الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
ما أنا إلا أبي
هيثم بن محمد شطورو
2015 / 12 / 21الادب والفن
أنا ما أنا إلا هو في زمن آخر. أدرك هذا الأمر تمام الإدراك، مثـلما أدرك كوننا حلـقـات في سلسلة ممتـدة أصلها انبثـق في الوجود كـفيض شأن كل عملية خلق، أصلها الفكروي الصوري الالاهي. لم اكتـشف هذا الأمر مؤخرا و إنما منذ سنوات عـديدة.
برغم تـشكل عـديد الاختـلافـات الظاهرية بـينـنا، فإنها تباينات الظرف المتغير و البيئة الاجتماعية المخـتـلفة، و لون بشرتي البيضاء مقارنة بسمرته، و عيناي الخضراوان مقارنة بعينيه اللوزيتين، و طول قامتي مقارنة بتـوسط قامته، و تـنـشئـتي على تموجات روحيته و هو ذو الثـقافة و الفكر، بينما نشأ هو في بيئة المزارعين غير المتعـلمة.
ما تـأكـدت منه ذات يـوم بعيد أني في نهاية الأمر، رغم شطحاتي التي تعـسفـت فيها على نـفـسي و قـدري و لـوحي لأقـوم ببعض الأعمال الشريرة و إيماني بالقوة و العنف في صباي و تهافتي على بعض اللـذة الحـسية، إلا أن وخـز أناي الباطني كان يؤلمني و يـبث بين أرجاء وجداني المتطاير بين الأرض و السماء عـدم الثـقـة في النـفس برغم استماتـتي للظهور بمظهر الواثـق المعتـد بنـفـسه بل المتغـطرس أحيانا وسط لجج الكبرياء الذي يخالطه الإحساس بالدونية.
كان أناي يتجه بي إلى الالتـقـاء بجوهره الخير الطيب الذي يحترم الآخرين و يحبهم في حبه للحياة و نعمة الفيض الرباني في إيجاد ما وُجـد من وجود و (ما لم يُوجد بعـد، زمانيا إنسانيا بحكم زمكانية العـقـل البشري و ليس كحالة وجود معـقـولة هي بالضرورة موجودة ماديا بحكم الكـونية الربانية، أليس ربك إن قال للشيء كن فيكن مثـلما ذكر في قرآنه و بالتالي فخلـقه كـلمات و أفكار متصلة بالمعقولات فتكون موجودات بمجرد فعل قولها من ربك العـظيم سبحانه لا الاه إلا هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة و لا نوم).
و بما أن اكـتـشافـك للأشياء لا يكـون إلا بضدها، فعنـدما توجهت إلى دراسة الحـقـوق في الجامعة وجـدت نـفـسي كارها نـفـسي و حلم المحاماة و الرفاه المادي و العيش على سطح الحقوق و الأفكار و الوجود. اكتـشـفـت أني اعشق مادة الفلسفة التي يشتغـلها أبي كمدرس. اعشق الغوص في المجهول لإحالته إلى معلوم. اعشق الرشف الانهائي لأعظم نعمة انعم بها الله الإنسان و هي التـفكير المنطقي العقلاني..
أنا ما أنا إلا أبي في جسد آخر ممتد لجسده و مكملا له بمفهوم رغبته في جسده الأجمل الذي أوجده فيا (فالإنسان يشارك الله بإرادته و تصوراته و نـزعاته في خلـقه و ربما لأجل ذلك قال ربك في قرآنه أن الإنسان خليفة الله في الأرض). رغبته في تحرر أكثر من التـقـاليد أوجدها فيا. رغبته في التطابق أكثر بين المادي و الروحي أوجـدها فيا. نعم. أنا ما أنا إلا أبي في تـطوره و كماله الذاتي حسبما أراده هو و بطرق ربما لم يـردها هو انـدفـعت لما هو متصور و مأمول منه فيه و فيا..
و كم عشقـت سيجارته الحية باستمرار بين اصابعه و هو يحاكي أسطورة سارق نار الآلهة. و كم عشقت استهانته بالقول أن السيجارة سبب جميع الأمراض و أنها قاتلة بقوله أن الأمر إيديولوجية رأسمالية للتغـطية على جرائمها في تلويث الأرض بالغازات السامة المنبعثة من المصانع و السيارات. انه يردد دوما كلمات الشاعر التركي الشيوعي القائل أن الرجعية ذكية جدا و يجب على التـقـدميـين عدم الاستهانة بهم أو استغبائهم كي ينـتصروا عـليها. دعاية السيجارة القاتـلة تحميل الفرد لمسئولية موته للتغـطية على المسئولية الحـقيقية للمنظومة الصناعية الامبريالية المتوحشة الغرائـزية المنـفـلتة من كل قيمة إنسانية وجودية.
