الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعضٌ من ’ديسمبر‘!

مصعب وليد

2015 / 12 / 23
الادب والفن


"إسبريسو" وبعض من "ديسمبر" يكفي لأن أقوم! هذا ما ورد في كثير من الصُحف الصباحية التي تُجمع على أن إقامتي تكون في "ديسمبر" في الأيام الأخيرة منه، وذلك كما أصر برج "الحمل"؛ عاطفياً، فكل مشاعري سوف تدخُلُ نطاق اللاسلبية وتعود الأمور الى أيام المراهقة الفذَّة، والحُبُ مُنذُ "آذار" سيكونُ خصباً بالنسبة لي ولعشيقتي التي لم يُحددها الحظُ لي. أما من الناحية المهنية، فحسبما أقرَّ ذاك البُرج، سوف ألعبُ دوراً بارزاً في وظيفتي التي رفضها كل أصحاب رؤوس الأموال، وذلك لأن لحيتي تُشابه لحيةَ أبي والتي ورثتها، بصفةٍ خاصة، ولم أرِث عنه، بشكل عامٍ أيُّ أمرٍ قد يفيدني في الحياة الأُخرى. الأمرُ الأهم، في هذا الشهر، سأكون ناجحاً بشكلٍ لا يُوصف مهنياً. أما من ناحية الحظ، يا للأسف، لم يَكُن لي في "ديسمبر" مكان، في الخامس والعشرين من هذا الشهر، الحظ يستثنيني!
في اليوم الخامس من شهر "ديسمبر"، يُصادف أولى تجاربي العاطفية: أقضي وقتي في مكانٍ تصوره لي أحد الرسامين الإنطباعيين الهولنديين من القرن التاسع عشر؛ الأمطار على أهبة إستعدادٍ مبالغ فيه كما أرى من خلال نافذة المقهى— المقهى الذي نستمتع فيه حالياً يشبه المقهى الذي رسمه الفنان الإنطباعي "فان غوخ" في لوحته التي كان ينقصها عدة قطراتٍ متساقطة من السماء كي يكون إنعكاسها منحصراً بين الأزرق اللَّيْلي والأضواء البرتقالية المائلة للإصفرار حتى تكتمل القصة بغموضها — أخرجتُ الجريدة من معطفي، تناولت علبة الثِقاب وعلبة سجائر حديثة الشِراء، محاولةً لأن أكون "كلاسيك"؛ وطلبتُ من النادل أن يُحضر لي "نيسكافيه كلاسيك" خلعت المعطف وجلست؛ ذوبتُ قطعتين من السُكَّر في الفنجان وكانت في جواري؛ قالتْ، بفصاحةِ لغةِ الحُب العامة في صوتٍ لا يُشابهه أي صوت، بصيغة أمرٍ ساكنه الحُب: "غنيلي!"
أبدى عقلي تفسيراً منطقياً لما حدث، فالأمر بجوهره مزيج من الوصف أو الإغتراب، ربما الإهتمام أو الإضطراب؛ قد يكون الجنون ومزيجاً من الضعف والهزل أو الإفتتان، قد طغى عليها... فإقتَرَبت؛ شَرِبَتْ من الفنجان، توالت الأفكارُ في مُخَيِّلَتِها حتى فارقت الحقيقة لوهلةٍ لم تعرف أين؛ إقْتَرَبَتْ أكثر، وكنتُ جالساً بهدوء أُطالع الجريدة، أبْعَدَتْ بطريقة أنثوية بعض الدُخان الذي تسلل من فمي وحدقت في كلتا عيني، ومرَّ النسيم من بين يديها، ولاحظتُ أن السماء قد بالغت جداً في نواياها... تناولت المعطف... تركتُ الجريدة ونصف سيجارة مشتعلة خلفي، ولم ألاحظ أنني تركت شوقاً معلقاً وحيداً ورائي... خرجت من المقهى الى الزِحام بين الناس والأمطار، وغبت في سماء اللَّيْل بحدوده الزرقاء...؛ دليلاً على أن توقعات البُرج كانت خاطئة ولم تَكُن في صالحي، وكانت تلك اللحظة المرحلة الأولى لتصنيفي ضمن قائمة "الإنطباعيين" قليلين الحظ.
