الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


!!دكتوراه.. للبيع

ياسر العدل

2005 / 11 / 6
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


بمؤهلات تنطع واحتيال وتدليس، اشترى بعض رجال الأعمال والسياسة والكتاب والفنانين، شهادات مضروبة تدليسا بدرجات دكتوراه فى العلم والأدب والسياسة، أوراق يلوون بها ألسنتهم فى شاشات العرض العام، يديرون بها رؤوسهم فى حانات الرقص وشقق اللهو وصالونات الأدب ومعاهد العلم، فعلوا ذلك دون أن يتفحصوا رغبات أمثالى ممن يعرضون للبيع شهادات دكتوراه كبيرة، أصيلة النسب، فاضحة الحمل، عسيرة الولادة.
فى العهد الأول، كان جدى الأكبر فرعونا من أهل مصر، آمن بحب الحياة وحب البشر، لم يشأ أن يجعل إيقاع حياته أساطيرا مقدسة تلوكها الكهنة عند تدبير الصلوات والمؤامرات، ولم يشأ أن يحبس مومياته فى بطون الأهرامات يدوخ ورائها الورثة واللصوص، ولم يشأ أن يترك اسمه نقوشا تبهت على جدران المعابد وظهور الجعرانات، وأصبح جدى الأكبر فرعونا يمد يده المعروقة ويبنى الحياة مع أهل مصر، أنجب قبائل من الآباء، ينقشون حياتهم على رباط الخيل وأجنحة الطير ونياط القلوب، يعاقرون الشمس والماء والطين، يحصدون الزرع ويحلبون الضرع وينثرون ذرياتهم داخل الأرحام.
فى العهود التالية، كان أبى يؤمن أن الحياة أعطته خيرات كثيرة، زوجة وفدانا من الأرض ودارا من طين يعلوها حطب الخبيز، تعجّ ساحتها بخلفة من بنين وبنات وحمار ودجاج وحمام وأرانب، كان أبى حريصا على أن يرد كيد الحاسدين بعيدا عن دارنا، يصبح إلى الشغل قارئا الأوراد والتسابيح، ويمسى إلى الدار حاشرا سراديب جلبابه بما يجلبه لنا من لحم وبلح وسمك وبرتقال، وكانت أمى تخرق عيون الحاسدين على أعتاب دارنا، تنشر فى أرجاء الدار كفوفا خماسية الأصابع مرسومة بالجير والحناء والروث، كانت أمى عرافة تجيد قراءة علامات الجوع على وجوه صغارها من الأطفال والفراخ، وتتحسّس فى الجميع ملامح السّعادة كلما عاد أبى للدار منتفخ الجلباب.
فى طفولتى المبكّرة، كانت الدجاج والبط ضخمة يبلغ حجم الواحدة منها نصف جسدى، تتماوج حولى بحثا عن الطعام وتشاكسنى وسط الدار، فصارعتها عاريا ممسكا بلقيمات خبز ممسوسة بالسّكر تعوّدت أمى أن تلقيها فى حجرى كلما شغلتها عنا أمور غسيل أو طبيخ، أحيانا أنجح فى المصارعة والتهم فتات الطعام مختلطا بالتراب وما علق به من أفواه المهاجمين، وأحيانا ينجح المهاجمون فى اغتصاب طعامى ونقر جسدى، ويفضحهم بكائى كلما حاولت فراخ البطّ نقرى فى أماكن العفّة، من يومها تعلمت مطاردة الدّجاج ومارست كراهية البطّ، لكننى أحببت الأرانب، أرانبنا جبانة لا تشارك فى الصراع، فى الوقت المناسب تراقص أذنها وأنوفها وأفواهها، وتحوّل بكائى إلى ضحكات وحبور.
فى طفولتى المتأخرة، حملت سبات البوص محشوة بالخبز الحاف والجبن القريش والبيض المسلوق، أنتقل من مدرسة إلى مدرسة، ومن قرية إلى مدينة، أدرس الكتب وأحفظ النصوص فى ضوء الشمس وبصيص لمبات الكيروسين، أملأ أحلامى بحكايات قريتنا تنثرها الجدات على حجر القرية كل مساء، كان نجاحى فى سنوات الدراسة غير كاف لإثبات تفوقى بين أقرانى، فحين توطنت البلهارسيا فى أجساد أهلنا يخرجون بعض بولهم دما، أصبحنا أطفالا نملك بطولات خاصة يكسبها كل طفل يتبول أمامنا قطرات أكثر من الدم.
فى معظم شبابى، تصالحت سنوات مع البلهارسيا والانكلستوما وسوء التغذية، وانتسبت سنوات للجامعة أدرس علوما وإدارة وقانونا، وحصلت على شهادات ودكتوراه فى إحصاء الناس وعد الأرزاق، ووجدتنى أشغل منصبا جامعيا أنجب معرفة أروجها بين مئات من طلاب العلم مؤمنا أن بلدى هى كل مصر، وناسها أهلى فى كل دار.
فى شيخوختى المعاصرة، جمعت أوراق شهاداتى، وأحصيت تواريخ جهودى، فعرفت أن أهل مصر يعيشون ثلاثة أمصار، أولها مصر البلد، حيث غالبية الناس يدبون فى حياة فقيرة يسألون الناس اللقمة والهدمة، لا تطعمهم دكتوراه العلم خبزاً أو سكّر، فالعلم يهرب من جوع كافر ولا يبين مع صوت مكتوم، وثانيها مصر المحطة، حيث يعيش أناس قلقون متعددو الولاء يروجون لثقافات ترعى أنانية مصالحهم، انتهازيون يتاجرون فى الأقوات والأفكار والقيم، يحتالون فى محطة سفر ليرحلوا بعيدا عن أهل مصر البلد، وثالثها مصر الكّفر، حيث يسكن مماليك جدد فى كفور مسيّجة وقصور مشيدة، يدلسون الحقائق على الجميع، يعيشون على جوع أهل مصر البلد، ويشجعون انتهازية أهل مصر المحطة.
يا تجار الاحتيال من أهل مصر المحطّة، وأثرياء التدليس من أهل مصر الكّفر، إنى من أهل مصر البلد، أبحث فيكم عن مشترى يملك جاها وسلطة، أعطيه من تاريخى الباهر شهادات مختومة بالميلاد ومحو الأمية والدكتوراه، شهادات تزين طلعته بين الأحياء، وتضيف لجثته ألقابا بين الأموات، أعطية دكتوراه أصيلة لا تطعم بين الجهلاء فما، ولا تكسى بين الفقراء قميصا، مقابل أن يمنحنى بئرا من مال أو بنكا من نفط أو كتبا فى السحر أو نتفا من لحم ابيض، كى أبدو عربى الشأن عظيم السلطة، أتزوّج من ألف فتاة وفتاة ومن ما ملكت أيمانى ومن كل الولدان، أنجب ولدانا وشعوبا وقبائل، تصادر قلوبها مفاتيح كل حرية، وتغلق عقولها أبواب كل علم، وتحشر أدمغتها بنصوص عصمتى وعلاء أمرى بين الناس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية بفرنسا.. ما مصير التحالف الرئاسي؟


.. بسبب عنف العصابات في بلادهم.. الهايتيون في ميامي الأمريكية ف




.. إدمان المخدرات.. لماذا تنتشر هذه الظاهرة بين الشباب، وكيف ال


.. أسباب غير متوقعة لفقدان الذاكرة والخرف والشيخوخة| #برنامج_ال




.. لإنقاذه من -الورطة-.. أسرة بايدن تحمل مستشاري الرئيس مسؤولية