كم عشقـت مسكه للجريدة و انهماكه بين أحرف المجلات و الكـتب بكل ما فيه، و تعليقـاته التي يصرح لي بها بين الحين و الآخر ليشغـلني بما يشغله و ليوقـد فيا نار الاهتمام بالأبعد فالأبعد من الوجود المباشر تحت قـدمي.
كم أحبـبت أصدقائه اللذين ترسم ملامح وجوههم بعض خطوطه في التـفكير و العيش و تجربة الحياة. كان العالم الأكبر مني و لكنه الذي يحيطني و يرسم أفق مساراتي.
و ها هي أجواء إقامة اربعينيته تـلتـقي فيها الروح الهائمة بين الذكريات و الكلمات التي ذكرتها و التي لم اذكرها، بوجهين بارزين من وجوه أصدقـائه. احدهما الأستاذ "محمد الفـقيه" و هو عبارة عن أخ له لم تـلـده أمه. صداقـتهما تمتـد إلى الستينات من القرن الماضي حيث كانا يدرسان سوية في جامعة دمشق. الوجه الثاني لأستاذي الذي درسني بعـشق لمادة اللغة العربية لسنـتين في الثانوية و هو صديق مقرب لأبي بعـدما كان تـلميذا له في الباكالوريا في أوائل السبعينات، و الذي أشعر بلذة كبرى في القول انه صديقي و هو الأستاذ محمد الشريف.
كانت مداخلته مطولة بعض الشيء و لكنها كانت شيقة. كلمات "سي محمد" تـنضح حبا لأبي من وراء الأحداث القـليلة التي ذكـرها. فـقـد قال أن "الشيخ شطورو" كان الوجه الأكثر فاعـلية في ولادة نـقـابة أساتـذة التعـليم الثانوي، و انه شرفه و هو لا يزال شابا بترؤس هذه النقابة. ذكر كذلك أن "الشيخ شطورو" و هو متحصل على شهادة الثانوية من جامع الزيتونة في نهاية الخمسينات كان بإمكانه أن يكون مسؤلا في الدولة و كان بإمكانه أن يشق طريقه نحو الرفاهية المادية بسرعة، لكنه ذو أفق ممتد إلى الأبعد فالأبعد و قرر السفر إلى مصر ثم إلى سوريا لدراسة الفلسفة، و هناك اكتسب إيمانا بقضية كبرى هي نهضة الأمة العربية بانـتمائه إلى حـزب البعث و تـلـقيه لأفكار البعث مباشرة من "ميشيل عفلق" و "الياس فرح"، و شهد انه ذو فكر منفـتح و لديه مرونة في الحوار و النقاش و قد أنقـذنا من الانبتات الحضاري الذي عمل بورقيبة على تكريسه.
و بين الوجوه المتكلمة المحتـفية بسيرة الرجل النضالية في مجال التعليم الذي مارسه بعشق و غيرة و إيمان بالقيم الإنسانية التحررية، وجـدت نـفـسي مثـقـلا بأبي و تراجعت إلى الإحساس بدل التـفكير العقلاني و سألت الموت لماذا؟ أهي دائرة عبثية؟ لماذا نعيش و لماذا نـقـوم بما نـقـوم به و نعتـقـد فيما نعتـقـد فيه؟ لماذا هذا الخواء؟ ما الذي يدفعنا إلى الحياة؟ هل يجب تعليق كل شيء أم أن الأمر بكل بساطة أننا نـقوم بما وجدنا أنفـسنا نـريده؟ إذن العـود إلى سؤال الإرادة كسؤال حياة...
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حملة هاريس: انتخبونا ولو في السر و فن
.. -أركسترا مزيكا-: احتفاء متجدد بالموسيقى العربية في أوروبا… •
.. هيفاء حسين لـ «الأيام»: فخورة بالتطور الكبير في مهرجان البحر
.. عوام في بحر الكلام | مع جمال بخيت - الشاعر حسن أبو عتمان | ا
.. الرئيس السيسي يشاهد فيلم قصير خلال الجلسة الافتتاحية للمنتدى