في العاشر من "ديسمبر"، خَرَجتُ من المرحلةِ العاطفية بصفر مقابل واحد؛ النتيجة واضحة في قواعد العاطفة تبعاً لـ"نظرية اللعبة": الحظ يُحدد الخاسر، والرابح لا بُدَّ أن يكون ليس أنا بالضرورة؛ ففي الحَظ، تتراوح أفكاري بين منطلقين من الناحية الفلسفية؛ الشر في فكر "هوبز"، والخير في فكر "لوك". وأميل بالضرورة الى دمج الإثنين، وإن تعذر ذلك، أختارُ الأول.
كان هذا اليوم مهماً بالنسبة لي، فقد كُنتُ على موعدٍ تقليدي، رغم أنني كنت أُفضل المواعيد التي لها أساسٌ معرفي أو عاطفي، كي أكون صريحاً. كان المنزلُ فارغاً، والجدران كانت مليئةً بالكتابات الفارغة إلا من إقتباساتٍ لفلاسفة لم يعاصروني، وطاولة الكتابة كانت في حالةٍ فوضوية حيث كان واجبي المُعتاد يقضي بإعادة الأوراق المبعثرة الى مكانها المناسب قبل مغادرتي طاولة الكتابة. أنهيتُ ما قد بدأتُ به خلال دقائق قليلة. لبستُ بدلةً كلاسيكية وجلستُ أمام شاشة التلفاز؛ أخرجتُ من جيبي هاتفي الذي يسهُلُ حمله وفتحت تطبيق "واتس آب" منتظراً إتصالها بالإنترنت.
بِحُكم العصر الذي أعيش فيه، قُمتُ بجولةٍ تفقدية لصورتها الشخصية على "واتس آب"؛ حيثُ أقوم بإطلاق أحكام مُسبقة لشخص الطرف الآخر، قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، فالتخمين، أولاً وأخيراً، ليس بخطيئة. أنظرُ بشكٍ الى صورتها وأُدرِكُ منذ اللحظة الأولى بأن نظرة واحدة لا تكفي للوقوع في الحُب. أنهيتُ الموعد قبل بدئه بلمسة خفيفة على زر إطفاء الـ"واي فاي"؛ خلعتُ البدلة وإستبدلتها ببيجامة، ثم هيئت نفسي لنومٍ عميق.
في الخامس عشر من "ديسمبر" صحوتُ متأخراً من النوم. شربتُ فنجان "إسبريسو" بكميةٍ لا بأس بها من الكافيين، وعندما شعرتُ بوجعٍ في رأسي قررتُ أكل قطعةٍ من الشوكولاتة. كُنْتُ حينها أُخطط للعبة "شطرنج"؛ كان الأمر الأهم، في إعتقادي الخاطئ، أن أُحافظ على الملك من حصارٍ قد إقترب. هاتفني صديقي من هاتف بيتهم الأرضي، وحسم موعد اللعبة في الخامسةِ إلا رُبع مساءً.
كان موعدنا يوم الزينة في الخامسةِ إلا رُبع، وأضفتُ شرطاً بأن يُحشرَ الناسُ شاهدين على هذه المعركة. لم أخطئ منذُ البداية، فتأخير موعد اللعبة قد يكون في صالح الخصم، لذلك تفاديته دون تفادي المعركة.
قد لا يكون للحظ الدور الأبرز في هذه اللعبة... صديقي الذي إعتاد ممارسة هذه اللعبة منذ نعومة أظافره لم يعتمد الحظ يوماً إنما أخذ الحيطة والحذر من الأماكن التي قد يختبئ فيها الخصم؛ وكانت مقولةً واحدة تتردد على لسانه: "سوف تكون المصيبة الكُبرى في المكان الذي لن تتوقعه!" أما أنا فكُنتُ أعتمدُ أساساً واحداً في هذه اللعبة، وهو في إعتقادي الأهم: التخلص من الملك وعدم التفريط بالبيادق الكادحين!
