم يدبرون لها بندقية رخيصة الثمن. لابد من الإشارة إلى أن المخرج قره بي قد تعامل الطفلة ژيان وكأنها شخص بالغ الرشد فهي تفكر مع جدتها وتجمع الأسلحة البلاستيكية. وفي زيارتها لبيت قاسم آغا تلتقي بالطفل وتسأله إن كان بمقدوره أن يعطيها البندقية كي تنقذ والدها من الحبس لكنه يعتذر لأن والده سيقتله إن هو فعل ذلك. لا تترك الجدة أي فرصة حتى وإن كانت ضئيلة حيث تنتظر المهرّب آسو عند مشارف القرية في محاولتها الثالثة وتطلب منه أن يؤمّن لها بندقية مقابل أن تعطيه نعجة وخروف فيعتذر منها لأنه مجرد وسيط وأن المهرّبين يريدون ثمنًا ماديًا للبندقية التي يبيعونها. وحينما تبوء هذه المحاولة بالفشل بعد أن قبضت عليهم السلطات المحلية تقرر الجدة بيرفه أن تذهب إلى قرية "جيفاس" في محاولتها الرابعة وتحصل على المسدس الذي تريد، ولكي تتفادى نقاط التفتيش تسلك طريقًا جبلياً لا يخلو من مخاطر شتى ولكنها تصادف في رحلة العودة ثلاثة حكواتيين وهم نفسهم الذين شاهدناهم في مستهل الفيلم وهم الشاعر "محسن توكجو" الذي كان يروي قصة سجن تمو، وتلميذيه ميندو وروهات اللذين كانا يغنيان ويرويان القصص أيضًا. وبما أن الطريق إلى القرية طويل فسوف تكون فرصة كي يروي كل واحد منهم قصته للجدة وحفيدتها، ثم يستمعان إليها كي تروي حكايتها لهم فلقد شعر "الدنغبيج" الكبير أنها حزينة وعليها أن تنفِّس عن هذه الهموم عن طريق البوح والمكاشفة.

حدْس الضرير
لم يقيّد المخرج حسين قره بي الحكواتيين الثلاثة من ذوي الاحتياجات الخاصة بفقدانهم للبصر، وإذا كانوا فاقدين البصر فإنهم أصحاب بصيرة ثاقبة، فلقد أدرك الدنغبيج الكبير أن الطفلة ژيان هي حفيدة الجدة، وأن هذه الجدة كانت تبحث عن شيئ وقد وجدته في القرية التي غادرتها، وأنها تفادت السفر بالسيارة خشية من نقاط التفتيش لأنها تحمل شيئًا ممنوعًا، وأنه عرض عليها في نهاية المطاف أن يحمل هذا الشيئ الممنوع لأن أحدًا لا يفتشه إذا ما صادفوا دورية أو مرّوا بمنطقة عسكرية. وبالفعل يصادفون دورية ويمرون بمنطقة عسكرية ويفتشونه لكن الجندي يتعاطف معه ويخبر مسؤوله العسكري بأن هذا الرجل الكبير لا يحمل أي شيئ ممنوع! وعند مشارف القرية يسلّم الدنغبيج الأمانة إلى الجدة ويودعها. وحينما تصل إلى البيت تصرخ الطفلة بأن والدها في البيت. أما الجدة فقد اختلقت ذريعة لغيابها واضطرتها للسفر إلى قرية مجاورة لأن صديقة قريبتها سلطانة قد أنجبت طفلاً وذهبت لتأدية الواجب الاجتماعي.
لم يخرج تمو سالما من السجن فلقد تعرّض إلى الضرب المبرّح خلال تواجده في السجن، وتحول هو الآخر إلى راوٍ بمعنى من المعاني وأخذ يروي لأمه وابنته كل القصص التي دارت في السجن. وكيف بدأ الناس يجلبون الأسلحة إلى السجن كي ينقذوا أبناءهم وقيل إن إحدى النساء قد جلبت بندقية قديمة هي أقرب إلى التحفة منها إلى السلاح العادي لكنهم رفضوها وسخروا من المرأة المسنّة التي جلبتها.
لم يتعاطَ المخرج مع السلاح تعاطيًا تقليديًا فقد قامت الجدة بلفّ المسدس بقطعة قماش ودفنته في أرضية المخزن في إشارة إلى أن السلاح سيئ وحينما دفنته كإنما دفنت الشرّ معه. وهي لا تريد لحفيدتها، مثلما لا يريد المخرج وكاتب النص، أن يهيمن السلاح على السلام أو يلقي بظلاله المشؤومة عليه.
كانت الطفلة على مدار الفيلم تطلب من جدتها أن تكمل لها قصة الثعلب الذي فقد ذيله الجميل وقد قامت الجدة بسرد هذه الحكاية على خمس مراحل تنتهي بصناعة المرأة العجوز ذيلاً من اللؤلؤ للثعلب الذي ضربته بكسّارة الجوز وقطعت ذيله الجميل الذي كان يتباهى به أمام بقية الثعالب. ولعل من المهم الإشارة إلى اللحظة التنويرية في هذه القصة التي روتها الطفلة ژيان لأطفال القرية الذين تحلّقوا حولها حيث سمعناها تقول:
"وحينما عاد الثعلب بذيل لؤلؤي أثار انتباه بقية الثعالب الذين سألوه عن كيفية حصوله على هذا الذيل اللؤلؤي فأخبرهم بدهائه المعروف: إن اذهبوا إلى ذلك الجدول الفضي وضعوا ذيولكم فيه لبعض الوقت. وبعد لحظات تجمّد الماء وركضت الثعالب فتقطّعت ذيولها جميعا".

لقطات مدروسة
لا يكمن نجاح هذا الفيلم في قصته السينمائية المبنية بناءً رصينًا حسب، وإنما في تصوير مجمل لقطاته ومشاهِده الخارجية الساحرة، وكذلك المشاهد الداخلية التي توحي باحتراف المصورة المبدعة آنا مسيلوتز التي قدمت لنا لوحات بصرية أخاذة الجمال أكثر من كونها لقطات سينمائية عابرة إذ لا يمكن تفادي اللمسات الفنية التي وضعتها المصورة في كل لقطة مدروسة على انفراد.
تجدر الإشارة إلى أن الأداء الكردي الكلاسيكي ينحصر في ثلاثة أنواع رئيسة تتمثل برواة القصص Stoeyteller والشعراء Bardsوالمطربون Minstrels وقد حضر الرواة والشعراء ولم يغب المطربون كليا وإن كانت المساحة الغنائية ضيقة ومحدودة جدا. ترد كلمة الشعراء أو الـ Dengbêj غير مرة في الفيلم، والحقيقة أن الدنغبيج على وفق ما يذهب إليه يشار كمال هو "الشخص الذي يروي ملاحمَ بطريقة احترافية". وما شاهدناه في هذا الفيلم هو قصة غير ملحمية وإن كانت مؤلمة بعض الشيئ. فلقد سُجن البطل، وتعرّض للتعذيب لكنه خرج من الحبس، ودفنت الجدة المسدس في نهاية المطاف. وهذا النمط يسمّى بالكردية الـ çîrokbêj وهو الذي لمسناه في القصتين الرئيسة والثانوية.
ينتمي الفيلم في جانب آخر منه إلى أفلام الطريق سواء في الرحلة التي قامت بها الجدة وحفيدتها من قريتها إلى مدينة جيفاس أو عودتهما إلى البيت سيرًا على الأقدام بصحبة الرواة الثلاثة الذين أمدّوا القصة بعناصر النجاح التي تعزز القصة الأساسية لحبس تمو وتعذيبه، ثم إخلاء سبيله، إضافة إلى الجهود الكبيرة التي بذلتها الجدة وحفيدتها بغية الحصول على مسدس أو بندقية لإنقاذ الابن من محنته.
لم تأخذ القصة طابعًا فرديًا فالأم التي فرحت بإخلاء سبيل الابن كانت تتمنى لآلاف الأمهات أن يتحرر أبناؤهن من السجون، وأن يعودوا لممارسة حياتهم الطبيعية. لابد من الإشادة بأداء الجدة وحفيدتها على الرغم من كونهما شخصيتَين غير محترفتين، فلقد خطفت فريدة كزير الأنظار بأدائها العفوي المقنع كما جسّدت ملك أويلغَر دور الطفلة بإتقان شديد وهي تبذل قصارى جهدها لإخراج الوالد من محنة السجن والتعذيب.
أنجز حسين قره بي عددًا من الأفلام الروائية والوثائقية والقصيرة نذكر منها "لا تنسينني يا إستانبول" والذهاب و F type film و "بوران" و "موت صامت" وقد عرضت أفلامه في العديد من المهرجانات المحلية والعالمية. كما نال الكثير من الجوائز التي تشيد بموهبته الإخراجية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ظهور حمادة هلال بعد الوعكة الصحية في زفاف ابنة صديقة الشاعر


.. كل يوم - -ثقافة الاحترام مهمة جدا في المجتمع -..محمد شردي يش




.. انتظروا حلقة خاصة من #ON_Set عن فيلم عصابة الماكس ولقاءات حص


.. الموسيقار العراقي نصير شمة يتحدث عن تاريخ آلة العود




.. تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على آلة العود.. الموسيقا