بدأت المعركة في تمام الساعة الخامسة، وكانت كل حركاتي على رقعة الشطرنج تستوجب عدم التفريط بأي بيدقٍ واحد... فتحتُ المجال لخصمي كي يُخلصني من وزيري في المرحلة الإبتدائية من وقت الحرب، ثم فتحت له المجال كي يخلصني من الملك بحصاره من كل الجهات، وبذلك أحرزت فوزاً ثورياً بالتخلص من الوزير أولاً والملك ثانياً دونما التضحية بواحدٍ من البيادق. بتلك النهاية حقق الخصم، في إعتقاده خسارةً لي، وحققتُ فوزاً بالتخلص من الملك الطاغية.
يا صديقي الذي تخلصت من "ملكي"، أن لا تكون "مُلك" أحد فهذا ليس بيدك، لكن أن يكون تحريكك مساعدةً لإنتصار من لا يستحق، فهذا بيدك. وأدليتُ بتصريح مُهم: إن الصعود الى القمة يقتضي البطء أولاً ثُم التفريط بمن لا يستحق البقاء، ثم إبتسمتُ وأفقدتُ "المُنْتَصِرَ" لذة الفوز، على حد تعبير وليام شكسبير!
في العشرين من "ديسمبر"، تذكرتُ توقعات الراصد الجوي لأمطارٍ مُحتملة في هذا اليوم يصحبُها غيومٌ سوداء متثاقلة؛ أما حاكم المجالات السماوية فتخميناته كانت تصُبُ في إنعدام الثقة بيني وبين أصدقائي المُحتملين في مثل هذا اليوم، أما الحاكم الذي يعتلي عرش الشمس فقد أصر على تقديم مساعدة أخلاقية تُفضي بأن يكون الجو دافئاً نسبياً وإن كان هنالك إنخفاض في درجات الحرارة.
ما يُحيرني في الأمر أنني حظيتُ بعددٍ هائلٍ من الأحضان التي تُشير بالضرورة الى الحُب في ذلك اليوم، بالتالي إنعدم إيماني بحاكم المجالات السماوية. أما الحاكم الذي يعتلي عرش الشمس، وما أدراكم ما هية ذلك الحاكم؛ لم أكن في حاجةٍ إليه، فالجو كان لطيفاً كما يكون في "آذار". في مثل هذا اليوم، وعدتُ نفسي بأن لا أُتابع الأرصاد الجوية.
في مثل هذه الأيام أستذكر الكثير من الأحداث التي توحي بالضرورة الى إنعدام المسارات التي قد تصل بيني وبين الحظ بطريق، أهمها وأكثرها تفاهةً حادثة الحُب الأولى في حياتي، حيث كانت الأكثر فشلاً... دعوتها لموعد حميمي نكون فيه، بكل صراحة، ثلاثة: ثالثنا الشيطان والبقية أنا وهي؛ تمَّ الموعد بهيئةٍ صحيحة وكانت التتمة شغفٌ بِقُبَلٍ من الشفاه ومزيجٌ من رائحة النبيذ الأحمر، الكابيرنيت بالتحديد. الحدث الأكثر مفاجئة كان في صباح اليوم التالي، حيث وردتني رسالة على هاتفي المحمول نصُها، بإنجليزية مُكسرة وترجمتها الى عربية مُعصارة: "حبيبي، أشعرُ بشيءٍ يتحرك في داخلي، أتعتقد بأنه طفل؟" حينها أدركت بأن الإنسان يحتاج الى عامين كي يتعلم الكلام أما الصمت فيحتاج الى أكثر من خمسين عام!
في الخامس والعشرين من "ديسمبر" نهاية أعوامٍ وبداية عامٍ جديد. في هذا اليوم بالتحديد: وُلِدَتْ الحِكمة؛ تلك التي تظهر لنا على شاشة التلفاز بشخصياتٍ بوليسية بإسم نجمٍ ذائع صيته: "آل باتشينو"، وتلك التي تسير على قدمين في شخصية شيخٍ كهل يرافقه البحر في رواية "إرنست همينجواي"؛ حيث قد يتحول الإنسان الى حُطام ولكنه لا يُهزم أبداً. في هذا اليوم، يُصادفُ الشتاء عيد مولدي الذي لم يَصل المائة عام، ورغبتي في أن أُهدي نفسي ليلةً عاطفيةً مجنونةً أمرٌ مبالغٌ فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل